31/10/2010 - 11:02

أمة تقتل أبطالها .. وتسامح العدو ../ سمير كرم*

أمة تقتل أبطالها .. وتسامح العدو ../ سمير كرم*
المسافة بين التسامح مع العدو حتى في قتل أبطال الأمة .. وممارسة قتل أبطالها مباشرة أو بالمشاركة ليست مسافة كبيرة كما قد يتصور بعضنا.

الأمة استهانت بقتل أسراها بدم بارد ودفنهم في مقابر جماعية مجهولة في صحرائها المحتلة ... وعندما كشف ـ إمعانا في تأكيد جرأته علينا ـ السر لم تفعل الأمة أكثر من مجرد الإفصاح عما جرى لان العدو ـ إمعانا في تأكيد جرأته علينا ـ كان هو الذي أعلن «الخبر».

ربما تكون نظمنا الحاكمة قد راهنت على قدرة غير عادية لدينا على نسيان «الأسيّة» ـ وهذا تعبير مصري مشحون بالحزن ومصدره الأسى من ظلم ذوي القربى ـ لكن في هموم الشعوب أموراً تنسى وقد يطول نسيانها لكنها لا يزول ركام النسيان عنها كما أزيل تراب القبور الجماعية عن جثامين الأسرى المغدورين في صحراء سيناء. إنها تطفو في الذاكرة الجماعية من جديد وتطالب بالحساب.
لكن لان الأمة تسامحت في اغتيال أبطالها سريعا ما جاءت مساهمتها في اغتيال بطل.

إذا لم يكن اغتيال عماد مغنية ـ ولا حاجة هنا لألقاب دينية أو عقائدية أو عسكرية أو دنيوية من أي نوع، فهو بطل بدون الألقاب جميعا وأكبر منها ـ اقترابا الى أقصى الحدود الممكنة من المشاركة في قتل أبطالنا بدلا من الاكتفاء بالتسامح في قتلهم، فماذا يكون؟

العدو من جانبه حينما اختار سوريا مسرحاً للجريمة استثنى سوريا ـ من حيث لا يدري ـ من تهمة المشاركة في الجريمة. من حيث لا يدري كشف عن أن المشاركين في الجريمة انما أرادوا كما أراد توجيه رسالة الى سوريا بأن تكف عن الرفض والممانعة. ويقيناً فإن إسرائيل وأميركا ليستا وحدهما اللتين تريدان من سوريا أن تهجر مسار الممانعة والرفض. يريدها أكثر منهما كل نظام عربي حاكم وضع حجر أساس لعلاقة من نوع أو آخر مع العدو.

إن إسرائيل اغتالت مغنية أمر لا يحتاج الى براهين .. بل إن من قبيل الاستهانة بالعقل أن يتشكك أحد في هذه الحقيقة.
لكن من قبيل الاستهانة بالأبطال وبهذا الحث وبخطر ما يجري من تحولات على مسلك الأمة العربية أن لا نعترف بأن ثمة مساحة من التسامح العربي مع هذه الجريمة تصل إلى حدود المشاركة فيها، الأمر الذي يجعل من الضروري التساؤل بجدية بل بصرامة: إلى أي حد شاركت النظم التي تتولى أمر هذه الأمة في الجريمة؟

ليس هذا سؤالا افتراضيا أو رمزيا وليس من قبيل فتح معركة جديدة مع النظم العربية، فالمعارك الثابتة والمستمرة معها كثيرة ولم ينته أمر الحساب فيه بعيد.
إنه سؤال سياسي عملي.. واقعي بأكثر مما يحب الجناة أن يتصوروا.

إن المشاركين المتواطئين مع العدو هم أنفسهم الساكتون عن الجريمة .. يلهون أنفسهم بأشياء كثيرة غيرها تهمهم لأنها تتعلق بمصيرهم أكثر منها في تقديرهم: حالة الكساد التي تهدد الاقتصاد الأميركي، أسعار النفط وما تخبئه نوايا المستهلكين الكبار ومصالح الشركات العملاقة، كيفية مواجهة هجرة الشباب الى الموت في طريقهم الى أوروبا القريبة بحثا عن لقمة العيش، جرعة زيادة أسعار الضروريات: متى تكون محتملة فلا تفجر ثورة خبز ومتى لا تكون فتهدد بنقل السيطرة في الشارع لمن سيطروا عليه فعلا احتفالا بالانتصار الكروي ...

المشاركون المباشرون من النظم الحاكمة: بينهم من شارك في التنفيذ ... والتنفيذ بدأ بنقل معلومات وزارات الداخلية التي تم التنسيق للتأكد منها مع السي.اي. اي. والاف.بي.اي. والموساد.
المشاركون المباشرون: بينهم القادة الذين أصدروا الأوامر العليا بنقل المعلومات عبر قنوات الاتصال الشرعية لكن السرية بين عواصمهم وتل أبيب وواشنطن.

المشاركون المباشرون: بينهم أجهزة المراقبة والمتابعة التي تلقت ونفذت الأمر بترقب نتيجة التفجير الذي أودى بحياة عماد مغنية ... ليقطف سلسلة إنجازات بطولية تعيش على وهجها هذه الأمة التي تخسر ثقتها بنفسها يوما بعد يوم وفي طريقها لان تخسر نفسها نفسها.

المشاركون المباشرون: بينهم كل أولئك المسؤولين في قصور الحكم الذين لم يتساءلوا يوما ـ ولو في أعماقهم دون أن يدري سادتهم الخارجيون ـ كم عماد مغنية في الوطن العربي وكم تبلغ فداحة الخسارة بفقده.

وبينهم ـ لا أدري إذا كانوا مشاركين مباشرين أو غير مباشرين ـ كل أولئك الذين لم يدركوا أن القضاء على عماد مغنية يحرم الأمة من بطل عز فيه الأبطال في أمة العرب من المحيط الى الخليج ... مهما تصور بعضهم إمكان التعويض عنهم بأبطال كرة القدم وكرة اليد الاسكواش.

... والذين لم يدركوا ـ أو أدركوا وأغفلوا ـ أن تغييب عماد مغنية في هذا الوقت ربما يذهب شوطا أبعد لا يمكن من الآن معرفة مداه نحو تحقيق الذي يأمله العدو في عزم هذه الأمة وقدرتها النضالية على النهوض.

إن الجريمة تعكس بكل المعاني والأبعاد المضمون المأساوي الذي ينطوي عليه ما يطلق عليه القوميون بيننا «حال الأمة العربية». هل يمكن أن تكون للأرقام الاقتصادية والمعطيات الاجتماعية والمعلومات (المستوردة دائما) عن حال الأمة أي فائدة أو دلالة اذا لم يحسب وجدانيا ونضاليا وقوميا معنى إقدام الأمة على اغتيال بطل منها، بالمشاركة كان ذلك أو بالتواطؤ أو بالغفلة؟

كلما تصورنا أن حال الأمة العربية ـ إذا لم نقتصر في قياسه على أرقام أرباح النفطيين منها ـ قد وصل إلى مستوى القاع، إلى أدنى نقطة في منسوب الانحدار والغرق نفاجأ بحدث ـ في الغالب كارثي ـ نتبين من خلال الحزن الذي يسكبه فينا أننا «قادرون» على الانحدار أكثر، وكأن تحت القاع قيعانا بلا نهاية.

ماذا يمكن أن نقول الآن عن أنفسنا، عن أمة تقتل أبناءها وتتسامح مع العدو الى أقصى حد وتجد له مبررات دينية وعقائدية وأخلاقية وسياسية أيضا؟ كل هذا بينما العدو يحتل أراضيها ويحتل بالاتفاقات والمعاهدات إرادتها وخرائط مستقبلها. بينما العدو يرغمها على أن تحترم اتفاقاتها السرية معه وعلى أن تضرب عرض الحائط بعوامل الأرض والتاريخ واللغة والثقافة وكأن لا قيمة لهذا كله أمام قدسية الاتفاقات معه.

لماذا يحدث هذا للعرب دون غيرهم؟
هل هو أمر يتعلق بصميم طبيعتنا؟ أم انه يتعلق بتفوق أسطوري في صميم طبيعة العدو؟ أم ان المسائل محسوبة، فكلما تراجعنا عن أهدافنا وقدمنا تنازلات من صميم حقوقنا التاريخية والآنية وهنت قدرتنا وأصابنا هزال الى حد الهزل؟
نصحو في الصباح بعد كارثة اغتيال عماد مغنية لنقرأ: إسرائيل في فزع. هل يمكن أن تفزع إسرائيل من هذه الأمة المتراجعة التي ساهم قادتها في اغتيال بطل منها في زمن بلا أبطال؟
لنكن صرحاء على الأقل في ما يتعلق بمخاوف إسرائيل.
الأمة العربية بحالتها الراهنة لا يمكن أن تخيف الآلة العسكرية المسماة دولة اسرائيل ونستمر في القراءة فندرك أن اسرائيل خائفة من تهديدات حزب الله. وهي تعرفه في وعوده بالواقع والتجربة والألم.

فلتخف إسرائيل نعم ما شاءت لها المواجهة مع المقاومة... فهي تعرف أنها وشركاءها غيبوا عماد مغنية لا طلباً لمستقبل آمن انما انتقاما من ماض نزع الأمن من حياة اسرائيل ان لم يكن من ربع قرن فمنذ ثماني سنوات، وإذا لم يكن فمنذ حرب صيف عام 2006 .

اسرائيل خائفة وفي كل مرة يستبد فيها الخوف تكشف عن أسوأ ما فيها. تسقط أخلاقيا سقوطا مدويا يكشف عن اهترائها الداخلي.
عندما حاولت صحافة اسرائيل تهدئة روع الإسرائيليين بعد الجريمة عمدوا الى إيهامهم بأن «العالم أصبح أفضل» بعد الجريمة، وان إسرائيل أثبتت أنها «لا تزال قوية» أمام القوة العربية الوحيدة التي هزمتها ... إيهامهم بأن غياب مغنية «يحذر كل الآخرين» من رفاق دربه وتلاميذه.

إسرائيل خائفة، ذلك النوع من الخوف الذي يجعلها في أعماقها تتمنى أن تأتي الضربة الانتقامية الآن وليس غدا لان الخوف من الخوف ومن الانتظار يكبدها الكثير.

إسرائيل خائفة لأنها عندما قررت تنفيذ جريمتها كانت تعلن أنها غير معنية بمصير أسيريها لدى حزب الله. وخوفها دفعها لان تطرح في سوق الدعاية نظرية تذهب الى أن ما حدث لم يحدث. لم يكن أكثر من تمثيلية عبقرية ليتمكن مغنية من الإفلات من الملاحقات الإسرائيلية والأميركية لربع قرن آخر. لا تخافوا فعماد مغنية حي وربما شاهد بنفسه التعازي في موته على شاشات التلفزيون.

هذا خوف حقيقي وقاتل .. خوف الى حد الجنون.
ربما لا يعادل خوف اسرائيل الآن سوى خوف الشركاء من أن تفعل ما سبق أن فعلت بهم عندما فضحت أسرارا بينها وبينهم ... أكثر ما يكون في الاتفاقات. وهي يمكن ببساطة في لحظة خوف أو لحسابات خاصة أو لحسابات مجنونة أن تعلن على الملأ هويات من ساعدوها في اغتيال مغنية.

[[[

يبقى أن نقول إن العالم كله مسؤول عن اغتيال مغنية بفعل إسرائيلي بالدرجة الأولى.
نعم العالم كله مسؤول لأنه سمح لإسرائيل مرات كثيرة من قبل بأن ترتكب جرائم الاغتيال ولم يحاسبها ولم ينصب لها المحاكم الدولية ليحكم على قادتها وصانعي القرار فيها ... حتى عندما كانت ضحايا جرائمها من أرفع مستوى دبلوماسي دولي. هذا فضلا عن قادة المقاومة وفضلا عن الأسرى المصريين في حربي السويس وحزيران ـ يونيو 1967 وربما في حرب تشرين الأول ـ اكتوبر 1973 ...

لو أن العالم تحمل مسؤوليته من البداية .. لو استطاع أن يوقف اسرائيل عند حدها وان يحاكم قادتها عندما اغتالت الدبلوماسي الكونت فولك برنادوت ابن شقيق ملك السويد عندما كان وسيط الأمم المتحدة في الصراع العربي الاسرائيلي (اغتالته اسرائيل في 17 ايلول ـ سبتمبر 1948). لكان بالإمكان تفادي آلاف من جرائم الاغتيال التي ارتكبتها اسرائيل منذ ذلك الحين.

عندما يأتي انتقام حزب الله سيكون باسم المقاومة وباسم الأمة العربية وباسم بلاد المسلمين وشعوبها ... انما ايضا باسم العالم، باسم المجتمع الدولي.
"السفير"

التعليقات