31/10/2010 - 11:02

أنقذونا من أوباما: هل بتنا إزاء "مسألة إيرانية"؟../ ورد كاسوحة*

أنقذونا من أوباما: هل بتنا إزاء
قد لا يحبّذ كثيرون وضع إيران اليوم في خانة الضحية (لأسباب تتصل بالأجندة السلطوية العربية)، وقد يكونون محقين في ذلك إذا كان المعيار في عدم تحبيذهم التفريق بين خيارات الشعب الإيراني وخيارات نظامه. لكن المسألة اليوم لم تعد مسألة خيارات سياسية بين سلطة مستأثرة ومعارضة مغبونة فحسب، بل باتت مسألة وجود من عدمه.

يصحّ هذا الأمر على السلطة المحافظة كما على المعارضة الإصلاحية. فحين تغدو الأمة الإيرانية مهددة في وجودها وفي شكل دفاعها عن هذا الوجود، لا تعود مسألة التفريق بين النظام والشعب بالأهمية ذاتها التي كانت لها سابقاً. ذلك أن مقاربة الشأن الإيراني على نحو راديكالي (التفريق بين النظام والشعب) كانت صالحة جداً في الحقبة التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما تلاها من عمليات قمع ممنهج للمعارضة الإيرانية. لكن صلاحيتها شارفت على الانتهاء بعد التطورات «العاصفة» التي شهدها الملف الإيراني مذاك.

فمَن يعرف التاريخ الإيراني جيّداً يدرك أن التباينات على كيفية إدارة الدولة بين الأفرقاء المتنازعين لا تُسحب بالضرورة على تصوّر الأمة الإيرانية لطبيعة التحديات الوجودية التي تجابهها. فعندما يصل الأمر إلى حدّ التلويح باستخدام السلاح النووي ضد إيران (كما فعل أوباما أخيراً) إذا لم تلتزم هذه الأخيرة بشروط «الإجماع الدولي» ضدها تنتفي تلقائياً مشاهد مطاردات الطلبة في شوارع طهران وأصفهان وتبريز، ولا يعود هناك من فرق يذكر بين معارض وموال، ويغدو مفهوماً جداً أن يخرج زعيم المعارضة الإصلاحية مير حسين موسوي بتصريحات أقل ما يقال فيها إنها تنسف كل ترتيبات الحقبة السابقة. تصريحات لو لم ينهِها موسوي بالتذكير بدور ما للنظام في ما يحدث اليوم، لقلنا إنها صادرة عن أحمدي نجاد أو عن المرشد علي خامنئي، لا عن الرجل الذي أطلق «آخر الثورات الملوّنة» في مواجهة سلطتهما الدينية ـ العسكرية. ومما قاله موسوي: «الأمة الإيرانية بكاملها ستقاوم موحّدة في وجه المخاطر الخارجية، لكنها لن تنسى من هو، في داخل البلاد، مسؤول عن هذا الوضع».

ليس غريباً والحال كذلك أن تطوى ولو مؤقتاً (كما في لبنان) شعارات المرحلة السابقة، ويعود العلم الإيراني «ليحتلّ» الحيّز العام بعد انسحابه لمدة أمام هجمة الرايات الخضراء. لكن لنتمهّل قليلاً ولنراجع الجملة السابقة أكثر من مرة. فالكلام هنا هو عن «احتلال» للحيّز العام، أي عن عودة قسرية، والقسر هو فعل مكروه بالفطرة. ومن يظنّ أن هذه العودة دليل عافية، فعليه أن يراجع حساباته. فكما أن هيمنة «الثورات الملونة» (رمزياً طبعاً) في الحقبة السابقة كانت إشارةً إلى خلل في ترتيب الأولويات وفي مقاربة السياسة الأميركية (عبر الانبطاح أمامها)، كذلك فإنّ عودة «الدول الوطنية» إلى إشغال الحيّز العام بالأساليب العنفية نفسها لا تدعو إلى التفاؤل.

صحيح أن هذه العودة قد أجهزت «تماماً» على المشاريع الكولونياليّة التي أعدّت للمنطقة، إلا أن الشكل القسري الذي ارتدته حرمها من إمكانية تحصين إنجازها الأنتي الكولونيالي. والتحصين يكون باستعادة المشروعية الأخلاقية التي فقدتها إيران ـ النظام عندما ردّت على العنف اللفظي «المشروع» بعنف أمني غير مشروع وساقط أخلاقياً.

اليوم تغيرت المعطيات تماماً، وأهال باراك أوباما في مؤتمره الأخير «لمنع الانتشار النووي» أطناناً من التراب على هذه السجالات البينية في إيران. لقد قدّم الرجل خدمة لا تقدّر بثمن للنظام الذي يحاول أوباما نفسه حشد العالم في مواجهة «طموحاته النووية».

قد يلتبس الأمر على البعض للوهلة الأولى، وقد يذهب آخرون إلى استبعاد وقوع رجل ذكي كأوباما ومن ورائه النخبة السلطوية الأميركية في خطيئة مميتة كهذه. لكن الخطيئة وقعت وهي مميتة فعلاً. يبدو أن التفسير الوحيد لهذه الحماقة الجديدة هو أن الغرب قد استنفد تماماً عدّة شغله في مواجهة الصعود الإيراني. فقد جرّب الحرب بالواسطة (الحرب الإيرانية ـ العراقية) ولم تنفعه، ولجأ إلى الحصار والعزل فلاقى فشلاً ذريعاً، ثم عاد مجدداً إلى حروب الواسطة (حربا تموز وغزة) وأخفق كالعادة. لذا لم يبق لديه إلا أن يشهر حلّه الأكثر فتكاً: التهديد النووي.

وليس هناك من يقول لهذا الغرب المتحاذق إن إيران اليوم ليست اليابان عام 1945، ولا كوبا عام 1962، ولا حتى العراق عام 2003.

لم يعد الغرب الرأسمالي يملك حلولاً لأيّ من النزاعات. والذرائع التي كان يتلطّى خلفها لتسويغ تدخلاته في دول الجنوب افتضحت، ولم تعد كما كانت من قبل سلعاً للترويج والاستهلاك السهلين. لقد بات الناس هنا يسمّون الأمور بأسمائها. والأسماء التي باتت ماركة مسجّلة للولايات المتحدة وحروبها في منطقتنا هي الآتية: عدم الاكتراث لضحايا آلة الحرب وتسجيلهم تحت خانة «أخطاء جانبية»، الكذب الاستراتيجي، النفاق اللأخلاقي، احتقار الثقافات المحلية لشعوب الجنوب... الخ.

إذا كفّت دعاية «الحروب الأخلاقية» عن كونها «امتيازاً» لحضارة الرجل الأبيض، سواء كان هذا الرجل نازياً أم فاشياً أم أميركياً أم إسرائيلياً، ففي النهاية كلّهم في الجريمة سواسية. ولحسن الحظ لاقت جريمتهم من يرفع قبضته في وجهها، ويجعل من التشهير بها مسألة تحظى بإجماع الأحرار في العالم (وهذا مختلف عن «الإجماع الدولي» الهزيل!). ولنتذكّر قليلاً بعضاً من هذه المسائل التي خلقتها حماقات الرجل الأبيض:

جرائم النازية أفضت إلى تمكين «المسألة اليهودية» (مع أن وجودها سابق على الحرب العالمية الثانية)، جرائم إسرائيل أفضت إلى ولادة «المسألة الفلسطينية»، حرب أميركا التدميرية على العراق أفضت إلى نشوء «المسألة العراقية»، واليوم يرجّح كثيرون أن تفضي العقيدة النووية الجديدة في أميركا إلى استواء... «المسألة الإيرانية»! وهنا السؤال الفعلي: هل بتنا حقاً إزاء «مسألة إيرانية»؟ طبعاً، الجواب عن سؤال ملتبس كهذا لن يكون بنعم قاطعة أو بلا قاطعة. فأوجه الشبه بين الحالتين الإيرانية واليهودية (على اعتبار أن المسألة اليهودية هي الأكثر تكريساً في العالم اليوم) ليست كثيرة، وكذا حجم الاضطهاد وعدد الضحايا. فاليهود الذين سيقوا مكرهين إلى أفران الغاز النازيّة لا يشبهون في شيء الجنود الإيرانيين الذين قتلوا على الجبهات في الحرب مع العراق، ما يعني أن إيران تحتاج إلى كثير من العمل على «مفهوم الضحية» حتى تصل إلى المكان الذي وصلت إليه إسرائيل (بوصفها أيقونة ضحايا القمع!).

وكبداية، لا بدّ لها من تجاوز هنّات أحمدي نجاد الشعبوية، وتنظيم احتجاجها على سياسات واشنطن العدائية على نحو أكثر فعالية. والمفارقة هنا تكمن في كون أميركا هي المساعد الأكبر لإيران في تسويق سياساتها الأنتي ـ أميركية. وهذا يعني أن إيران نجحت إلى حدّ ما في استدراج الولايات المتحدة إلى فخ الشعبوية القاتل. فكما يحشد خطاب أحمدي نجاد المعادي لليهود بوصفهم يهوداً العالم ضد إيران، كذلك تفعل أميركا اليوم حين تتوسّل خطاباً مماثلاً ضد إيران. خطاب يعادي إيران الشعب والأمة لا إيران النظام فقط. ذلك أن التحريض المتواصل على إيران حرم حتى خصومها الأقربين من ورقة التشهير بنفوذها المتمدّد في المنطقة.

ومن يراقب اليوم الإشارات الصادرة عن دول الخليج يلحظ كم تراجعت حدة انتقاداتها لإيران وتدخلاتها في الشؤون العربية. وكما على المستوى الرسمي، كذلك في الإعلام الذي يسوّق لهذا المستوى. يكفي أن يتابع المرء عناوين الأخبار في محطة مثل «العربية» حتى يدرك أن الوضع الداخلي الإيراني كفّ عن كونه الخبر الأول على شاشتها كما كانت عليه الحال أيام المراهنة على سقوط النظام في «الشارع الأخضر».

وحده شبح الحرب يجمع ما لا يمكن جمعه، ويوفّق بين المتناقضات، ويرحّل التباينات ولو إلى حين. فضرب إيران نووياً أو بالصواريخ لن يعود على مجالها الحيوي (دول الخليج والعراق وتركيا) إلا بالخراب، وعندها لا يمكن هذه الدول أن تسكت حتى على رعاتها، وهم ذاتهم أصحاب القواعد العسكرية على أراضيها. هكذا لا يعود ممكناً استبعاد السياق الذي يضع إيران في موقع الضحية. ويغدو من المستحيل على خصومها تظهيرها بغير المظهر الذي دفعتها إليه حماقة باراك أوباما وإدارته. هذه الحماقة دفعت مثلاً برجال دين محافظين في إيران إلى إطلاق تصريحات لم يكن أحد ليلقي لها بالاً لو قيلت قبل أشهر ، لكنها اليوم وفي سياق الاستراتيجية النووية الجديدة واستثناء إيران وكوريا الشمالية من حظر استخدام السلاح النووي ضدهما باتت ترتدي رمزية مضاعفة. فقد وصف إمام جمعة طهران المؤقت كاظم صديقي تهديد أوباما الأخير لإيران «بالحماقة الكبيرة»، وأضاف: «إن لدى أميركا تاريخاً مخزياً في استخدام القنابل النووية، وبما أن أيديها ملطخة باستخدام الأسلحة النووية، فهي لا تملك الحقّ في منع الآخرين من استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية». انتهى الاستشهاد بكلام الشيخ صديقي وبدأت علامات الوجوم بالارتسام على وجوه أتباع أميركا في المنطقة.

ثمّة من رفع في إيران قبل أشهر من الآن شعارَي «لا للديكتاتور» و«أنقذونا من أحمدي نجاد»، هل من يرفع اليوم شعار «أنقذونا من أوباما»؟
"الأخبار"

التعليقات