31/10/2010 - 11:02

إسرائيل والمتغيرات../ عبداللطيف مهنا

إسرائيل والمتغيرات../ عبداللطيف مهنا
"إن الزمن لم يعد يعمل لمصلحة إسرائيل" بهذا التحذير اختتم يوسي بيلن حياته السياسية، مودّعاً ومودعاً الكنيست رؤيته المتشائمة هذه... أهمية مثل هذا الإنذار البيليني أنه يأتي من رجل مثل بيلن، الذي كان يعد واحداً من قادة حزب العمل قبل أن يقود ميرتس، بل ومن مصاف رموزه من مثل شمعون بيريز وإسحق رابين. ولكونه واحداً من مهندسي اتفاقية أوسلو، والمشارك كوزير مع إيهود باراك في مفاوضات كامب ديفيد الثانية. ثم كيف لنا أن ننسى الوثيقة الشهيرة المعروفة بوثيقة بيلن-أبو مازن، واستطراداً دوره في صياغة وإخراج المسماة "وثيقة جينيف"، وكل الجهود الخفية التي استدرّت المزيد من التنازلات الفلسطينية الكارثية.

سبق هذا التحذير تحذير آخر، أو وصية وداعية هي الأخرى، كانت من مجبر على الرحيل مستقيلاً، أي مرغماً لا مختاراً كبيلن، هو رئيس الوزراء إيهود أولمرت، عندما صارح الإسرائيليين قائلاً: إن "حلم إسرائيل الكبرى قد ولّى"...

هذه التحذيرات، والتي لا يقتصر إطلاقها فقط على بيلن وأولمرت، تترافق مع تهديدات "متعجرفة" وفق التوصيف الإسرائيلي نفسه، تعد باستخدام "القوة غير التناسبية" ضد أعداء إسرائيل من عرب الممانعة والمقاومة، وآخرها التهديدات الموجهة ضد غزة، مثل التلويح بالخطط العدوانية "المصدّقة"، من مثل "نظرية الضاحية"، أو تطبيق ما يعرف "بعقيدة باراك" وزير الحرب راهناً، وزعيم حزب العمل، والذي يطلق عليه رون بين ياشاي "القبطان الأمني"، و "القيصر الأمني"، الداعية إلى استخدام "القوة غير التناسبية" المشار إليها.

هذه التحذيرات التي تعكس إحساساً بالمتغيرات التي تطرأ على الواقع الإسرائيلي والإقليمي والدولي، والقلق الوجودي الناجم عن اصطدام المشروع الصهيوني بحقائق المنطقة تاريخاً وجغرافيا، وكذا تهديدات الجنرالات "المتعجرفة" التي يسخر منها المعلقون الإسرائيليون قبل غيرهم، اللذين يعتبرونها محاولة إخفاء إحباط يعم المستوى العسكري الإسرائيلي بعد المستوى السياسي سببه وصول القدرة العسكرية الإسرائيلية الجبّارة حدودها، واصطدامها بما يسميه الإسرائيليون "الاستنزاف حتى الخراب" في مواجهة إرادة المقاومة العربية. أمور هي مدعاة لتخبط إستراتيجي في نظر المحللين الإسرائيليين أنفسهم... تخبط، يرى محلل مثل رون بين ياشاي، الذي مرّ ذكره، المقدم السابق في الجيش الإسرائيلي والمستشار الإعلامي والعسكري للرئيس الإسرائيلي، يتأرجح بين "عقيدتي" أولمرت وباراك، مضيفاً لهما ثالثة هي "عقيدة ليفني"، التي يرى أنها مزيج من الاثنتين، وهنا يجدر ذكر ما قالته صاحبته مؤخراً، وهو أن وصول نتنياهو والليكود إلى السلطة، وهذا ليس ببعيد في المناخ الإسرائيلي المتحفز للانتخابات المبكرة المنتظرة، سيكون سبباً فيما دعته ليفني "تدهور إسرائيل"...

ترى ما هو الكامن وراء تحذيرات بيلين ووصية أولمرت، ومخاوف ليفني، وتهديدات باراك وصراخ جنرالاته؟!ما سر هذا "الإحباط" أو ازدياد منسوب القلق الوجودي الإسرائيلي، الذي إن كان هو سمة تلازم الكيان منذ إيجاده فإن وتيرته قد ارتفعت بشكل غير مسبوق هذه الأيام، إن لم نقل في العقد الأخير إجمالاً؟

إنها جملة من الحقائق، في مقدمتها فشل الهدف الإستراتيجي الرئيس للمشروع الصهيوني القاضي بتغييب الوجود الوطني الفلسطيني، أو إبادته سياسياً ونفيه ديموغرافياً، وتحويله إلى مجرد قضية لاجئين، للتمكن من تهويد كامل فلسطين، وتحقيق المقولة أرض بلا شعب لشعب بلا وطن المزعومة، التي رفعت ويتم السعي لفرضها منذ أكثر من قرن. فشل تثبته يومياً إرادة الصمود والبقاء والمواجهة والمقاومة، والديموغرافيا الفلسطينية المتشبثة بتراب الوطن في كل خارطة فلسطين التاريخية. أما ما تلا من الحقائق فهي التالية:
أولها اصطدام المشروع التوسعي الصهيوني بحدود قدرته على احتلال المزيد من الأراضي العربية والتمكن من البقاء فيها، حدث هذا عندما أجبرت المقاومة اللبنانية الإسرائيليين عام الألفين، أي في عهد حكومة باراك داعية نظرية "القوة غير التناسبية" نفسه، على الإنكفاء من الجنوب اللبناني اندحاراً لا اختياراً.

وثانيهما، هو ارتطام القدرة العسكرية الإسرائيلية، ذات الجبروت المستمد من جبروت آلة الدمار الغربية والمستند إليها هولاً وتطوراً، بأقصى مداها، حيث عجزت تماماً عن تحقيق استهدافاتها في مواجهة الإرادة العربية المقاومة في لبنان، التي مثلها مقاومو حزب الله إبان الحرب العدوانية العام 2006، والفشل الذي حصدته، والذي ذهب بمستقبل أولمرت السياسي كما هو معروف، بعد حصد رؤوس جنرالاتها.

والثالثة، وهي التي توصلنا إليها أو تذكّرنا بها سابقتيها، هي تبخّر الأحلام الإسرائيلية وتحولها إلى سراب، حيث ظن الإسرائيليون أنها قد تحققت أو قاب قوسين إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد الأولى، والتي أدت إلى إخراج مصر من الصراع العربي الصهيوني، وما تلا هذا الخروج من مجزرة سياسية وانحدار كارثي في الواقع العربي تعيش الأمة العربية تداعياته المرّة إلى يومنا هذا. حيث أثبتت وقائع العقود الثلاثة التي تلت أن روح الممانعة العربية، وإن قلت قلاعها الصامدة، وإرادة المواجهة التي عبّرت عنها المقاومات العربية في فلسطين ولبنان، ومن بعد في العراق، ومستوى التحدي الذي تحلّت به إجمالاً قوى الأمة الحية، أن الصراع مديد، وأن كسر إرادة أصحاب الحق وإضعاف عنادهم في المطالبة باسترداده أمر هو عصيّ على المعتدين وتعجز عنه تعابير "القوّة غير المتناسبة" مهما طال الزمن، ناهيك عن كون موازين القوى ليست بالثابتة، ويوم لك ويوم عليك...

ما تقدم من حقائق تشي بجانب مما قلنا انه الإحساس الإسرائيلي بالمتغيرات الإسرائيلية والإقليمية مدعاة القلق ومكمن التحذير. بيد أن الحقيقة الرابعة أو ثالثة الأثافي بالنسبة للإسرائيليين هي المتغيرات الدولية، التي دقت إرهاصاتها منذ زمن ناقوس الخطر لديهم، بيد أن مستجداتها أربكت وأحبطت الإسرائيليين، وزادت من قلقهم الوجودي، ككيان غريب على المنطقة ومرفوض في بيئتها، تفاقماً... إنه مؤشرات بداية العد العكسي للإمبراطورية الأمريكية المهيمنة على العالم، وأولها تعثر المشروع الأمريكي في العراق المحتل، وبداية إنكفائه الجليّة، والبدايات البائنة لهزيمته في أفغانستان، ثم طوفان الانهيار المالي في "وول ستريت"، أو الأزمة المالية، التي بدأت أمريكية وأصبحت كونية، وسائر عواقب تسليم الولايات المتحدة قيادها للمحافظين الجدد لمدة ثماني سنوات بوشية عجاف اصطبغت بالدماء والحماقات السياسية التي ذهبت بهيبة الدولة القطب الأوحد و القوة الأعظم وأذنت بأفول سطوتها... سطوة كافل إسرائيل وولي نعمتها، ممدها بالحياة والضامن لوجودها، والمغطي الدائم على جرائمها والحامي لسوءاتها.

تقول "هآرتس"، إن "أمريكا الجريحة لن تكون مفرطة السخاء مع إسرائيل" بعد اليوم، وتردف، أنه "من دون الكاوبوي المثير للعصبية والطاغية قاسي القلب" لن يعود العالم بالنسبة لإسرائيل ذات العالم... هنا علينا الانتباه إلى مسألة هي في غاية الأهمية، وهي برسم العرب الذين كادوا أن يخرجوا من ملابسهم فرحاً بانتصار أوباما الانتخابي ووصوله إلى البيت الأبيض:

نعم، قد يكون هذا الحدث على الصعيد الداخلي الأمريكي، هو كما يقول الأمريكان شبه تسونامي تضافرت تداعيات الأزمة المالية وتراكمات الحماقات البوشية فدفعت بأمواجه إلى حيث البيت الأبيض... تسونامي مدعاته الإحساس الأمريكي بوجوب التغيير، حتى وإن جلب هذا التغيير المنشود إلى المكتب البيضاوي ببشرة سوداء، إلا أنه تغيير أرادته المؤسسة، وباركته إدارة هذه الشركة المسماة الولايات المتحدة الأمريكية، أي تغيير جاء بأوباما ولم يأت أوباما به... تغيير لن يمس الموقف الأمريكي الثابت من الحليف العضوي والقاعدة المتقدمة إسرائيل، ولا الموقف الأمريكي التقليدي من قضايا العرب، وعليه فالمتغير على الصعيد الدولي، أو هذا الأمريكي تحديداً، هو ما طال المكانة والقدرة والهيبة الإمبراطورية، وهو إن لم ينج منه الأداء فلن يطال المواقف الثابتة في السياسة الخارجية الأمريكية... والدليل أن أول من اختاره أوباما في إدارته، ككبير لموظفي البيت الأبيض، أي ما سيكون مشرفاً على المرحلة الانتقالية الرئاسية برمتها، هو إسرائيلي، كان والده أحد زعماء عصابة الأرغون الإرهابية اليهودية والذي كان مطارداً مطلوباً لحكومة الانتداب البريطاني على فلسطين، حيث سار الابن على درب أبيه فأدى الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يصبح مستشاراً لكلينتون، هو راحم عمناويل... ثم يأتي دور ريتشارد هولبروك، ودينيس روس و مارتن اندك... وباقي ذات العصابة إياها التي تستعد من الآن لدخول البيت الأبيض ابتداءً من إطلالة العام المقبل!!!

التعليقات