31/10/2010 - 11:02

استدراج يهود العالم إلى دولة عنصرية../ محمد خالد الأزعر

استدراج يهود العالم إلى دولة عنصرية../ محمد خالد الأزعر
تتزايد باطراد مساحة الأخبار والتعليقات الموحية بأن يهود العالم، الأوروبيون منهم خاصة، مهددون على خلفيتهم الدينية أو أصولهم «السامية». ويتحمس مسؤولون إسرائيليون للإضاءة بقوة على هذه الظاهرة وتضخيمها. وفي استغلال مكشوف لمناخ ما بعد11 سبتمبر فإنهم ينسبونها إلى «الإرهاب الدولي» الذي تضطلع به الجماعات الإسلامية «الجهادية المتطرفة».

وكأن الفتنة الفكرية الثقافية، التي تعمقت غداة ذلك اليوم ما بين شقين كبيرين من المنظومتين الحضاريتين، الغربية المسيحية والعربية الإسلامية، بحاجة إلى مزيد من الزيت!. تأجيج هذه الفتنة وما يترتب عليه من تعقيد الحوار بين هاتين المنظومتين، لا يفسر وحده التركيز الصهيوني الإسرائيلي على ما يدعى بتجدد «اللاسامية».. التفسير الأبعد غوراً يتصل بإعادة تنشيط مفهوم هجرة اليهود إلى إسرائيل، بصفتها الملاذ الآمن والحل النهائي من غوائل موجات الاضطهاد المحلقة فوق وجودهم باستمرار.

ويحظى هذا التفسير بمقبولية كبيرة عند ملاحظة التزامن الكامل بين حديث «اللاسامية المتنامية» والدعوة المتكررة ليهود أوروبا بالمغادرة إلى إسرائيل. فالدوائر الصهيونية الإسرائيلية لا تكتفي بالتوصيف السيئ لأحوال اليهود في مواطنهم «الأصلية» والعمل على تعليق مشاكلهم بذمة وضعهم الديني العرقي المتفرد بزعمها، وإنما تمضي إلى اقتراح الحل الذي تفضل وتريد، وهو الهروب إلى «جنة الدولة اليهودية»!.

عرض المشكلة اليهودية وحلها على هذا النحو تقليد صهيوني قديم، نشأ مع إرهاصات الصهيونية السياسية. بيد أنه لم يلتزم بالفجاجة والوضوح ذاتيهما في كل الأوقات. ففي بعض المراحل اتسم هذا العرض بقدر من التمويه والتخفي، بحيث اعتمدت دوائر الهجرة والاستيطان الصهيونية مبدأ مداراة نواياها الحقيقية من وراء إثارة أوضاع اليهود غير السوية بنظرها. وراحت في الوقت ذاته تزين فكرة الخلاص اليهودي عبر الانتقال إلى إسرائيل، الأرض الموعودة.

غير أنها نبذت هذا المبدأ في مراحل أخرى وروجت بشكل صريح لمفهوم الهجرة. وغالباً ما كانت محفوزة إلى هذه العلنية بهواجس أو مخاوف منها ضعف الميل اليهودي إلى هذا المفهوم والرغبة في تجديد دماء فكرة الانتماء «القومي» الواحد لليهود.

وفي كل الأحيان، كانت الدعوة إلى الهجرة تؤدي وظيفة تعبوية مزدوجة: فهي تشحذ تضامن اليهودية العالمية مع إسرائيل، وتشد العالم الغربي بالذات إلى فكرة اليهودي الضحية شاغلة إياه عن فكرة إسرائيل الجلاد. الدعوة التي يتبناها مسؤولون إسرائيليون لتنشيط الهجرة اليهودية في الوقت الراهن تتسق مع هذا التحليل، إذ يتصور هؤلاء أنهم يحملون لواء إعادة تفعيل الايديولوجية الصهيونية وقضيتها الأساسية، إحياء القومية اليهودية.

ومن المعلوم أن عملية كهذه لا تستوي على سوقها بدون تغذية الدولة اليهودية بالمهاجرين وتوسيع الاستيطان اليهودي في «أرض إسرائيل». وبفجاجتهم المعهودة، لا يتورع هؤلاء عن استغلال أية واقعة تشتم منها إساءة لليهود في أي مكان، كي يستحثوهم للقدوم لإسرائيل، المتحرقة لصيانة أمنهم وهويتهم ووجودهم القومي! لكنهم للحقيقة لا يطلقون صيحتهم بشكل حماسي، وإنما يتحركون عن مخطط محكم في هذا الإطار.

فقبل توجيه ندائهم إلى اليهود الفرنسيين مثلاً في صيف 2002، كانت آلة الدعاية والإعلام الصهيونية الإسرائيلية قد كثفت قراءتها الخاصة لما يتعرض له هؤلاء اليهود من مضايقات. وهي روجت استخباريا لأن «فرنسا تشهد أكبر عدد من الهجمات ضد اليهود». ثم جاءت واقعة حرق السفارة الإسرائيلية في باريس (يونيو 2002) كي تعزز من طرف خفي صدقية هذه القراءة.

ومن وجهة نظر تستحق التأمل، فانه لا ينبغي استبعاد دور الأيدي الصهيونية الإسرائيلية في افتعال المشاكل من حول التجمعات اليهودية التي يراد بها المغادرة إلى إسرائيل، لاسيما أن هناك سوابق تشهد بهذا الأسلوب عرفها يهود العالمين العربي والإسلامي من قبل. ذلك أن الأزمات التي تحيط بهذه التجمعات، مفتعلة كانت أم طبيعية أم طارئة لسبب أو آخر، تشكل بيئة مناسبة لانتعاش المقاربة الصهيونية لقضية الهجرة والاستيطان.

إن الصهيونية بمقاربتها هذه تكاد تنفرد بطرح حلول انسحابية أو انعزالية للأزمات التي تتعرض لها المجتمعات التعددية، وهي بذلك تميز الجماعات الوطنية التي تدين بدين معين (اليهودية هنا) داخل مواطنها الأصلية. المجتمع الأرجنتيني على سبيل المثال، يضم في تضاعيفه جماعات مختلفة الأصول والأعراق والديانات والأوعية الثقافية، التي تعود جذور بعضها لدول العالم القديم. لكن عندما تعرضت الأرجنتين لأزمة اقتصادية قبل بضعة أعوام، لم تقم واحدة من هذه الدول باستدعاء جماعتها وحثها على العودة «للوطن الأم». الصهيونية وحدها فعلت ذلك!

الملاحظة ذاتها تصدق على المعالجة الصهيونية لما يدعى بأزمة يهود فرنسا. فالفرنسيون من أصول عربية وإسلامية يواجهون أحياناً بأعمال عنف وظواهر شبه عنصرية معادية..غير أن دولهم الأصلية لم تدعهم إلى الحل الهروبي الذي ينطوي عليه السلوك الصهيوني الإسرائيلي.

يزعم الصهاينة أنهم بإلحاحهم على قضية هجرة اليهود إلى مستودعهم الاستيطاني، إنما يقدمون حلاً مريحاً لإشكالية أوضاع اليهودية العالمية القلقة. غير أنهم في حقيقة الأمر يسهرون على تعزيز مظاهر العنصرية في الأوطان والدول التي تضم يهوداً. اليهود في هذه الدول مواطنون بالأصالة ينالهم ما ينال مواطنيهم الآخرين من هموم وقضايا، ومن شأن التمييز الذي يعنيه الموقف الصهيوني تنمية الهواجس والشكوك تجاه ولاء القطاعات اليهودية. وكان بعض عقلاء اليهود قد انحازوا إلى هذا التقدير منذ تسيست الدعوة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر. ومنهم من نبذ هذه الدعوة واستسخفها، وطرح استمرار عملية اندماج اليهود في أوطانهم ومشاركة مواطنيهم النضال الديمقراطي.

الشاهد أن المحرضين الصهاينة على تهجير اليهود من دولهم الأم، لا يعبأون بالتداعيات الكارثية لهذا النهج، سواء بالنسبة للمجتمعات التي تضم يهوداً بإثارة النزعات العنصرية داخلها، أو بالنسبة لليهود الذين يتعاطفون مع دعوة الهجرة عندما يتحولون إلى وقود لحروب إسرائيل التوسعية. ومن المؤكد أن هؤلاء الأخيرين يصبحون بعد هجرتهم تروساً في آلة عدوانية ضخمة لا قلب لها ولا ضمير.

من المفهوم أن للعرب مصلحة يقينية في الإضاءة حول هذه التداعيات، وكذلك في بيان وتجلية الأبعاد والمضامين الخطيرة التي تنطوي عليها قضية هجرة اليهود إلى المستوطن الصهيوني بالنسبة للأمن والاستقرار خارج دائرة الشرق الأوسط.

لقد اعترفت الأوساط الاستخبارية الإسرائيلية أخيراً بأن الحروب الإسرائيلية العربية قد انتقلت بأصدائها إلى المجالين الأوروبي والأميركي.

ومما ذكر في ذلك أن «هذين المجالين يشهدان تصاعد البغضاء ضد العرب والمسلمين، بل وضد اليهود. علاوة على الكراهية والاحتكاكات المتبادلة بين هذه الشرائح الأخيرة». وتقديرنا أن هذه الأصداء السلبية مرشحة للتفاقم، وإذا ما تمكن العرب بجهد إعلامي ثقافي دبلوماسي حثيث من التعريف بها، فسوف يجدون أنصاراً في الرحاب الغربية عموماً، يشاطرونهم مقاومة هذه الدعوة المسمومة.


"البيان"

التعليقات