31/10/2010 - 11:02

الإقتصاد في الإنحراف/ د.عزمي بشارة

الإقتصاد في الإنحراف/ د.عزمي بشارة
ما زالت هيمنة الامبراطورية الأمريكية تضع قوالب للسلوك السياسي في عالمنا، حتى بدا طبيعيا أن يفترض أن يختزل العربي في بلادنا إلى داعم لشارون ضد من هو أكثر يمينية، أو داعم لجناح في حزب العمل ضد جناحٍ آخر، في مرحلة تتلخص بموجب قواعدها المَهمة التاريخية لهذا الحزب في دعم شارون ضد خصومه من اليمين الأكثر شارونية من شارون.

ويستطيع العربي الذي يرى كيف تنهب القدس من تحت أرجله أن يعزي نفسه أنه غير مضطر إلى اتخاذ قرارات المواطن العراقي السياسية اليومية بشأن ذهاب إبنه أو إبنته إلى المدرسة، أو أن يفرح أنه لا يحتاج إلى اتخاذ قرار لمن سوف يصوت في الانتخابات اللبنانية. خيارات المرحلة الأمريكية كوجه المرحلة. ولكن لا حاجة لمرارة نصف الكأس الفارغ، فالمرحلة الأمريكية تعرض خيارات أخرى على من لا يريد أن يحصر إهتمامه بالسياسة أو بخروج أو عدم خروج الأبناء والبنات إلى شوارع تدور فيها حمامات دم، أو مهرجانات نصب واحتيال. بإمكانه مثلا أن يؤسس ناديا لمعجبي مايكل جاكسون.

وإذا قررتَ أن تهرب إلى عالم وثقافة وسائل الإعلام الجماهيرية من أو. جي . سمسون وحتى جاكسون مرورا بديانا وجنازة البابا وغيرها من شؤون المشاهير التي تخرج كدراما، لا بأس من أن تتزود ببعض الملاحظات لكي تمنع نفسك من أن تبدو مثل أحمق يتابع خلسة أو علنا ما يجري في عالم النجوم المصنوع أمريكيا.

من بين أدواره الكثيرة يلعب التلفزيون في هذا العصر أيضا دور ثقب باب لممارسة انحراف البصبصة والإهتمام بشؤون الناس الخاصة: مأكلهم، ملبسهم، غرف نومهم، انحرافاتهم الجنسية، مع الفرق أن التواطؤ بين وسيلة الإعلام والمشاهير يسبق التواطؤ بينها وبين المشاهد. فما معنى "نجم" إذا لم يهم الناس ما يقوم به. ضريبة الشهرة من هذه الزاوية هي في الواقع إمتياز. أما المشاهد فتتم تربية إنحرافاته وغبائه علنا. وتبرز وسائل الإعلام الهستيريا الغبية والحمقاء متى شاءت كنوع من تحقيق الذات الفردية، مع أنها عكس الفردية بحكم تعريفها لأنها مفصلة جماهيريا. ومن رابطوا، وحتى خيموا أمام المحكمة طيلة أشهر هم في الواقع يحققون ذواتهم على هذا النحو. المساواة بين هذه الحماقات وبين أشكال تحقيق الذات تعتبر العالم مجرد "ريالتي" ينتجها ال"ريالتي تي في".

بغض النظر أين نسكن، في سلوان أو بيت سوريك أو القاهرة أو الفالوجة، جميعنا تعرضنا في نهاية نشرات الأخبار أو بداياتها إلى صورة رجل كان أسود ويبدو كأنه مبيّض بالكلور في دعاية لمسحوق غسيل، يمشي مشية عجيبة مجمدة تحت شمسية بثياب مارشال لدزاينر خاص، وخلفه وأمامه وعلى جانبيه غوريلات بشرية ببدلات غامقة اللون ونظارات شمسية. يتحركون سوية كما في فيلم صور متحركة من سيارات سوداء مظللة النوافذ إلى قاعة المحكمة. ويتعالى هتاف المعجبين والمعجبات بهذه الظاهرة كلما مرت من أمامهم. ويبدو الكائن الغريب الشكل في الوسط مخيَّطا، أو مفصلَّ الملامح بحيث يصعب تمييز الإبتسامة عن الحزن عن الشعور بالقرف لأن القطب الجراحية التي تصل بين ملامح وجهه تقيد حرية حركتها فتوحدها في نفس التعابير. ويبدو أن الأنف قد تعرض إلى عدة عمليات جراحية حتى اختفى تماما ولم يبق منه الا ثقبان بين الفم والعينين. وما دمنا قد خضنا في الموضوع فلنحرر خيالنا قليلا: لماذا لا نفترض مثلا أن الرجل الذي تعرض إلى مثل هذا العدد من العمليات التجميلية الجراحية والنقع بالكلور قد أدمن على العمليات فركّبوا له أنفا جديدا ضخما لكي يبدأ العمليات من جديد؟ أي أنه أضيف إلى إنحرافاته المتعددة انحراف جديد هو حب العمليات التجميلية. الرجل باختصار اصبح "ممحون عمليات تجميل". وأصبحت هذه بذاتها ميزة، خفة دم، خصوصية من الخصوصيات التي تجعله "سليبريتي".

طبعا ليس هذا الإنحراف الجديد منتشرا. فالفقير، حتى لو ولد بانحراف كهذا، لا يستطيع ممارسته. وحتى الميسور أو الميسورة الحال تستطيع أن تسمح لنفسها بعملية أو إثنتين، تخفيهما أو تتباهى بهما، وانتهى الموضوع. أما التحول إلى ممارسة العمليات الجراحية كنمط حياة فهو إنحراف مكلف جدا. والثري المنحرف ليس مجنونا، خلافا للفقير، بل هو "نمرة"، "غريب الاطوار"، "اكسينترك"، "مختلف، غير شكل". وقد يزيد هذا كله من جاذبيته لكي يمارس المعجبون ذواتهم بواسطة الإعجاب به. والحرية الأمريكية تتيح الكثير من الخيارات بين سليبريتي وآخر.

وفي خضم النزاع حول شخصية أو حقوق أو إمتيازات هذه الشخصية المتعددة الإنحرافات نسي الناس أن الحديث هو عن رجل عمره 46 عاما يشارك سريره مع أطفال بملابسهم الداخلية. لم يكن هذا "الموضوع السخيف" هو موضوع المحاكمة. بل كان "السيلبريتي" هو الموضوع.

في حينه اعتبر كليشيه إعلامي محاكمة أو جي سمسون "محاكمة القرن". ولكن منذ تلك المحاكمة تكاثرت محاكمات القرن مثل الفطريات: مارثا ستيوارت، روبرت بليك، كوب برينت، ومحاكمة فيل سبكتور المقبلة بتهمة القتل واعتقال راسل كرو مؤخرا بتهمة ضرب موظف فندق بهاتفه، حتى تحولت محاكمات المشاهير واعتقالهم وتورطهم في قضايا عنف أو مخدرات إلى نمط أدبي، أو للدقة الى "جانر" إعلامي. (شون هبلر، لوس انجلس تايمز، 12 حزيران يونيو 2005). ويجتمع في هذا "الجانر" جمهوران إستحواذيان، جمهور متابعة المحاكم وجمهور متابعة النجوم. عدد المشاهدين في حسابات وسائل الإعلام مضمون إذاً. وتعود قلة جاذبية محاكمة جاكسون ضمن هذا النمط إلى أن المحكمة قررت إقصاء الكاميرات خارج المحكمة، وأن الجنس الذي يتم تناوله فيها هو من النوع المحرج الذي يحاول المرء تجنب التفكير به، ناهيك عن الإنجذاب إليه. ومع ذلك تابع محاكمة جاكسون في سانتا ماريا، كاليفورنيا 2000 صحافي من 34 دولة. أي أكثر من عدد الصحافيين الذين تابعوا فلسطين والعراق ورواندا وبوروندي وإقليم دارفور وكشمير والشيشان في موقع الحدث في أي لحظة معطاة. والحديث هو عن محكمة لم تجذب الكثيرين. أية صحافة، وأية حرية صحافة؟

فيما عدا شخصية النجم ذاته يتألف نمط دراما محاكمات المشاهير من العناصر التالية:

1. "فريق الاحلام"، "دريم تيم" من المحامين. وقد أصبح هذا مصطلحا قائما بذاته. محام لقيادة الدفاع داخل المحكمة وآخر للإعلام وثالث للإعداد وهكذا. ويتفاخر المحامون أيضا بكونهم شراً لا بد منه وبقدرتهم على تبرئة موكلهم بغض النظر عن الوسائل. محامية الدفاع سوزان يو مثلا أطلقت مؤخرا الكليشيهات التالية: "الناس لا تعرف من هو مايكل جاكسون، لقد أمضيت وقتا طويلا معه، لم أر في حياتي شخصا حساسا بهذا الشكل، إنه غير قادر على فعل أي من الأفعال المنسوبة إليه" ( نيو يورك بوست 15 حزيران 2005 )

2.. بطانة من المشاهير الذين يأتون للدفاع والتضامن. وتركز عليهم الكاميرات. وهي أيضا فرصة لهم لممارسة نجوميتهم وللتظاهر بميزات مثل عدم التخلي عن صديق والوقوف معه في وجه الآراء المسبقة، وغيرها من الكليشيهات التي تشكل بذاتها آراء مسبقة: جو لينو الكوميدي، وجيسي جاكسون الذي تحول في العقد الأخير من قس وسياسي إلى كوميدي مبتذل وباحث عن دور ونقود بأي ثمن. وهو أيضا مثل محامي جاكسون يوجه لمغني الروك نصائح علنية لأغراض الظهور بمظهر الموضوعية من نوع أن هذه فرصة لمايكل لكي يغير سلوكه الغريب مع الأطفال والصبية (نيو يورك تايمز 13 حزيران يونيو 2005).

3. المعجبون والكارهون. يتظاهرون خارج المحكمة وأمام بيت النجم. والشعارات والقبعات والكنزات والبالونات أصبحت عدة مألوفة. وبرزت مؤخرا معجبة تركت عملها في حضانة أطفال ( انتبه اين كانت تعمل!) لتتحول إلى معجبة متفرغة. وطيرت أخرى حماما أبيض من قفص بعد الإعلان عن براءة المتهم من عشر تهم تتعلق جميعها بمضايقة الأطفال جنسيا.

4. الدوامة الإعلامية. تحويل المحاكمة الى spin دوامة، "دوّارة إعلامية"، نوع من السيرك الإعلامي تضيع فيه حدود رصانة المحاكم المفترضة وتطمس فيه إعتباراتها المألوفة.

5. البحث المبتذل عن المعنى العميق للمحاكمة على لسان عدد "المعلقين الجديين" أو المتظاهرين بالجدية والمنقسمين إلى معسكرات في برامج الثرثرة أو في النشرة الإخبارية بعد إذاعة الخبر. العنصرية، الجنس، الطبقة، فساد الشرطة... وغيرها. في حالة جاكسون كان الموضوع ببساطة هو النجومية.

6. خلط كل ذلك سوية عند سماع القرار، عندما يتحرك الجمهور وتبشر ضوضاء مروحيات وسائل الإعلام التي ترافق قافلة جاكسون من مزرعته إلى المحكمة بوصوله لسماع القرار، وصوت القاضي رودني ميلفيل وهو يقول: مستر جاكسون كفالتك الغيت وأنت طليق. بعدها تقرأ الشعارات التالية على موقعه "الرسمي" على الويب: "بريء"، "جدار برلين يسقط"، "مارتن لوثر كينج يولد"، "نلسون مانديلا حر". صدق أو لا تصدق.

واهتمت وسائل الإعلام الغربية وتساءلت في نشراتها إذا ما كانت الفضائيات العربية قد قطعت بثها لتبث فقرات من قرار التبرئة في النهاية. وعلينا أيضا أن نسمع شخصا إسرائيليا سمجا يدعي أنه عرّاف وأنه صديق جاكسون النفسي وأنه صرخ على جاكسون: "بوقاحتي الإسرائيلية المعروفة صرخت عليه: مايكل!! عليك أن توقف عادة إدخال أي ولد إلى بيتك" من دون أن ينسى التشديد على براءة جاكسون الطفولية وتحوله إلى طفل مع الأطفال. وعنوان على زاوية رأس الصفحة الاولى في صحيفة فلسطينية في المناطق المحتلة، وطبعا عنوان رئيسي في صحيفة بيلد الألمانية: "براءة". ومارتن ستوك (شخص ما) مؤسس نادي معجبي جاكسون المؤلف من أربعين عضوا يقول ما يلي: " المحكمة برمتها مثيرة للسخرية وقد عومل مايكل بشكل لا إنساني، حاول الناس رميه في السجن وسرقة ماله". وفي المكسيك قال شخص ما، شخص ما مثل كل "الشخوص الما" التي تذكرها وسائل الإعلام من هذه الدول من أجل الإقتباس، قال رودريجو مانديز، موظف في مكتبة في المكسيك (لماذا مكتبة؟ لماذا المكسيك؟ لماذا رودريجو؟):"أعتقد أن تصرفاته غريبة ولكنها ليست منافية للقانون".( تجد مثل هذه التصريحات الغريبة من كافة أنحاء العالم على موقع 940 نيوز راديو ، 15 حزيران 2005، مثلا، وعلى مئات غيره). وقد وصلت العولمة الإستحواذية الإضطرارية إلى الصين حيث علق ال "دي جاي" من راديو انترناشنال في الصين بلهجة عملية تتلاءم والرأسمالية الصينية الجديدة التي لا تأبه كثيرا بنوع التهم بل بالإنتاج: "التهم هي ضربة لصورته الإعلامية، ولكن إذا استمر بإنتاج موسيقى جيدة فسوف ينسى الناس"( موقع سي بي اس نيوز، 14 حزيران 2005) رجل عملي جدا. وهكذا تأخذ وسائل الإعلام من كل بستان زهرة، أو من كل مزبلة عينة، بحيث يفرض الاهتمام على العالم فرضا كأن الصين تحلم بمايكل جاكسون. المهم أن عليها أن تحلم.

ويعلق الناس بصراحة أنه في حالة قضية جاكسون المشابهة من عام 1993 يبدو أنه كانت هنالك إثباتات ولذلك دفع جاكسون 20 مليون دولار للعائلة دون محاكمة ولإسقاط الدعوى، أما في هذه الحالة فقد بُرئ جاكسون لنقص في الأدلة، ونتيجة للشك في طبيعة الأمهات اللواتي يبعثن بأبنائهن للنوم في بيت رجل معروف بأنه ليس منحرفا فقط بل هو متعدد الانحرافات. وهذه تعليقات وجيهة.

وحتى في المعسكر الذي غضب على تبرئة جاكسون يصعب أن نجد موقفا ضد اللا عدالة بشكل عام، أو ضد إغتصاب الأطفال واستغلالهم عموما في المجتمعات الحديثة وعلى هوامشها. بل هو موقف من وقاحة المشاهير وامتيازاتهم وليس من إنعدام العدالة بشكل عام. وحول عدم كفاية الأدلة إنتبهت قلة فقط إلى ما انتبه إليه اندرو واكس في نيويورك تايمز عندما قال أن القاضي يستطيع أن يحذر المحلفين ولكن هل يستطيع أن ينزع من رؤوسهم مفهوم الدليل القانوني الذي عشش فيها بتأثير مسلسلات القانون والجريمة وكأن الدليل يجب ان يكون عيّنات من دي. أن. إي. المتهم. (نيويورك تايمز 15 حزيران 2005). وفعلا يبدو أن الايجابية الوحيدة من التبرئة في هذه المحاكمة انها وفرت علينا مسلسلا إعلاميا أطول حول جاكسون في السجن، ونكات مقرفة حول الاغتصاب في السجون.

هل هذه هي الخيارات؟ ربما كان التحدي هو تربية طرح معنى الحياة الفردية وتحقيق للذات خارج هذه الخيارات. هذا هو تحدي هذا النوع من "الأمركة" في أمريكا وخارجها.

التعليقات