31/10/2010 - 11:02

الطرق على صناعة عقل فلسطيني جديد../ ناصر السهلي*

الطرق على صناعة عقل فلسطيني جديد../ ناصر السهلي*
ثمة كارثة كانت تزحف ببطء على هذا الواقع السياسي الفلسطيني المأساوي، قبل أن تتسارع وتيرتها ويكتشف معالمها أي إنسان، لتصيبه على المستويات المختلفة في يوميات الطرق على إعادة إنتاج عقله، وإن كان المستوى السياسي هو الأبرز.

دولة مستقلة وذات سيادة وعلاقات دبلوماسية وتجارية كبيرة مع إسرائيل مثل تركيا لم تسلم أبدا من العنجهية الصهيونية الاستعلائية في معاملة سفيرها في تل أبيب... ليس إلا بسبب مسلسل تلفزيوني.. وبينما مسلسل محاولات إذلال الشعب الفلسطيني إعلاميا وعمليا لا يتوقف على الأرض.. للأتراك سياستهم وقنواتهم التي تعطيهم ما يفتقده العرب من معاملة ندية قائمة على احترام قيمة ما كانت تصدح به حناجر العرب قولا بلا فعل.

لنا أن نتخيل كيف لعقلية صهيونية تتعامل بهذا الشكل المهين مع الجانبين العربي والفلسطيني بدون استخلاصات حقيقية أو استفادة من الدروس الواضحة. مسيرة شامير في جرجرة العرب نحو مفاوضات عبثية وهزلية مستمرة منذ مؤتمر مدريد في 91، قال يومها عن الوقت: عشرات السنوات! وبعملية حسابية بسيطة طار من عمر الشعوب 20 عاما..

خلال العقدين الماضيين لم تتغير الصورة سوى نحو الوضوح الأكثر: رضوخ فلسطيني كامل وتخاذل عربي ودولي أوسع... الرضوخ المقصود لا يسعفه شعار "نحن لم نتنازل عن الحقوق".. فعدم الثبات وانتفاء مراجعة السياسات الفاشلة يتساوى والتساوق مع الضغوط والرضوخ الكلي للإملاءات بدون العودة للشعب.. ولا يكفي أن يقال "سنعرض أية اتفاقية على الشعب"، فكل عاقل يعرف ما تعنيه العودة للشعب في ظل التجارب السابقة.. ولم تحقق شيئا تلك العقليات التي لم تعرف كيف تستثمر تراكمات نضال شعبها وتضحياته.. يا للمأساة الثورية في طلب "العفو" من محتليك.. مأساة لأنها تدينك وتدين تاريخ كفاحي طويل لشعب قوي تقوده عقليات جبانة وضعيفة وانتهازيو العصر "الفلسطيني" الجديد!

من يبحث في الصورة المعلقة فوق جدران الأحلام الفلسطينية سيكتشف بشاعة المشهد:
أن يكون لنا "رئيس وزراء" و "رئيس دولة" يدفعان عن نفسيهما تهمة التحريض.. أن تدخل الثورة في صدمة التحول إلى كيان مشوه المعالم.. وأن يصير وصف الشهيد فضيحة.. وتقليم الأظافر، نبذا للعنف، شطارة.. والتهكم على تاريخ ثورة الشعب جسارة.. والعودة بتاريخ الفصل بين الشعب الواحد في فلسطين التاريخية قمة الوطنية.. ورهن مستقبل فلسطينيي النكبة لمزاجية الرسميين وللاحتلال الذكاء والواقعية بعينهما.. وتفاصيل الحواجز والأنفاق والكرسي قمة الثورية.. والثورية تخلفا وتعلقا بالأوهام.. والوهم يتحول عنوة إلى حلم جماعي..

وصار لنا مؤسسات بيروقراطية أغرقت "الثورة" في هجين الكيانات السياسية لتصبح مهددة بعقوبات اقتصادية! من جر العربة، وكم من الدم والمعاناة دفع هذا الشعب لتوضع أمام الحصان؟
إنها الكارثة المسماة "خيار إستراتيجي" وحرفيتها "صناعة عقل فلسطيني جديد"، وهي حرفية تعتمد على مركبات جديدة، أخطرها:

- من لم يغبر حذاؤه بتراب الوطن لا يحق له التدخل!.. نسي الرفاق والإخوة أين كانوا قبل أن يصيروا "رجال دولة"، وكأن شعبهم في الشتات يعيش حالة سياحة وترف.. تناسى هؤلاء أنه من رحم شعبهم المشتت في وطنه التاريخي وفي شتاته انطلقت ثورته.. وباتوا يخجلون من أن تدهمهم انعكاسات الذاكرة في مرآة هذا الشعب الذي صاروا يزورونه وفودا كما تزور البلاد وفود "المتضامنين الأجانب".. وقضية عودة اللاجئين تصير مادة للمقايضة!..

- فلسفة الانعزالية التي وضعت فلسطين على الهامش بالتزام فولاذي بمفهوم سلطوي ..هو يعاكس كل تنظيرات "سلطة خنادق وبنادق".. ولا يمكنني أن أفهم كيف يتفاخر "زعيم تنظيم ثوري" بأنه لم يكن يوما مع الثورة، ولم يعرف البندقية في حياته.. أهو استخفاف بتاريخ وتجربة هذا الشعب؟ أم هي محاكمة لكل ثورات هذا الشعب، من البراق حتى انطلاق ثورته المعاصرة؟.. والأدهى أن نكتشف بأن هذه الثورة تنهشها عقلية مفرطة بتجميل الواقعية والنأي بالذات عما يجمع أكثر من 11 مليون فلسطيني لمصلحة القبيلة التنظيمية والعشائرية السياسية والانتهازية المتذاكية..

- صار العمق العربي والعالمي عارا.. ودرسا مهما للأجيال حول تهمة خطيرة تشكك بوطنية من يأخذ بتجارب الشعوب وثوراتها.. ومن يبحث عن عمقه العربي والإنساني.. "الإمبريالية" والرأسمالية حلفاء لنا.. سعيدون بالمنح الاقتصادية.. فهؤلاء يحبون شعب فلسطين.. وعكس ذلك يعتبر تحريضا على "العنف".. ونبذ المفردة الأخيرة تحول عند "الثوار" إلى مفتاح لعواصم بعيدة..

لا تنتهي بهذه الكلمات حرفية صناعة العقل الفلسطيني الجديد.. فالعقل معلق بانتظار "أفكار البيت الأبيض".. وحقوق شعب كامل تنتهك يوميا.. لم يُشرح مرة واحدة لهذا الشعب المغزى من الإصرار الحديدي على اشتراطات العلاقات الداخلية ونقيضها مع المحتل، من حيث الشكل والمضمون في الرد على ممارساته.. فهل يكفي القول "لا عودة إلى التفاوض بدون...".. وحين يستفسر المرء عن البديل يكون الجواب "المفاوضات".. ربما هذه واحدة من مفردات حرفة الصناعة الجديدة..

**********

بالقرب من الخليل تعرض شاب فلسطيني لإطلاق النار والدهس.. انتشرت الصور الملتقطة.. فماذا كان الرد؟
لست في وارد البحث عن الردود التي يمكن سؤال الإعلام الوطني عنها.. فهل كان سيصمت "الثوريون الجدد" لو أن الضحية إسرائيلي؟ أم أن التنديد والشجب حسب الوصفة المتفق عليها لفظيا وخطيا هي السمة التي سيكررها ويبرزها الإعلام المحلي والدولي لتصل رسالة كم "نحن " ضد "العنف"؟.. نظرة بسيطة إلى التجربة ستكشف الحقيقة..

هل أطالب بأن نجبر نتنياهو على وأركان المجرمين في حكومته على الخروج بموقف تجاه كل جريمة؟
نعم، لو كان هناك أقل استخدام لعوامل احترام ما يعنيه الرأي العام الفلسطيني واستخدام زخم كل حدث كما يستخدم الاحتلال بغير عدالة كل شاردة وواردة.. ولو كانت المراهنة على غير هذه الصناعة البائسة لتدجين العقل بأدوات جهنمية لما تأزم الواقع الفلسطيني ولما استمرت العربدة والاستهتار بقيمة الشعب الفلسطيني وحقوقه.. فما من شك بأن المراهنة على "نوايا" و" تطمينات".. هي المخرج عند هؤلاء..

**********

لا ثورة ولا حركة تحرر في هذا العالم الذي جرب ما جربه الشعب الفلسطيني قبلت بكذبة أن التحرر وتقرير المصير يأتي بالمراهنة على الوعود والأمنيات.. بل والأدهى أن يستمر الاحتلال بما يمارسه من هدم لكل أسس الحياة بينما يصر قادة هذه الحركة بتحويلها إلى مركبات سلطوية.. لا ثورة في هذا العالم حققت أهداف شعبها بأن قطعت علاقاتها مع كل يؤيدها لكسب حليف عدوها.. لا ثورة في هذا العالم ولا حركة تحرر قبلت بتحويل علاقاتها الداخلية مع الخصوم إلى عداوة، ومع العدو المحتل إلى خصومة واختلاف بوجهات النظر والتنازع على أمور حياتية يومية.. لا ثورة في هذا العالم عاشت وهم الوصول إلى التحرر الوطني بالمناشدة والاستجداء ورمي التصريحات والبيانات التي تحمل العالم مسؤوليته بينما هي تستمر لعقدين بفخ " الالتزامات".. لا ثورة في هذا العالم توزر " ثورييها" وهي تضيع فرص تاريخية للتخلص من محتلي شعبها..

ومن يعتبر أن هذا الانقسام الفلسطيني الحاصل هو الأول في تاريخ هذا الشعب لا يقول كل الحقيقة.. فقط بين الأعوام 1983- 1987 عاشت الثورة والمنظمة أبشع أنواع الاقتتال والانقسام، لكن الثورة حينها كانت تحمل برنامجا سياسيا تحرريا واضحا وتحت سقفه أمكن التوحد أو التوافق.. فما هو البرنامج التحرري اليوم؟
التسابق نحو تحويل الأحزاب إلى " منظمات غير حكومية" واللهث وراء تمويل المشاريع؟
التهافت نحو الولاء لأصحاب القرار السياسي ولو أدى إلى سياسات متناقضة في التنظيم الواحد؟
رفع شعارات التماهي مع السياسات الرسمية العربية مهما كانت انهزامية تحت شعار الاعتدال؟
تحويل تأمين حقوق العمال والفلاحين والطلبة إلى القضية المركزية بينما هي جزء من التحرر الشامل؟

اليوم نجد أنفسنا تحت وطأة خيبة أخرى من خيبات التملق للتاريخ والفرجة على مجرياته دون أن نكون جزءا من صناعته. يردد بعضنا " لا يجب أن نضيع الفرص!".. وكم تتسع مأساة هذا التاريخ الذي نوغل في تشويه مساراته لتكون على مقاسات احتكار هذا البعض لتعريفات الوطن والتحرر.. كم تتسع المأساة كلما أصر الفاشلون على فهم هذا التاريخ بقراءته قراءة مزورة!..

لا ثورة.. ولا حركة تحرر وطنية حقيقية أفشلت بيديها خياراتها بإصرار مقصود أو غير مقصود على مراهنات أعداء هذا الشعب بأن يكون المنتج عقلا فلسطينيا جديدا!
-----------------------------------------------------------

التعليقات