31/10/2010 - 11:02

المشروع فشل، لكنما الأهداف الامبراطورية لم تتبدل!../ عبد اللطيف مهنا

المشروع فشل، لكنما الأهداف الامبراطورية لم تتبدل!../ عبد اللطيف مهنا
من يافطة "تحرير العراق"، وما رافق الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين من مزاعم وأكاذيب شهيرة ومعروفة سيقت لتبرير احتلاله وتدمير كافة أسس الدولة فيه، إلى يافطة "الفجر الجديد"، وأخدوعة "إنهاء العمليات القتالية"، وما بين اليافطتين من تسميات أو توصيفات أمريكية تعددت لتجليات الحرب المستمرة عليه، وعمليات إعادة تموضع الاحتلال، الذي لم يأت ليجلو عنه دون ضمانة إدامة الهيمنة الأمريكية عليه، وعلى المنطقة، أو إعادة تنظيم سبل هذه الهيمنة وتمويهها...

مرت حتى الآن سبعة أعوام ونصف على فشل المشروع الأمريكي في المنطقة العربية وجوارها الإسلامي، والذي تظلل بيافطة أخرى سحبت من التداول أطلق عليها "الشرق الأوسط الجديد"، باعتبار هذا الاحتلال، ونظراً لمركزية العراق الجيوسياسية والقومية والإسلامية في هذه المنطقة، حجر الزاوية في هذا المشروع، والمنطلق والمرتكز لاستهدافاته العديدة المعروفة، والتي لا مجال هنا لتعدادها... لماذا نقول الفشل؟

لأنه، حتى الآن، لا يمكن إطلاق صفة النجاح إلا على واحدة من استهدافات الغزو، وهي تدمير هذا البلد العربي وتخريبه وإدارة المقتلة الرهيبة الدائرة فيه، والتي ترتقي بها أرقامها المتصاعدة يومياً، لجهة القتلى والجرحى والمعاقين واليتامى والأرامل والمشردين والمهجرين، إلى درجة نوع من الإبادة البشرية المستمرة الفصول، منها المكشوفة ومنها الغامضة و الأخرى المموهة.

لقد جاء الأمريكان إلى العراق يدفعهم الهدف الذي عبر عنه الداهية الأشر كيسنجر في مذكراته، وأطلقه كوصية من وصاياه الشريرة العديدة: إن "من يريد السيطرة على الأمتين العربية والإسلامية، فعليه أن يدمر الأمة العراقية، باعتبارها الحلقة الرئيسية فيهما"... لقد دمروا العراق، وأعادوه، كما هدد بيكر قبل الغزو، إلى ما قبل العصور الوسطى، لكن ماذا بعد ما فعلوه... ماذا عن باقي الاستهدافات، أو ما كان كامناً خلف هدف احتلاله وتدميره؟

في البداية، ومن على ظهر حاملة طائرات، أعلن بوش بلهجة نابليونية: "المهمة أنجزت"، بمعنى أنه أعلن انتصار الغزاة وانتهاء القتال والتفرغ لجني ثمار الانتصار واحصاء غنائمه.

انطلقت المقاومة العراقية، والتي قلنا في مقالنا السابق، إنها المقاومة الأسرع في التاريخ، والمستمرة والمتسعة مهما تكثفت حولها وأحكمت سبل التجاهل والتشويه والتجهيل الإعلامي، بما يعني أن المهمة القتالية لجيوش الاحتلال وردائفها من حشود المرتزقة لم تنته، وهو الأمر المشهود طيلة هذه السنوات الأمريكية السبعة والنصف العجاف في أرض السواد أو ما عرف بالورطة العراقية، هذه المضافة إلى الورطة الأفغانية التي سبقتها والتي مضى عليها حتى الآن تسع سنوات... اليوم يأتي خلفه أوباما ليقول، إن "المهمة القتالية الأمريكية في العراق انتهت"، لكنه يردف، لقد دفعت الولايات المتحدة هناك "ثمناً باهظاً"، وأنه "الآن حان الوقت لقلب الصفحة"!

فيما يتعلق بالثمن الباهظ، فمنه، وفق ما أعلن رسمياً، أكثر من أربعة آلاف جندي قتيل وسبعين ألف جريح، وهذا لا يشمل الأرقام الأخرى المكتومة، المتعلقة بالمرتزقة أو المتعاقدين وأصناف هذه الجيوش الجرارة الخفية الرديفة والتي لا يعلن الأمريكان عنها. هذا بشرياً، أما مادياً فأكثر من ترليون دولار انفقت حتى الآن على هذه الحرب العدوانية الفاجرة، والتي لها أثرها المشهود في الأزمة الاقتصادية الأمريكية الراهنة التي لا يلوح على المدى المنظور أفق التعافي منها. أما الخسائر المعنوية والأخلاقية التي لحقت بالإمبراطورية وبصورتها البشعة أصلاً فحدث عنها ولا حرج... وغدا قلب الصفحة دونه خرط القتاد...

لقد حاول الأمريكان طيلة سنوات الغزو صناعة عراق مابعد الاحتلال وفق مبتغيات استهدافاتهم. جاؤوه ومعهم عراقيّوهم ونصبوهم حكاماً، ولم يتوقفوا حتى اللحظة عن الكلام حول ما عرف بالعملية السياسية أو الاسم الكوتي للعراق الأمريكي، والآن يعلنون "انتهاء العمليات القتالية" بينما عراقهم المنشود هذا يتخبط في أزمة تشكيل حكومة مزمنة مضى عليها نصف عام أعقب ما سمي بالانتخابات البرلمانية.

كتل "العملية السياسية" تتصارع مع بعضها البعض، وبايدن يبذل جهوده أو املاءاته لجمعها ولا ينجح، والمركز في بغداد، أو بالأحرى في المنطقة الخضراء، في تنازع لن تهدأ وتيرته مع الطرف الكردي ذو الشهية المفتوحة لقضم المزيد من أطراف هذا المركز، والتصرف بتفرد فيما هو تحت سيطرته من نفط وغاز، أو ما يعرف بشرعية العقود... إذن، ما هو جوهر هذا الموصوف بالانسحاب الأمريكي، أو "انهاء المهمة القتالية" وفق التوصيف الأوبامي!

يقول أوباما: إن "الوقت لم يحن بعد للاحتفال بالنصر، وما زال هناك الكثير من العمل الذي يتعين أداؤه"... وإذ لا يبدو أن يوم الاحتفال هذا سوف يأتي، فما هو كثير العمل هذا الذي عليهم أداؤه؟

إن فيما قاله أوباما، وما شابه من أقوال نائبة بايدن ووزير حربه غيتس وجنرالاته في العراق، وما هو من حقائق على الأرض الآن، يدل دلالة لا تحتاج إلى براهين بأن الخروج النظري الأمريكي لجيوش الاحتلال وفق الكيفية التي يجري تطبيقها ليست إلا محاولة لتخفيف أعباء الاحتلال عبر بعض التغيير في شكله ومهمته، بالإضافة إلى ما يمكن وصفه بالخروج الانتخابي، فالمعروف أن الغزاة المنسحبين قد خلفوا وراءهم حضوراً سياسياً وأمنياً كثيفاً. 94 قاعدة عسكرية. خمسين ألف جندي، من بينهم ما يقارب الخمسة آلاف قوات خاصة، ويردفهم مائة ألف من المرتزقة، وبعد أن أطلقوا في البلد المنكود عديد حيتان النهب من شركاتهم الكبرى النهمة، التي حظيت بالعقود المجزية في ظل الاحتلال، في ظل الاعلان بصريح العبارة أن الهدف الأبعد لهم هو بقاء 14 قاعدة عسكرية ضخمة... والإبقاء على العراق في ظل حكومات دمى مستدامة تحركها أكبر سفارة عرفتها العلاقات الدولية... يقول بايدن: إنه "حتى لو كنا نخفض عديد قواتنا فنحن نزيد التزامنا في قضايا أخرى"!

إذن، هو تخفيف لأعباء الاحتلال ليس إلا، أي تماماً، وإن اختلفت أشكال الوقائع، الأشبه بما جرى من تخفيفه في الضفة والقطاع الفلسطينيين بعيد اتفاق أوسلو، الأمر الذي يجرنا إلى ملاحظة الرابط أو العلاقة والتزامن بين هذا "الانسحاب" واحتفالية أوباما للسلام المزعوم في واشنطن قبل أيام... والتي ليس من المنتظر أن تجديه فتيلاً إزاء تراجع شعبيته ومصداقيته وأغلبيته المهددة في الكونغرس... والمقارنة عبر هذا التساؤل: هل حال المنطقة الخضراء، التي يقلقها الخروج المزعوم للاحتلال، ببعيدة عن حال السلطة في المقاطعة... هذه السلطة البائسة التي تفاوض لتؤجل انهيارها، وتلتزم التفاوض خياراً لا بديل عنه ليتيحوا لها سبل العيش والبقاء، وتنتهج التنازل باعتباره بالنسبة لها ولمن تفاوض سبب الاستمرار.

في كل الأحوال، المشروع الأمريكي في العراق يتراجع، وفي المنطقة يفشل، ومهما كان حجم الانسحاب الأمريكي الذي تم، فهو في النهاية ينبئ بأن الإمبراطورية لم تعد دولة جوار تلقي بكلكلها الثقيل بين ظهرانيها، وهي بهذا الانسحاب أو اعادة تشكيل الاحتلال قد خلفت شاءت ام أبت فراغاً تتحرك بالضرورة أطراف عديدة لملئه، وهو تراجع يأتي تلقائياً لصالح قوى المقاومة والممانعة، والأدوار الإقليمية، وسيكون له أثر بعيد على حلفاء العم سام في المنطقة.

ودولياً وبعد فشل استراتيجية قتل المدنيين في أفغانستان وفق توصيف لكرزاي وليس غيره، واقتراب موعد الهزيمة، وفق الحلفاء الأطلسيين أنفسهم، سيكون له أثر كبير وكبير على السطوة الإمبراطورية دولياً... وكل هذا مقرون بصعود المراكز الكونية المنافسة، وفشل حروب القضاء على المقاومات باسم الحرب على الـإرهاب، لاسيما في لبنان وفلسطين، وارهاصات التحول الإستراتيجي التركي، وفشل ما أطلقوا عليه ب"الثورة الخضراء" في إيران، وتعاظم دورها الإقليمي، وبدء العمل في مفاعل بوشهر النووي...

المشروع الأمريكي في العراق تراجع رغم بقاء الاحتلال، وفي المنطقة فشل، لكنما الأهداف الإمبراطورية في بلادنا باقية لم تتبدل... يقول برنارد لويس، الأب الروحي للمحافظين الجدد، كلاماً يذكرنا بنصيحة الداهية كيسنجر: إن "الحروب القادمة في الشرق الأوسط لن تكون بين الدول بل ستكون داخلها"!!!

التعليقات