31/10/2010 - 11:02

النوازع الامبراطورية إذ تؤذن بتصدع الحلم الأميركي../ محمد خالد الأزعر

النوازع الامبراطورية إذ تؤذن بتصدع الحلم الأميركي../ محمد خالد الأزعر
معظم فلاسفة التاريخ وشراح الحضارات وفقهاء العلاقات الدولية المعاصرين، لا يختلفون على أن الولايات المتحدة الأميركية ربما كانت الأوفر حظاً من حيث الاستحواذ على مقدرات القوة بمعناها الشامل، قياساً بكل الكيانات السياسية التي عرفها الاجتماع الإنساني. بيد أن التوافق العام على هذا الرأي لا يبقى على حالة عندما يستطرد أصحابه الى الاساليب التي وظفت بها النخب الاميركية الحاكمة هذه المقدرات تجاه عوالم الآخرين. هنا تتعارض التقييمات ويثور التنازع بين من يعتقدون أن العالم بصدد دولة ملائكية ساقتها الأقدار الى خدمة البشرية وإعمار الكون بالحرية والتقدم الاقتصادي والتقني وسيادة القانون ومحاربة الاستبداد. وبين من يرون العكس على طول الخط تقريباً وصولاً الى القول بأن «العالم قبل تبلور هذا الكيان وإندياح سلوكه الشيطاني في الجهات الأربع كان أفضل بكثير».

للوهلة الأولى، يظهر هذا التناظر وكأنه لا ينطوي على جديد، فالحالة الأميركية ظلت منذ إطلالتها الأولى، وبسبب استثنائيتها الواضحة، محلاً للإعجاب والنفور، للإقبال والترحيب والخوف والرهبة. وفي غمرة هذه المشاعر الحدية المتعاكسة، كان هناك من يفضلون مقاربة هذه الحالة بعقل حيادي بارد، يأخذ في الاعتبار سُنن وخبرات صعود القوى الدولية وهبوطها وتصرفاتها الداخلية والخارجية القائمة على منطق المصلحة المغموس بالأنانية وإيثار الذات. وغالباً ما انتهى هؤلاء الأخيرون الى أن مسار النموذج الاميركي ومصيره ليس بدعاً من هذه السنن والخبرات. ذاهبين الى أن تصارع المنظورات بشأن أدوار الامبراطوريات والدول الكبرى أمر شائع في البحوث التاريخية والحضارية، بل وربما كان هذا الامر دليلاً على تميز هذه الأدوار، تماماً كما هو الحال مع الافراد والرموز القيادية من خاصة الأقوام.

لكننا نتصور أن ثمة جديدا لافتا بالفعل على صعيد متابعة حاضر الدور الاميركي «الامبراطوري» ومصيره، خلاصته انحياز المعنيين أكثر فأكثر الى توقع الاسوأ والميل الى أصحاب الرؤية السلبية، سواء كان هؤلاء من المحتدين المتحاملين على السياسة الأميركية أم من المعتدلين الملتزمين بالمعالجة الموضوعية. اللافت أيضاً أن شواهد وأمارات الطعن في حال ومآل المثل الاميركي ما عادت تصدر فقط عن المشحونين ايديولوجياً أو سياسياً ضده، لا سيما في عالم الجنوب، وإنما باتت تتسلل بوتيرة متسارعة وبكثافة متزايدة بين يدي مقاربات بعض أهل الذكر في الغرب من دون استثناء الرحاب الاميركية ذاتها، لنتأمل بعض هذه الشواهد: فقد قيل في أوج الحرب الباردة إن ثمة معادلة صفرية تحكم أنماط التحالفات والاصطفافات الدولية وراء قطبي النظام العالمي، وكان المقصود بذلك أن كل طرف أو حليف يخسره الاتحاد السوفياتي زعيم المنظومة الاشتراكية في الشرق، يضيف محازباً أو نصيراً إلى المعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة في الغرب والعكس بالعكس. وقتذاك، كان لهذه المقولة رواجاً، حتى أن قلائل فقط هم الذين اقتنعوا بموقف عدم الانحياز الذي اشتقته بعض دول ما سمي بالعالم الثالث أو الجنوب. وكان مما دفع به المشككون في صرامة هذا الموقف، صعوبة الحياد الكامل بين ندين يتصارعان على استقطاب قوى ومساحات سياسية واقتصادية تعزز نفوذهما وأوضاعهما اللوجستية والجيوستراتيجية على امتداد المعمورة. والحق أن القطب الاميركي كان مشدوداً أكثر إلى منطق الاستقطاب ومراكمة الاتباع ومعاكسة مفهوم الحياد سلبياً كان أم إيجابياً. يدرك ذلك كل من طالع العقيدة الاميركية في مواجهة المد الشيوعي وتعجيز موسكو، التيب عملت تحت عناوين مختلفة كالاحتواء وبناء الأحلاف وسباق التسلح في الخارج، والمكارثية في الداخل، ما يعني أن فكرة «من ليس معنا فهو ضدنا» التي تنسب الى ممارسات إدارة جورج بوش الابن لها جذور في تقاليد السياسة الاميركية قبل الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) بكثير.

اليوم، مضى على أفول الاتحاد السوفياتي ومعسكره بالكامل عقد ونصف. بل وأضحت موسكو مشغولة بصيانة ما تبقى لها من نفوذ وسطوة في دائرتها الاتحادية الروسية المعروفة قبل ثورة 1917. ولا يعتبرها غالبية الخلق نداً ولا حتى طرفاً موازياً لواشنطن على قمة النظام الدولي. هذا علاوة على تعرض الايديولوجية الشيوعية وتوابعها الاشتراكية لأنماط من التجريح وأحياناً للإدانة والتجريم. ومع ذلك، لا يصح الزعم بأن المتغيرات أدت بمرور الوقت الى تعاظم إعجاب دول الجنوب بالنموذج الاميركي وسياساته أو انها أشعلت الأشواق للإنضواء الطوعي تحت عباءته.

بكلمات أخرى، فإن أهل الجنوب وقطاعات تتزايد من ابناء الشمال، على المضمار الشعبي بالذات، لا يرون في المثل الاميركي بمختلف تجلياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، القدوة التي تستحق الاحتذاء والمحاكاة بشكل تلقائي بعد غياب المنافس السوفياتي (الاشتراكي أو الشيوعي) من حيث النظرية والتطبيق.

قد يجادل البعض في صحة هذا الطرح على اعتبار أنه لا يستقيم مع ما هو مؤكد بالوقائع حول انتشار النفوذ الاميركي وتغلغله في مناطق وعواصم عالمثالثية وشمالية لم يطأها من قبل، وبعضها كان عصياً على الاختراق، إما الاندراجة تحت الملاءة السوفياتية او لاستعصامه حقيقة لا تمويها بمبدأ عدم الانحياز. لهؤلاء تتعين ضرورة التمييز بين الجاذبية الطبيعية التي تنساب بلا عوائق للنموذج الاميركي، وبين محاولة فرضه أو حتى النجاح في فرضه قسراً، بديبلوماسية الاملاءات والتهديدات والحروب الوقائية ومناورات حاملات الموت براً وبحراً وجواً والضغوط الاقتصادية والمالية والحملات الاعلامية الدعائية، وذلك كله بمعزل عن أية اعتبارات قانونية أو أخلاقية رادعة. والقصد، أنه اذا ما خصمنا عناصر القوة والإكراه المستخدمة اميركياً بكثافة في المحيط الدولي، فلربما لن نجد المثل الاميركي يستقبل بالخطوة او الحفاوة التي طمع فيها منظروه ومعتنقوه طويلاً.

ترى هل يعني ذلك أن فقهاء النظام الدولي زمن الحرب الباردة عليهم إعادة النظر في معادلتهم الصفرية المومأ إليها أعلاه بأثر رجعي؟ ربما كان هذا صحيحاً، لأن زوال القطب الشيوعي لم يؤد إلى وقوع شعوب جنوبية (وشمالية) كثيرة في غواية القدوة الاميركية بصورة ودية أو عن قناعة واستلطاف. توحي بهذا التعميم، الممانعة القوية التي تلقاها سياسات واشنطن ومساعيها التعبوية في «الشرق الاوسط»، على رغم حضورها المكثف والخارق للأعين بكل المعاني وأشكال الضغوط المادية والمعنوية. ثم إن النموذج الاميركي يكاد يواجه بالقدر ذاته وزيادة من الامتعاض والتأفف في جواره القريب، أميركا اللاتينية. يحدث هذا الى الدرك الذي استفز محللين اميركيين عدول الى التحذير من أن «الولايات المتحدة على وشك أن تخسر هذه القارة بأكملها»، هكذا دفعة واحدة!.

إبان الحرب الباردة، كان بوسع الإدارات الأميركية إحالة النفور والسخط من سياساتها الى التحريض السوفياتي المتعامد مع عداء «الجيوب الشيوعية العميلة» لموسكو. ولعل اجواء التنافس الاستراتيجي المحموم آنذاك قد مكنتها من تبرير الابعاد العدوانية من سلوكها تجاه العالم الثالثة. والظاهر أن زوال المنافسة والمنافس كشفا حقيقة الاجندة الاميركية، بحيث صار من السهل الحديث عن الهيمنة وتطويع الاخرين كخصائص أصيلة غير طارئة في هذه الاجندة.

اسوأ ما يستبطنه التعامل الاميركي الحالي مع شعوب الجنوب وبعض حلفاء الشمال، هو أن الغضب (وربما وُصِفَ بالعداء) لسياسات واشنطن ونخبها الحاكمة، أضحى ينال من صورة «الحلم الاميركي» التقليدية. مصدر الخطورة هنا، صعوبة ان لم تكن استحالة، تصحيح أو تحسين هذه الصورة الجمعية النمطية إذا ما ترسخت في الوجدانات والاذهان، فبالنسبة لقطاعات واسعة من الشعوب، تمتد من مناطق قبائل الحدود الباكستانية الافغانية مروراً بقلب «الشرق الأوسط» وصولاً الى اميركا الجنوبية، لم تعد الولايات المتحدة «مدينة على جبل»، يتحرق الناس للاستظلال بقيمها في القانون والنظام والعدل الاجتماعي والديموقراطية السياسية والحريات المدنية وطلاقة فرص الترقي الاقتصادي والفكري والعلمي. وإذا جاز ايكال هذا التصور البائس في الشرق الاوسط وضفافه الى ساسات واشنطن الاستقوائية والاحتلالية بالأصالة أو بالإنابة من خلال اسرائيل، فما مسوغات التصور ذاته لدى اميركا الجنوبية؟! لقد تأكد اخيراً أن 86 في المئة من فقراء هذه القارة واغنيائها يمقتون ادعاءات واشنطن حول حقوق الانسان والديموقراطية ودولة القانون. وان معظم حكومات القارة يستحسنون شعارات الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، الذي يصب اللعنات على واشنطن وسلوكياتها وقيمها مع قهوة كل صباح.

هناك، والحال كذلك، ما يؤشر الى تصدع اشياء منظورة وغير منظورة في المثل الاميركي، اشياء ستتداعى وتستطرق الى الدور والنفوذ العالمي لواشنطن. وربما تكمن بارقة الامل لاستدراك هذه الوضعية في الممانعة الخارجية للسلوك الاميركي من جهة، وفي السخط المتنامي ضد حماقات الادارة داخل الولايات المتحدة ذاتها من جهة أخرى.
"الحياة"

التعليقات