31/10/2010 - 11:02

حيرة في إسرائيل: نجتاح غزة... لا نجتاح غزة؟!../ محمد خالد الأزعر

حيرة في إسرائيل: نجتاح غزة... لا نجتاح غزة؟!../ محمد خالد الأزعر
لن نستغرب كثيراً إذا ما استبدل بعض المسؤولين الإسرائيليين قريباً مصطلح قطاع غزة بـ»صداع غزة». فاستعاضة كهذه ربما كانت أوفق للتعبير عن مقتضى حال علاقة دولتهم بهذه الرقعة من فلسطين التاريخية، ليس بالنسبة لمرحلتنا الراهنة فقط بل منذ نشئا متزامين تقريباً العام 1948.

ذاكرة أبناء القطاع مفعمة بالمرارات تجاه إسرائيل بشكل فائض قياساً حتى بالذكرة الفلسطينية الجمعية. ويبدو ذلك مبرراً بالنظر لمحطات مأسوية أساسية في سيرتهم الذاتية مع هذه الدولة، التي انقضت عليهم باحتلال مروع، استباح أرضهم وكل جوانب حياتهم لمرتين خلال عمرها المحدود أصلاً (بين تشرين الاول/ أكتوبر 1956 وآذار/ مارس 1957 ثم بين حزيران/ يونيو 1967 وأيلول/ سبتمبر 2005)، وهي تتولى الآن حصارهم براً وبحراً وجواً على نحو تتخلله غارات دموية وتهديدات متعددة الأنماط وضغوط لا يطيقها سوى أُولي العزم من البشر.

لكن المدهش أن هذا القطاع بجرمه الجغرافي المحدود وموارده الاقتصادية الأكثر محدودية، شبه المنعزل بين صحرائي النقب وسيناء والبحر المتوسط، المتخم بسكانه الأصليين ومواطنيهم من لاجئي عام النكبة، ألحق بدوره آلاماً باسرائيل، وربما بالمشروع الصهيوني برمته. فهو شهد مولد أول حكومة لـ»عموم فلسطين» في خريف 1948، ودشن أول حرب فدائية منظمة (الكتيبة 141 عامي 1955 و1956)، ومن ابنائه تكونت أولى كتائب جيش التحرير الفلسطيني وابرز قيادات حركة فتح ثم حركة حماس تالياً، ومن مُدنه وقُراه ومخيماته انطلقت باكورة عمليات مقاومة نتائج نكسة حزيران 1967 صعوداً الى الانتفاضتين الاولى والثانية على تفاوت الظروف والمعطيات. ثم إن قطاع غزة كان أول منطقة «فلسطينية» تجلو عنها اسرائيل وتطوي صفحتها عنوة في المشروع التوسعي الاستيطاني الصهيوني على مدار تاريخه تحت غطاء الخطوات الأحادية، هذا ونحوه من دون الاستطراد الى أن القطاع ظل طوال عقدي ما بعد النكبة الاولين المنطقة الوحيدة التي نجت بإسم فلسطين من الإندثار قبل أن يعوم هذا الاسم مجدداً على سطح الوجود الاقليمي والدولي.

هذا الموجز يُسهل تعليل مقولة إن إسحق رابين المغتاظ ذات حين عن أُمنيته بأن يغور القطاع في البحر. لكن الذي حدث إن اسرائيل هي التي غارت من القطاع ومع ذلك فإنها لم تخلص من الهواجس وعوامل القلق المتأتية من أحواله الفوارة في خاصرتها، فهو اليوم مبسوط في أروقتها السياسية والعسكرية العليا كواحد من الملفات الملتهبة. تماماً كما كان عليه الأمر لعشرات السنين!، وعلى رغم القضايا الملحة الأخرى بسخونة على هذه الأروقة، بما فيها مكتب رئيس الوزراء ايهود أولمرت، فإن ملف غزة يبدو متضخماً وبحاجة الى قرار استراتيجي.

أصل القضية هنا هو ان الانسحاب الأحادي من القطاع لم يؤت كل ثماره المرجوة، لا سيما على صعيد تقييد نظرية المقاومة المسلحة داخله ولجم العالقين عليها وفي طليعتهم حركتي حماس والجهاد الاسلامي، والتأسيس لقطيعة جغرافية سياسية بينه وبين الضفة والقدس بما قد ينحدر الى درك إحتمال قيام الدولة الفلسطينية في رحابه لا أكثر... القضية أن هذه الأهداف لم تتحق بالمطلق، بل وجاء الانسحاب بنتائج معاكسة لبعضها على طول الخط، إذ ازدهرت حماس حتى اكرهت فتح ومدرسة النضال المدني المؤبد على التراجع بقوة الناخبين، وفشلت نظرية المصائر المتعددة للمناطق الفلسطينية المحتلة 1967 والحلول الموقتة طويلة الاجل، واتخذت الخطوة الاسرائيلية على محمل بشائر هزيمة الاحتلال ودحره بقوة المقاومة، وباتت التهدئة المسلحة بدءاً من غزة وسيلة لمراكمة الخبرات القتالية وتخزين السلاح وتحسين مدبات صواريخ حماس والجهاد وكتائب الاقصى، ودخل العامل الايراني على المضمار الفلسطيني انطلاقاً من غزة وقواعد حماس واخواتها هناك.

الى ذلك، كان من سوء طالع اسرائيل غداة اخلائها القطاع خروج ارييل شارون مهندس الاخلاء من حلبة السياسة، الذي اوقع خليفته اولمرت وصحبه في تيه التصرف والبحث عن الخطوة التالية، ووقوع نكسة الدولة الصهيونية وجيشها أمام حزب الله في لبنان، التي جرأت فلسطينيين كثيرين، فصائل خيار المقاومة المسلحة بخاصة على عدم وضع وظيفة السلاح جانباً والاكتفاء بآلية التهدئة المتبادلة، ومع أن الصدامات الداخلية الفلسطينية على خلفية الحصار الخارجي وازمة التلاقي على برنامج وطني، منحت الاسرائيليين فسحة امل في دحر رماة الصواريخ على الداخل الاسرائيلي بجوار غزة المشاغبة دوماً، الا ان هذه البارقة سرعان ما خفتت ثم اختفت الى حد كبير بفعل المصالحات والحوارات الفصائلية، التي توجت بتفاهمات مكة وحكومة الوحدة او الائتلاف الوطني.

في مناظراتهم المستعرة منذ مستهل 2007 بشأن كيفية التعامل مع صداع غزة، يستحضر الساسة والعسكريون الاستراتيجيون الاسرائيليون هذه المعطيات، ولا تدور مداولاتهم فقط حول التهديدات الراهنة لصواريخ المقاومة الفلسطينية على المحيط الإسرائيلي القريب من غزة (كمستعمرة سديرون وجوارها) وانما يمتد هؤلاء ببصرهم الى الاخطار المستقبلية لهذه «الآفة الفلسطينية» إذا ما تركت لأيدي التطوير والتحسين وتجويد التقني المحلي أو المدعوم بخبرات الآخرين (كحزب الله وطهران...)، وإذا كان البعض منهم يثق في قدرة اسرائيل على وقف نمو هذا الاحتمال، مثل اولمرت نفسه، فإن آخرين ومنهم افي ديختر رئيس جهاز الاستخبارات يعتقدون ان الفرصة قد تكون ضعيفة بهذا الخصوص، يقول ديختر إن «غزة هي المكان الوحيد الذي لم ينجح الجيش الإسرائيلي في ردعه، بدليل استمرار استقبال الصواريخ منه...».

عند التفكير في بدائل التصدي لهذا الصداع المزمن واحتمال تفاقمه، تتبلور بين مختلف الاوساط الاسرائيلية حالة من الاجماع الوطني حول الحل العسكري/ الامني، وينفتح في هذه الحالة بقصد التأجيج رئيس الاركان الجدير جابي اشكنازي، المتحرق لتوكيد جدارته قياساً بسلفه، وإن حالوتس الذي خاب على الجبهة اللبنانية الصيف الماضي، نفهم ذلك من تصريحات اشكنازي التي لا يمل من تكرارها التي مفادها، «إن الجيش في ولايتي جاهز دوماً للحرب، ولا شك في ان عملية واسعة ضد غزة سنقضي على خطرها الإرهابي» ومن سياق الجدل الاسرائيلي بالخصوص، فضلاً عن مشاهدات الاستعداد اللوجسبتي العسكري على مشارف القطاع. نفهم ايضاً انه لا مجال لاستئناس المؤسستين السياسية والعسكرية هناك بغير هذا الطرح المتنمر. وعليه، يكاد انطلاق رئيس الاركان وقواته نحو غزة يرتهن فقط بالتوقيت المناسب سياساً.

على هذا الصعيد تصطك وجهتا نظر، ترى أولاهما ضرورة التعجيل بضربة إجهاضية قد تكون مكلفة عسكرياً وسياسياً واعلامياً، لكن ثمن الانتظار سيكون أفدح لأن «حماس باتت تشكل اربعة ألوية مسلحة ومدربة جيداً، وسيؤدي الصبر عليها الى بث مزيد من العبوات الناسفة حول القطاع على غرار التكتيكات الجارية ضد الأميركيين في العراق التي تأكدت نجاعتها، ويذهب عضو لجنة الخارجية والامن في الكنيست يوفال ديسكين الى ابعد من ذلك وهو إن «التنظيمات الفلسطينية تتنافس على من سيطلق اول صاروخ متطور ضد مركز اسرائيل من الضفة، ولذا فإن ايذاء غزة سريعاً سيكون عبرة للضفة» أما وجهة النظر الثانية فتتحفظ على هذه المسارعة مفضلة التأجيل بعض الوقت مع تهيئة الأجواء، لا سيما الخارجية، لتقبل «غزوة غزة» بقبول حسن... ذلك لأن الفلسطينيين سيحصدون جراء ضربة عاجلة الآن تعاطفاً كبيراً عربياً واقليمياً ودولياً بحسبهم يتعرضون لضغوط عسكرية في منطقة مكتظة تعاني أصلاً من حصار مطبق أوردها المجاعة والبؤس الشديد، وستتعزز اكثر شعبية حماس ونظائرها فيما هم الآن موضع شكوك في صلابتهم الايديولوجية والسياسية بعد شراكتهم مع فتح وفصائل التسوية السلمية المعترفة بإسرائيل، كما ان هناك احتمالاً لا ينبغي استبعاده وهو مباغتة اسرائيل من الجبهتين السورية واللبنانية بما يوسع الخرق على الراتق الإسرائيلي، كذلك يخشى اصحاب مدرسة التريث هذه ان تفضي الضربة المزمعة الى انهيار السلطة الفلسطينية في غزة واضطرار اسرائيل الى تحمل مسؤولية زهاء مليون ونصف من «العاطلين شبه الجياع» الامر الذي تخلصت منه بشق الأنفس. بدلاً من ذلك ولتحييد هذه المحاذير ومنعاً لتهييج المعتدلين العرب وإحراجاً لنفوذ ايران، يقترح هؤلاء إمكان الاعتماد على عمليات القتل المستهدف وتدعيم جهود الاستخبارات ضد القيادات والمراكز «الإرهابية».

والحال انه الى نهاية آذار (مارس) الماضي وبداية نيسان (ابريل) الجاري كان اولمرت من معتنقي هذا التقدير الأخير غير أن هذا الموقف قد لا يطول في ضوء رغبة رئيس الوزراء الاسرائيلي ومعهم اعضاء حكومته، وبخاصة وزير الدفاع عمير بيرتس، الهروب من المطاردات التي تلاحقهم بوصمات الفساد وضعف الخبرة وعدم الصلاحية وقلة الشعبية، وبهذا الشأن يقال إن الاسرائيليين تستروا على فساد ارييل شارون وولده عومري بين يدي الحرب على السلطة الفلسطينية وياسر عرفات، وان اولمرت وبطانته قد يفعلون الشيء ذاته مع غزة هذه المرة، طمعاً في الافلات بسيرتهم المتهافتة، هذا امر جائز حقاً وربما تصاعدت حظوظه الى مرتبة الخيار الانسب غداة صدور تقرير لجنة «فنينوجراد» التي تحقق في خيبة اسرائيل في لبنان 2006.

على أن هناك بديلا اقل كلفة من الغزو المباشر بكثير يراود تل أبيب بإلحاح، هو انهيار الوفاق والاحتكام مجدداً للغة السلاح في الداخل الفلسطيني، عندئذ، لن تحتاج اسرائيل لغزو غزة بل سيتكفل «امراء الحرب» الفلسطينيون بذلك، يقيناً يجتهد المسؤولون الاسرائيليون على هذا المضمار، وذلك قدر اجتهادهم الآن لاستدراج الفلسطينيين نحو حادثة تنطلق من غزة، تسمح لهم بافتراسها في مناخ مواتٍ، لكننا بالقدر ذاته من اليقين لا نتوقع لعدوان كهذا ان ينهي المساجلة التاريخية الدموية المريرة بين اسرائيل والقطاع الذي طالما استعصى على التطويع، ونقول لأولمرت والذين معه «كان غيركم أشطر».

"الحياة"

التعليقات