31/10/2010 - 11:02

حين تصبح الوحدة والشراكة خطاً أحمر../ د.عبدالإله بلقزيز

حين تصبح الوحدة والشراكة خطاً أحمر../ د.عبدالإله بلقزيز
تقدّم أزمة المشاركة السياسية وجهاً من وجوه أزمة السياسة والحياة السياسية في البلاد العربية اليوم، وهي قطعاً مظهر صارخ لغياب المؤشرات الدالة على وجود مجال سياسي بالمعنى الحديث في هذه البلاد. ولسنا نقصد بأزمة المشاركة السياسية ما بات مألوفاً التعارف عليه بأنه انعدام الحق في ممارسة الحقوق السياسية وهي من مستلزمات المواطنة مثل الحق في الرأي والتعبير، والحق في الانتماء وتشكيل الأحزاب، والحق في التمثيل والاقتراع، فقد تكون هذه الحقوق مكفولة (وهي كذلك مكفولة جزئياً في بعض قليل من البلاد العربية) من دون أن تتحقق بها مشاركة سياسية من النوع الذي نقصده.

المشاركة السياسية التي نقصد هي المشاركة في صنع القرار وفي إدارة سلطة الدولة، وهي قطعاً ما لا يمكن حسبان التمثيل النيابي شكلاً من تحقيقها. وليس مردّ ذلك الى أن البرلمانات العربية شكلية وغير ذات سلطات تشريعية أو تقريرية في المعظم منها، أو إلى أنها ليست منبثقة عن إرادة حرة يمارسها الشعب من خلال اقتراع نزيه وشفاف بمقدار ما تتعرض للتدليس والتزوير والإفساد، ولا مردها الى أن النظام السياسي في البلاد العربية ليس نظاما برلمانياً (وإنما هو نظام رئاسي في الجمهوريات كما في الملكيات)، وإنما مردّه الى أن البرلمان ليس دائماً وحتى في الأنظمة الديمقراطية المكان الوحيد لصناعة القرار، بل لعله لم يكن كذلك يوماً، وإلى أن الإدارة الفعلية للسلطة والدولة إنما تجري من خلال الجهاز الحكومي: أعني في الأنظمة التي تتمتع فيها الحكومة بسلطة حقيقية ولا يكون فيها الوزراء مجرد نُدماء لرئيس الدولة.

ومن النافل أن هذا النمط من المشاركة السياسية يكاد يكون منعدماً في البلاد العربية، إما لانعدام السياسة أصلاً واقتصارها على الحاكم وبطانته، أو لإقامة لعبة السلطة على ثنائية الأكثرية والأقلية، الموالاة والمعارضة، ضمن شروط ومناخات يحيط فيها الشك بنزاهة هذه الثنائية وانطباقها الصحيح على الواقع التمثيلي. فالذين يحكمون، من خلال الجهاز الحكومي، يحتكرون ما شاط من سلطة الرئيس إما باسمه أو باسم أغلبية نيابية منحتهم إياها صناديق الاقتراع (في النادر من الحالات) أو وزارات الداخلية (في الأعم الأغلب من الحالات). وحين يدعوهم من يدعوهم الى فتح الباب أمام المشاركة في إدارة السلطة، يردّون على دعوته متهمين إياه بالسعي في إحداث انقلاب في النظام السياسي، أو يُذكِّرونه في أفضل صور الرد عليه بأن لديه الحق في ممارسة المعارضة المشروعة من خلال المؤسسات.

لعل الموقف السلبي من فكرة حكومات الوحدة الوطنية مثال لذلك النوع من الأزمة التي تعانيها مسألة المشاركة السياسية في البلاد العربية. من المفيد، بداءة، التنبيه الى أن مجرد حمل مطلب المشاركة في السلطة من قبل فريق سياسي ما عبر حكومة اتحاد وطني تكون إطاراً لشراكة في القرار، هو في حد ذاته تطور في الوعي السياسي، ودليل نضج في مضمار فهم مسائل السياسة والسلطة والاجتماع السياسي وقضايا التغيير وما يرتبط بذلك كله. إنه يعني في جملة ما يعني تجاوزاً (نفسياً وفكرياً وبرنامجياً) لفكرة الاستيلاء على السلطة ولفكرة احتكارها: وهي كانت عقيدة الجميع الى عهد قريب! وهي تبطن دعوة الى تجاوز حال الانقسام المجتمعي والسياسي (المختفي وراء ستار ثنائية الأكثرية/ الأقلية والموالاة/ المعارضة) وإعادة تأسيس السياسة والعلاقات السياسية داخل الاجتماع الوطني على فكرة الإجماع والتوافق. وهذه في ظني مما يفتقر اليه المجتمع السياسي العربي ومما لا تقوم دول حديثة إلا به، خاصة أن مجتمعاتنا العربية تعاني من نقص فادح في التجانس الاجتماعي وفي عناصر التوحيد السياسي في مقابل تضخم مفرط فيها للعوامل والأسباب الدافعة الى الاختلاف والفرقة والشقاق.

ولقد يشتد أسف المرء كثيراً حين يعاين مقدار ما تلقاه فكرة الشراكة في السلطة عبر حكومة وحدة وطنية (في بلدين عزيزين على نفس كل عربي هما لبنان وفلسطين) من صدٍّ ودفعٍ لأسباب وتعَلاَّت لا نصيب لها من الوجاهة والحجّية. ويضَّاعف مقدار الأسى والأسف في النفس حين نعلم أن طبيعة التكوين السياسي في ذينك البلدين من الحساسية والهشاشة والتوازن بحيث لا يتحمل منزعاً الى الأوحدية في التمثيل والحكم، أو إمعاناً في إسقاط حقوق الخصم السياسي والاجتماعي باسم هذه الذريعة أو تلك. ويبلغ الأمر مرتبة الاستغراب حين تتحول المطالبة بالشراكة السياسية وبحكومة الوحدة الوطنية الى سبب جديد للانقسام بدلاً من أن تفتح أفقاً أمام التفاهم الوطني وإشاعة الثقة العامة إن كان الإجماع أو التوافق ممتنعاً! في مثل هذه الحال، يسوغ للمرء أن يتساءل صادقاً: هل باتت السياسة أفقاً مستحيلاً في أوطاننا، وأصبح معناها الوحيد لعبة الإلغاء؟ ثم ما الذي يعنيه إلغاء السياسة غير إلغاء الوطن والكيان؟

ليس بين الداعين إلى حكومة الوحدة الوطنية وبين الرافضين لدعوتهم في لبنان وفلسطين من البوْن والخلاف ما يُسقط حجّة الداعين ويُعلي أسباب الرافضين، فبين هؤلاء وأولئك ما يجمعهم جميعاً على خيار الوحدة والشراكة. في لبنان بينهم ما يجمعهم: البيان الوزاري الذي نالت به الحكومة ثقة البرلمان، وميراث التحالف الرباعي الذي فتح الباب أمام الحكومة عَيْنها، وما تحصًّل من وفاق واتفاق على مائدة الحوار الوطني، ناهيك عن الرغبة المشتركة في إعادة بناء الدولة وإعمار البلد وحماية الوطن وتحرير الأسرى وما تبقى من تراث وطني محتل من العدو. وفي فلسطين بينهم ما يجمعهم: “وثيقة الوفاق الوطني” (“وثيقة الأسرى”)، “اتفاق القاهرة”، “اتفاق مكة”، تجربة حكومة الوحدة الوطنية، ناهيك عن العدو المشترك وإرادة التحرر الوطني والاستقلال. فَلِمَ إذن يُلغي أحدٌ أحداً؟ ولِمَ يستكثر فريق على فريق حصته في إدارة الشؤون العامة؟ ثم هل البديل القائم (الانقسام الأهلي والسياسي والمؤسساتي والجغرافي...) أفضل من مشهد الحوار الوطني والشراكة السياسية؟!

قد يكون الانطباع السائد في الوطن العربي عن لبنان وفلسطين أن الوعي السياسي لدى النخب في هذين المِصرين من أمصار العرب هو الأعلى والأرقى، مقارنة بغيره لدى النخب العربية الأخرى. هو مجرد انطباع؛ وكأيّ انطباع، فهو قابل لأن يتبدّد متى قام دليل من الواقع المادي على بطلانه. وأسأل: ماذا يفعل اللبنانيون والفلسطينيون اليوم غير أنهم يبددونه ويقيمون الدليل من أنفسهم وأفعالهم على بطلانه؟!
"الخليج"

التعليقات