31/10/2010 - 11:02

سيئ حظ الأرض التي تروى بغير الماء../ أمجد ناصر

سيئ حظ الأرض التي تروى بغير الماء../ أمجد ناصر
أُفتي ذات يوم لأناسٍ كانوا يرزحون تحت حصار قاس بأكل القطط والفئران بعد أن نفدت مؤونتهم. أتوا أولاً على ما كان في بيوتهم، ثم ما حوته 'البقاليات' في شوارعهم الضيقة.

ثمة أشجار قليلة لا تؤكل ثمارها جردت وأكلت. لم يبق ما يؤكل في ذلك المربع الصغير المحاصر برجال يصوبون البنادق والرشاشات إلى كل من يتحرك على نحو مكشوف في الشوارع، وخصوصاً، اولئك الذين كانوا يغامرون باختراق الحصار المحكم. بعد أن لم يبق ما يؤكل أفتى رجال الدين للمحاصرين في الداخل بأكل كل ما يدب على الأرض: القطط، الفئران، الجرذان، الكلاب السائبة. كانت الأمطار التي هطلت قد تكفلت، نسبياً، بحل مشكلة الشرب. لم تكن هناك أرض خلاء في ذلك المربع الصغير المحاصر برجال مسلحين كي تنبت أعشاب تؤكل. كان الحصار المحكم علنياً. يعرفه الجميع. التلفزات والاذاعات تتناقل أخباره.

الصحف تسهب في الحديث عما يجري وراء سياج بنادق المحاصِرين. النسوة في الخارج تدعو لفك أسرهم. رجال الدين يفتون لهم بأكل ما لا يؤكل في الأحوال العادية. لكن أحداً لم يستطع ايصال ما يؤكل أو يشرب إليهم. سمي ذلك العقاب الجماعي المعلن 'حصاراً'. انتهى الحصار لأسباب 'سياسية' مثلما بدأ لأسباب 'سياسية'. آلام الناس نسيت. لم يعاقب أحد على تلك الفعلة. لكن الفعلة ستتكرر، لاحقاً، من دون أن تشكل، على ما يبدو، عبرةً أو فصلاً أخيراً في كتاب الشقاء والأمل.

ثمة مكان أوسع من المكان السابق. أكثر اكتظاظاً بالناس، خضع لحرب وحصار قاسيين. منذ عامين، تقريباً، يرزح أناسه المهانون في كرامتهم البشرية تحت أنواع شتى من الإذلال تبدأ بمنع الامدادات الغذائية والطبية ولا تنتهي بالحجر الذي يشبه ما كان يخضع له المصابون بالجذام. لم ينفع الحصار لجعله عبرة لمن يتحدى مشيئة القوة الغاشمة.. فكانت الحرب.

ثلاثة أسابيع من القصف السجادي المرعب. ثلاثة أسابيع من 'الرصاص المسبوك' الذي يخرُّ على رؤوس الجميع من دون تمييز تقريباً، صانعاً كرنفالاً مزيفاً من الشهب. ذلك المكان يسمى 'قطاع غزة'. تلفزات هذه الأيام أكثر فعالية ونشاطاً وثرثرة مما كانت عليه أيام 'حصار بيروت' والخروج الى البحر ثم حصار مخيماتها، لاحقاً، على يد أشقاء أشقياء. إنها تتنقل، بخفة تحسد عليها، بين متناقضات لا يمكن لها أن تجتمع إلا في هذا الجزء من العالم. قدمت التلفزات العربية صوراً مخيفة من غزة هيجت الشارع ولكنها لم تحرك 'أصحاب' القرار كثيراً. لأن لـ 'أصحاب' القرار، عندنا، أصحاب قرار آخرين. الاشارة تأتي من هناك، فإن لم تكن ثمة اشارة يغطون أنفسهم ببقايا كلام قديم تعينهم عليه لغة كريمة فضفاضة.

أثناء الحرب على غزة كان يمكن لنا أن نشاهد أباً يبكي ابناءه القتلى، دماراً هائلاً يشبه عصفاً نووياً، أناساً يركضون على غير هدى، ثم نرى فندقاً، بين البحر والصحراء، يعيد بناء قارة خرافية ضائعة. في النشرة نفسها تبكي أم ابنها الذي يموت أمام عينيها، الدمار الذي يشبه عصفا نووياً، تعقبهما، مباشرة، مغنية أجنبية تقدم وصلة في الفندق المذكور مدتها ساعة بأجر يبلغ مليوني دولار! علامة التعجب الأخيرة من وضعي. وهي تبدو ميلودرامية بعض الشيء، إذ ان هذه المفارقات لم تعد تثير، على ما يبدو، العجب في حياة تبلدت أمام تكرار الصور. إنها مجرد علامة تنقيط تقتضيها قواعد الكتابة ليس إلا. علامة التعجب، كما ينص عليها المعجم، تكتب ولا تلفظ. أي أنها بلا صوت.

أخبرني صديق خرج بمعجزة من ذلك الشريط المدمر، المحاصر من خمس جهات، عن وضع يشبه الجحيم. كان هذا الصديق معي في بيروت أثناء الحصار الاسرائيلي في صيف عام 82. لفَظَ كلمة 'الجحيم' من دون أية دراماتيكية تذكر. ظننت أنه استخدم الكلمة بوصفها 'كليشيه' دارجة في الكلام العربي. لذلك سألته عما يقصد بكلمة 'الجحيم' وعما اذا كانت مجرد مبالغة في الوصف. فقال لي: أقصد الجحيم فعلا. حاول إنعاش ذاكرتي. قال لي: تذكر بيروت. تذكر ما حصل عندما كنا هناك. إن استطعت تنشيط ذاكرتك وعدت، من أغوارها السحيقة، ببعض الصور القديمة فإن ما حصل في غزة يشبه تماماً ما حصل في بيروت. إنه الجحيم نفسه. شيء يشبه جحيم دانتي. قال إن للجحيم الغزيِّ سدنة ومعابر وفيه درجات وطبقات وله بزنس ووكلاء. الدخول إليه ممكن لأن الجحيم بطبعه مضياف، لكنَّ الخروج منه مستحيل. يمكن لبعض نزلائه أن ينتقلوا من درجة الى أخرى. ولكنهم يظلون داخل الجحيم. فهو واسع رغم ضيقه.

لا يحتاج الجحيم مساحة كبيرة. يمكن له أن ينصب عدته وآلاته في مربع صغير من الأرض. لأن الجحيم عمودي وليس أفقياً. الناس يتكومون فوق بعضهم بعضاً، البنايات والمرافق والأرواح تتكدس طبقة فوق طبقة. قال: غريب أن أصف لك الأمر وأنت تعرف ماذا يعني بالضبط. قلت له: الذاكرة لا تحتفظ، طويلاً، بمثل هذه الصور. لم أنس ولكني أحشائي لا تنقبض عندما تحدثني، الآن، عن الطائرات. كنت أتصور أنني لن أنسى تلك الرجفة. ولكني نسيت. لن أنسى العطش والجوع وحكة الجلد والثياب التي تصبح جلداً ثانياً ولكني نسيت. كنت أتصور أنني سأتذكر، طويلاً، ذلك الهول الذي يحدثه انقضاض الطائرات على الأرض وروائح الحرائق المختلطة بلحم حي ودمى وعطور وكتب.

أن ترى طائرة تغير على شاشة تلفزيون غير أن تراها بالعين الهلعة، أن تسمع صوت الإنفجار على الشاشة غير أن ترتج بك الأرض ويتطاير حولك الكون كله. ننسى أن ذلك سيحدث مرة ثانية. أنه سيظل يحدث، دائماً، حتى نصل الى الفصل الأخير من كتاب البلاد التي تغير اسمها ولغتها وأشجارها ولكن لم يتغير ترابها.

ننسى أن الأرض لا تروى، في هذه الجهة من العالم، بالماء وحده. سيئٌ، بالطبع، حظ البلاد التي ينبغي أن تسقى بغير الماء، ولكن هذا هو، على ما يبدو، ثمن استعادة الاسم واللغة والشجر.

التعليقات