31/10/2010 - 11:02

عشية القمة العربية: الشراكة والأخطاء المراكمة../ نسيم ضاهر

عشية القمة العربية: الشراكة والأخطاء المراكمة../ نسيم ضاهر
وجدت القيادة الإسرائيلية الضعيفة درعها الواقية في ادعائها البحث عن شريك فلسطيني مفقود. بالمقابل، وبعد محادثات مضنية توّجها اتفاق مكة برعاية سعودية، انجب الحوار بين الفصائل الفلسطينية «شريكا» محتملا بصيغة حكومة ائتلافية ركناها حماس وفتح المتصارعتان على الساحة والتمنازعتان على السلطة.

يتسم الحقل الفلسطيني بغرابة ملحوظة مردها تعدد القراءات المفهمية والباس المصطلحات المتداولة والعناوين مضامين متضاربة، ناهيك بالاشكالية الخاصة بحماس، والناجمة عن مقاربتها لموضوع السلطة المنبثقة عن اتفاق اوسلو الذي رفضته وما زالت تعارضه بشدة وتتبرأ من مفاعيله. ولا ريب ان منسوبا عاليا من المداراة والمداورة المتبادلة يخفف الجفاء ووطء المضمر من غايات بين الاطراف ذاتها، لكنه يقود القضية في إطار ما سمي يوما «بصفقة المغفلين»، ويثقلها بالالتباسات، وبالتالي ينال من سمته ومصداقية المؤسسة الفلسطينية على كافة الصعد، من الاصدقاء الى المحافل الدولية.

يدفعنا صدق القول الى مكاشفة اخوية عوضا عن التعمية على الحقائق. بادئا، وبألم عميق، يُسجّل تراجع بائن في التضامن الأممي مع الشعب الفلسطيني، وتآكل شبكة حمايته المعنوية التي نُسجت على مدى عقود، وانحسار الحملات المؤيدة لكفاحه. شحّت المبادرات التي كانت ترفد صموده بمواجهة الاحتلال، والافدح، خفّت الحماسة الرومانسية والالتفاف الحاضن ليوميات عذابات الفلسطينيين، وتضاءلت رقعة الاهتمام بهم والدعم لهم الى حدود دنيا وجماعات هامشية محدودة. من الخطأ البالغ ان يعزى الأمر الى مكيدة او سعي خبيث من المتربصين بالشعب الفلسطيني، واستحضار المؤامرات، لأن في ذلك هروبا الى الامام، واغفالا ساذجا للتشققات والتشوهات، وتنصلا من المسؤولية الملقاة على عاتق المسيرة الفلسطينية وما آلت اليه في السنوات المنصرمة. وحده المكابر يجرؤ اليوم على المفاخرة بحصيلة حقبة اعادت الوعي الفلسطيني الى مربع الأزمة الكيانية، وشطبت دروس تجربة مديدة خبرت الثأر من البدايات والشعارية الشقيرية المؤذية، ومن ثم نهوض الكفاح المسلح، بحسناته وارهاصاته واغلاطه، وبلورة حركة تحرر وطني وسط ركام البؤس والشتات. وعليه، تجاوزت منظمة التحرير بقيادة الرئيس الراحل عرفات، محنة مغادرة بيروت، وحطّت في تونس تعيد مجمل الحسابات وتراجع حساباتها طوال اثني عشر عاما من المآسي والاغتيالات، لتستخلص وجوب العض على الجراح وسلوك طريق تسوية تاريخية جمعت الواقعي الممكن الى المجحف، بأمل كيان دولتي ينقذ الهوية، رغم الغبن المرافق له والمتمثل بتراب وطني محدود في الضفة والقطاع، رصيد فلسطين التاريخية من البحر الى النهر، يجاور اسرائيل ويقبل العيش الى جانبها.

شكلت اوسلو نهاية مرحلة وبداية مسار جديد في آن، اختير له مصطلح الشراكة. بالغ عرفات في استعماله على وجه منتفخ، وانتهى بالوقوع في شركه. الحقيقة ان خلطا زائفا جرى بين الأمل المعقود والواقع غير المتكافئ، وتم «القفز سريعا من عداوة عضوية مطلقة الى اخاء قليل النضج متسرّع فاقد الشروط. شُبّه للجانب الفلسطيني ان مفاوضات الحل النهائي قادمة، وكفيلة بترجيح كفة المخضرمين، وان مساحة الحرية النسبية المعطاة للسلطة تخوّل الخروج من اسر الاحتلال ومستوطناته ونقاط ارتكازه. بددت اوسلو هواجس، واستولدت مخاوف مضافا لها فاقمة تلكؤ اسرائيل عن إقران «النوايا» بالأفعال، وتباطؤ زخم الاتفاق تبعا لمزاج الناخب الإسرائيلي، ومخاوفه الأمنية، والمزاعم التوراتية الساكنة قطاعات من مجتمعه.

وعلى الضفة الفلسطينية، ازداد التوجس من الرقص الإسرائيلي المنفرد، واختلاقه الذرائع كلما لاحت فرصة تقدم، حتى انتهت ولاية الرئيس الأميركي كلينتون، وافسد الفريقان محادثات الساعة الأخيرة في طابا: باراك بتخوفه من الالتزام الصريح خشية الدفاع عن الموقف امام الكنيست، وعرفات بعدم الاقدام على الخطوة النوعية مخافة المزايدة عليه، فلسطينيا وعربيا. يومئذ، كُتب على الفلسطينيين العيش على وقع تداعيات وترددات الحادي عشر من ايلول، فاندلعت الانتفاضة الدموية، وتبدّلت قوانين اللعبة جذريا.

اصبحت اتفاقية اوسلو معلّقة، تتأرجح بين مخالفة لبنودها وطعن بمضامينها، فيما عرفات شبه سجين، من دون ان تمزّق كليا ونهائيا. لم يدوّن ما جال في ذهن الرمز وما عاناه، إلا ان ضبط الاحداث والتحكم بمسار الانتفاضة لم يكونا من السهولة مطلقا، فعمد الرئيس الفلسطيني الى المزاوجة والمواءمة بين طرفي نقيض، واجتهد لاحتواء اندفاعة حماس من خلال جناح كتائب شهداء الاقصى، عين عليه خفية، وعين على المفاوضات المتعثرة، عبر ادانة العمليات الانتحارية لفظا. بهذا السلوك المزدوج امسك عرفات العصا من وسطها، يناور ويهدئ جهارا، ويحث خلسة على المضي في المواجهة، حتى إذا ما تمكن من الابقاء على حالته ونفوذه الوازن فلسطينيا من موقع الند، فقد موقعه كمحاور واعد، وفرّط بكيمياء وكاريزما فاعلتين في المجال الدولي، وازاء الولايات المتحدة على وجه الخصوص. مذ ذاك، دخلت القضية في النفق، وراوحت في المكان خارج زمان ما بعد ايلول، حاملة المزيد من المراهنات والتعقيدات، محكومة باشتداد التنافس الداخلي بين فتح وحماس، فيما اسرائيل ماضية بتغيير المعادلة على الارض، غير عابئة بانقاذ مسار اوسلو، مصممة على زج محاورها الفلسطيني في غمار الخيارات الصعبة المستحيلة.

سارت الولايات المتحدة الى مجاراة شارون كليا، وارتكبت خطأ بحجم الجريمة حينما اسهمت في عزل عرفات واسقاط صفته كشريك مقبول. ولقد وفّرت لها القيادة الفلسطينية رزمة من الذرائع، افسدت الود المخطوب الحديث العهد، ما اجبرها على المراوحة والقعود في انتظارية مكبّلة، تحاول بخفر فتح كوة في الجدار المسدود. بدورها، احجمت حماس (والجهاد الاسلامي) عن الشفاعة بالسلطة المأزومة، تدك الاسفين تلو الآخر في نعشها، وتعطّل او تفشّل بعملياتها سلفا كل بادرة اعادة وصل وتلمس احياء مسالك بديلة عن المفاوضات المنهارة. هكذا تهاوت هندسات السلطة تباعا بقدر ازدياد مصاعبها ومشاغلتها في الداخل على خلفية تعثر نهجها والشك بفعاليته واستشراء الفساد في صفوفها.

اجتمعت المصاعب على فتح، حزب السلطة الوليدة المنقوصة والمحاصرة. جراء الوهن، ومركزية القرار بيد الرئيس عرفات المتنسّك في المقاطعة بعيدا، للمرة الأولى، عن مجريات الحراك، تشتت وتشظّى الخطاب الفلسطيني، ومال نحو مفردات ومفاهيم استقاها من حديقة الجهاد وحقيبة المنظومة الغيبية ذات المدلولات الغامضة والحبلى بالمحرّمات. وكما وقعت السلطة فريسة اشتراطات ومواصفات الشراكة والشريك، مع علمها اليقين بعدم القدرة على الايفاء من موقع الند للدولة المحتلة، كذلك، وبعامل العقيدة القائلة بوقفية فلسطين، والالتزام الديني الذي يعلو الواجب الوطني، وربما ايضا للتمايز عن غريمتها فتح، احرقت حماس (المنتصرة في الانتخابات التشريعية) غالب اوراقها، واهدرت سياسات حكومتها في التنصل والبراءة من صفة شريك اسرائيل، وظهر اصرارها على نفي التهمة بمثابة الوجه الآخر للعقدة الاصلية. وفي كلتا الحالين اضحت مقولة الشراكة محور التعريف والفصل والمشروع السياسي، تقترب منه فتحاويا، وتبتعد عنه حماساويا.

اذنت ساعة الحقيقة، وما من جواب قاطع صريح على مسألة اقامة الدولة الفلسطينية كخيار واجب وضرورة تاريخية. ان القناعة بهذه المسألة تملي على ابناء القضية معاهدة الناس على الالتزام الصادق ببوصلتها، وتفترض وضع حد للتأويل والاجتهاد المعوّقين لتحقيقها.. فكل شرط واشتراط يهونان، وكل عقبة تزول امام المهمة الرئيسية، مفتاح الرد التاريخي على الهزيمة، وضمان تقرير المصير وبقاء الشعلة الفلسطينية حيّة. ثمة ترتيب لا مناص من السير به، عنيت ان الدفع بازالة الاحتلال يبقى منقوصا عاريا اذا لم يقرن باقامة دولة فلسطين الديموقراطية على قاعدة الانخراط في عملية السلام، أيا تكن عراقيل اسرائيل واستفزازتها. وهذا يستدعي العزوف عن كل ما من شأنه القول او الايحاء باستئخار مسألة الاعتراف المتبادل، والتلطي وراء الصياغات الغامضة او الهيدلية كالهدنة الطويلة، والتوليفات الناسفة للحل كصراع الوجود، والتمترس خلف الحق التاريخي المطلق لاجهاض التسوية بين عدوين قبل ان يصبحا شريكين. وفي السياق ذاته، ينبغي الاقلاع عن المساجلة «المبدئية» البحتة حول حق العودة، وقراءة القرار 194 الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة من منظور الراغب في مداواة الجراح وطي ملف شائك يعاكس مقولة ابادة الشعب الفلسطيني التي تردد برومانسية، أي مجانبة المقاربة الوجدانية، وعدم التضحية بانتزاع المكاسب الوطنية للمقيمين (وهي جزئية بالتأكيد في الاطار الفلسطيني الشامل) لحساب صافي قضية اللاجئين المعقدة والمتفرّعة اصولا وفصولا وتوظيفا في شكل ليس ببعيد عن غايات انظمة متقاعسة و«محبة» اقصائية من الشوفينيين.

انسحبت اسرائيل من قطاع غزة بالأمس القريب. وكيفما اختلف تقويم هذا الانسحاب، مدى واسبابا ومرادا، فلقد افضى الى واقع جديد ومحطة لاختبار كيفية ادارة الفلسطينيين للأمور، في ظروف بالغة الصعوبة من دون ادنى شك. ابقت اسرائيل الغاما موقوتة وعملت على تطويق التجربة وإشغال الطرف الفلسطيني بلا هوادة، الأمر المتوقع من محتل خُذل وأجبر على الانسحاب.

بيد ان الفلسطينيين انفسهم تباروا، على مرأى العالم وسمعه، في تمزيق نسيج مجتمعهم، وذهبوا بالخصومة والتنازع الى حد الاقتتال العصبوي والعشائري في المدن والدساكر والمخيمات. ليس بخاف ان الصورة المعطاة في القطاع قد اساءت عميقا الى قداسة قضيتهم واخلاقية (ونزاهة) ادواتهم السياسية والتنظيمية وملاك ادارتهم. ولئن سارت الأمور نحو التهدئة، يكللها اعلان حكومة الوحدة الوطنية، فما زالت اسباب النزاع كامنة متأصلة، والحلول الجذرية مؤجلة الى نصاب تنافس ديموقراطي سلمي يجسّد الوفاق الوطني المؤمل من فوق. اللافت الحافل بالمغازي ان حماوة الصراع الداخلي، واتخاذه اشكالا عنفية من خطف واغتيالات وحرب شوارع، يستمران ـ الى حد ـ وقفا على القطاع دون الضفة، ليس لفارق وجود الاحتلال حصرا، إنما تبعا لخاصية نفوذ حماس في معقلها الاساسي، وتصادم رؤيتها مع فتح تحديدا حيال المعيش اليومي والمناخ الثقافي والخيار المجتمعي وطبيعة السلطة ووظائفها، على قاعدة اختلاف المرجعية في الحكم والنظرة الى الدولة والاهداف المرسومة للمقاومة وحدودها.

عشية القمة العربية المرتقبة في 28 آذار الجاري، وفي ضوء ما رشح عن ايراد موضوعة تفعيل مبادرة السلام المقرة في قمة بيروت، بندا اساسيا على جدول اعمالها، سيكون الوفد الفلسطيني مطالبا بايضاح مواقفه من الخيار السلمي والحاضنة العربية وسبل الوصول الى قيام الدولة الفلسطينية، من دون لبس، وجميعها يستبطن مراجعة نقدية وقبولا بتسوية لا تتفق مع منطلقات حماس وادبياتها. غدا، في المحفل العربي الاعرض، امتحان البراغماتية الأصعب، اذ ان عنوانها لن يقتصر على ترتيب البيت الداخلي المحقق طازجا (وفوقيا هشا) في حكومة الوحدة، بل سينسحب على الاساس الاساس في اخراج الجانب العربي ملف الصراع ـ من دون ضمانة اكيدة من حيث تجاوب اسرائيل الفوري ـ من ثلاجة مليئة بالمسكنات. بلا مجاملة ولا تورية تتستر على مخفي العلاقات، سوف يجري البحث عن اوسلو ـ 2 عامة مكشوفة تقول ما تعني وتعني ما تقول، وتضع حدا للمراوحة. واذا ما اهتدت بموازين القوى ودروس الماضي، فستجد ان العالم قليل التعويل على الوجدانيات والفرضيات الوردية والمرجئات.

"السفير"

التعليقات