31/10/2010 - 11:02

في أنه عقل إنساني واحد...../ محمد الحداد

في أنه عقل إنساني واحد...../ محمد الحداد
لا يوجد دليل واحد يثبت أنّ العقول البشريّة مختلفة بطبيعتها، فإذا وجد اختلاف بين البشر فهو لا يرجع إلى الطبيعة ولكن إلى الثقافة، أي إلى الذاكرة الجماعيّة التي يرثها كلّ إنسان من المجموعة التي ينتمي إليها دون اختياره. وعمليّة الوراثة هذه تحدث حسب درجات متفاوتة من الوعي، تبدأ من مقولات وأفكار عديدة تُستبطن دون وعي من خلال اللغة التي تبدو مجرّد وعاء للتعبير. وهي تحمل في الحقيقة رؤية متوارثة للعالم، وتمرّ عبر ما يستبطنه الفرد من أفكار ومسلّمات يستقيها من محيطه منذ الصغر ويتواصل أثرها في نفسه إلاّ إذا سنحت فرصة المراجعة. وجزء من هذه المسلمات ضروريّ لضمان عمليّة التواصل بين الفرد والمجموعة المحيطة به، إذ المسلمات الاجتماعيّة يصعب بغيابها الكلّي إقامة تواصل حميمي بين الأشخاص. لكن لا شيء يحتّم على الفرد أن يذعن لها جميعا، فالإنسان قد وُهب القدرة على التفكير، والفكر غير الثقافة وهو ليس توارثا لكنّه جهد فردي يقوم على الإرادة وتحصيل الوسائل. ويكون الفرد فاعلا في المجموعة مفيدا لها إذا لم يقتصر على ترديد موروثها، بل مارس لفائدتها موهبة التفكير المزروعة فيه. ويترتّب على ذلك تمرّده على جزء من المسلمات الجماعيّة.

والمجتمع الراكد هو الذي يعلي من قيمة الاتباع ويحقّر من قيمة التفكير الفردي. وتنتمي مجتمعاتنا إلى هذا الصنف لأنّها تنظر في الغالب إلى مساءلة الذات على أنّها خيانة أو على الأقلّ مغامرة غير محمودة العواقب، وتظنّ أنّ أفضل الطرق لحماية الذات الابتعاد عن كلّ بدع التفكير والممارسة، فلا يتعوّد الأفراد على التفكير الحرّ والنقد البنّاء وينقادون إلى الكسل الذهني وهم يظنّون أنّهم يحسنون بذلك صنعا.

ثمّة إذاً عقل إنساني واحد وقيم كونيّة مشتركة يمكن للبشر أن يلتقوا حولها، ليس بالتخلّص من ثقافتهم وتقليدهم وتراثهم بل بتأويل ذلك تأويلا إنسانيّا منفتحا. فالذاكرات المتعدّدة هي التراث الإنساني الشامل. والعلاقة المتوترة بين العقل المفكّر والعقل الموروث هي التي تجعل الوجود الإنساني متميّزا، وتركيبة المزيج بين العقلين مختلف حسب الأفراد، ولا يوجد أفراد أو مجموعات تبدع كلّ أفكارها وممارساتها، لكن يوجد أفراد ومجموعات تقتل الفكر باسم الثقافة والتقليد، مع أنّ هذين ليسا في الأصل إلاّ أفكار أفراد سابقين ميزتهم أنّهم صاروا في عداد الموتى. والثقافات تنطلق من البنى الأساسيّة للعقل الإنساني المشترك ويمكن أن تصل إلى قيم كونيّة مشتركة عبر مساراتها الخاصة، أي من خلال تجاربها وذاكراتها ولغاتها وطرقها في رؤية العالم حولها، ولا توجد كونيّة في المطلق لأنّ السبيل إليها لا يكون إلاّ ثقافة ما. فالكونيّة لا تلغي الثقافات لكنها تجعلها منفتحة على الآخر ومتطلعة إلى المستقبل وقابلة للتطوّر، على خلاف الرؤية الجموديّة التي ترى الثقافة قيمة في ذاتها ولذاتها ووضعا أبديّا وأزليّا. ثقافة مجموعة معيّنة إنّما هي نوع من اللغة التي تعبّر بها عن ذاتها وما يحيط بها، وأداة التعبير وموضوعه يتداغمان لكنّهما ليسا شيئا واحدا مع ذلك، والمهمّ أن لا تتضخّّم الأداة ويضمر الموضوع.

وقد يطرح أحيانا السؤال حول الحضارة هل هي واحدة أم متعدّدة، وهذه الصيغة في طرح السؤال مدخل إلى سوء الفهم لأنّ كلمة حضارة مبهمة وتحمل معاني شتّى. فإذا كان المقصود بها نقيض التوحّش وما يميّز الإنسان بصفته إنساناً، فهي بمعنى العقل البشري المشترك، لذلك نتحدّث عن التحضّر بمعنى الارتقاء في درجات تنظيم مجالات الحياة المختلفة، أو نقول إنّ الإنسان حقّق قفزة حضاريّة نوعيّة عندما اكتشف النار أو اللقاح، وهذه من المشتركات الكونيّة التي تلتقي حولها الثقافات المختلفة والمواقف المتباينة. وإذا كان المقصود بكلمة حضارة تراكم خبرات مخصوصة لدى مجموعة معيّنة، فهي تنتمي إلى حقل التمايز وتكون مرادفة للتراث والتقليد والثقافة ويمكن أن تنسب إلى مجموعة معينة (حضارة عربيّة، هنديّة، غربيّة...) دون أن ينفي ذلك المستوى الآخر أي مستوى الكونيّة.

وهذه الازدواجيّة في دلالة كلمة حضارة هي مثل ازدواجيّة كلمة لغة، فهي تعني أيضا معنيين: معنى اللسان الذي تنفرد به مجموعة معينة (لغة عربية، حبشية، إنكليزية...) ومعنى القابليّة اللغويّة التي يشترك فيها البشر جميعا أي القدرة على التصويت والترميز.

ننتهي بمثال طريف على التقاطع الفكري بين البشر نستمدّه من دراسة لباحث ياباني في تاريخ الأفكار، توشيهيكو إيسوتسو. يعلم المطلعون أنّ هذا الباحث هو من كبار المختصين في تصوّف محيي الدين ابن عربي، رغم بعد منشئه عن الموضوع، لكنّ الأهمّ أنّه كتب دراسة دقيقة عنوانها «التصوّف والتاويّة» بيّن فيها من خلال معارضة النصوص بعضها البعض أنّ التصوّف الإسلامي لابن عربي والفلسفة التاويّة الصينيّة يرتكزان على نفس المفاهيم الأصليّة. وقيمة المقارنة هنا تتمثّل في الغياب القاطع لأيّة إمكانيّة أن يكون ابن عربي قد اطلع على التاويّة (أو العكس طبعا). وهذا معناه أنّ التقاطع إنّما جاء نتيجة عقل واحد كان يتأمّل الوجود في فضاءين منفصلين تمام الانفصال، وقد عبّر كلّ متأمّل عن نتائج تأمّله باللغة السائدة حوله. لكنّ العقل الإنساني واحد من الأندلس إلى الصين.

"الحياة"

التعليقات