31/10/2010 - 11:02

قطار الفوضى في محطته الباكستانية../ جميل مطر*

قطار الفوضى في محطته الباكستانية../ جميل مطر*
توقعت مع آخرين في أوائل هذا العام أن تصل الفوضى «البناءة» إلى باكستان. تصورنا أنه بعد أن وصل قطار الفوضى «البناءة» إلى عدد من المحطات الأساسية مثل أفغانستان والعراق والسودان ولبنان والصومال وأراضي السلطة الفلسطينية مروراً بعدد آخر من المحطات الفرعية أو الطارئة في دول أخرى، فإنه لا بد أن يصل إلى باكستان، لاعتبارات ذات أهمية فائقة.

ما زلنا مختلفين على تعريف الفوضى «البناءة» أو «الخلاقة»، وهو الاختلاف الذي دفع البعض منا إلى أن يتوقع في مستقبل قريب نشوب حال من الفوضى البناءة في دولة ما بينما يعتقد البعض الآخر أن الحالة ناشبة وقائمة فعلاً في هذه الدولة. وذهبت مع القائلين إن الفوضى البناءة حالة صيرورة، وليست حالة انفجار في وقت محدد تنهار فيه هياكل وتنشب مظاهرات عارمة وتحترق أو تبدد الأرصدة والثروة الوطنية ويعم اليأس في انتظار بعث جديد وأمل جديد.

وكان الظن لدى البعض منا أن الفوضى البناءة مؤامرة تحاك خيوطها في الخارج لتنفذ في الداخل، وأن أنظمة الحكم والطبقات الحاكمة في الدول التي نشبت فيها هذه المؤامرة بريئة تماماً وغير مسؤولة عن نشوبها، حتى تأكدنا بالملاحظة أن معظم عناصر الفوضى القائمة في الداخل كامنة أو ظاهرة، وأن الفوضى في بلادنا كانت دائماً احتمالاً قوياً تؤجل وقوعها قدرة متزايدة على القمع وفرض الأمن وشراء الوقت بالمال والمنافع ووسائل الترفيه، ولكن أيضاً بالتطوع للقيام بدور في محاربة الإرهاب الذي يهدد الدول الغربية وبخاصة أميركا وبالاندماج في جو إثارة الخوف وتوقع العمليات الإرهابية.

في كل موقع من مواقع الفوضى «البناءة»، وفي المواقع التي تتمهد فيها الأرضية لنشوب قريب لهذه الفوضى، اجتمعت علامات في شكل تطورات كادت تتطابق فيها جميعاً. فقد وقعت فيها ومتجمعة في وقت واحد صدامات. صدامات بين التقليديين والحداثيين، وصدامات بين الدينيين والعلمانيين وبين طوائف أو أعراق المجتمع، وبين أغنياء وفقراء وبين أدوات حكم ورموزه وعناصر من المعارضين والحقوقيين والناشطين الجدد في القطاعات كافة. وكان لافتاً في أغلب الحالات أن هذه الصدامات لا تحدث بالضرورة بين أطراف متمترسة في منظمات وأحزاب ومؤسسات تحشد أو تقود وتنظم، بل نشبت بتأثير رموز فردية وتحركات بدائية التنظيم وبأموال غير وفيرة مقارنة بالأفعال والنتائج.

وبالإضافة إلى هذه الصدامات بين الثقافات أو الحضارات المحلية، بات واضحاً أنه في هذه الدول المهددة بالفوضى، وأغلبها دول ما زالت في مرحلة النشأة عاجزة عن تجاوزها، وبعضها انتكس بعد أن تجاوزها، تعرضت المؤسسات كافة أو أغلبها للتفكيك. ويجري التفكيك بسبب أو بفعل عناصر كثيرة ليس أقلها شأناً الدور الذي قامت وتقوم به مؤسسات ومنظمات دولية وقوى عظمى بنيات متباينة، منها تحقيق نمو اقتصادي متسارع أو الهيمنة على مصادر الثروة المحلية وفتح الأسواق والحدود. ولكن بينها أيضاً نية إضعاف سلطة الدولة عن طريق تفتيت البيروقراطية ومراكز الاقتصاد التقليدي ، وبخاصة في قطاع الزراعة. وما لم يفككه الضغط الديبلوماسي والاقتصادي تفكك بالتدخل العسكري كما في العراق.

ثم انه إذا كان الخبراء في أميركا وإسرائيل وغيرهما توصلوا إلى أن توزيع السلطة والنفوذ في بعض الدول، واستقرار هذا التوزيع على شكل معين كان أحد أهم مصادر التهديد الصادر من هذه الدول لمصالح الغرب وإسرائيل، يصبح منطقياً أن نتوقع أن تؤدي الفوضى، أياً كانت نتائجها خلاقة أم هدامة، إلى تغيير جذري في نمط التوزيع القائم لصالح نمط جديد، أظن أنه ما زال غير واضح المعالم للأطراف المنتفعة بالفوضى أو المتضررة منها، وأظن أيضاً أنه لا يوجد اتفاق على نمط معين له أفضلية على غيره في كل الحالات على حد سواء.

كل ما نستطيع الإقرار به، في هذه المرحلة من مراحل نشر الفوضى «البناءة» أو «المدمرة» في أنحاء متفرقة من العالم، وبخاصة في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، هو أن بلاداً عرفناها جيداً قبل أن تحل بها الفوضى لن تعود أبداً كما عرفناها. هذا ليس إقراراً باليأس وليس تمادياً في التشاؤم بقدر ما هو قراءة قد تخطئ وقد تصيب لواقع نراه الآن مختلفاً كل الاختلاف عن واقع كنا نراه قبل سنوات الفوضى. لا الأقليات حافظت على قوتها أو ضعفها، ولا الطبقات الحاكمة بقيت محصنة أو مهددة، ولا المؤسسة العسكرية، الحاكمة وغير الحاكمة، استمرت مهيمنة أو مهمشة، ولا المؤسسة الدينية بقيت على ما كانت عليه موحدة وسنداً للطبقة الحاكمة أو عالة عليها.

على أساس هذه التصورات يعتقد البعض وأنا منهم، أن باكستان، وكانت في التوقعات منذ شهور قليلة محطة تالية لقطار الفوضى، أضحت في بؤرة هذه الفوضى. أنا هنا لا أخص بالتحليل أحداث الأسابيع الأخيرة، كالصدام بين قوى تحصنت في المسجد الأحمر وقوى حكومية خارج المسجد، ومحاولة اغتيال رئيس الدولة، والدعوة إلى «الشهادة على الطريق المؤدية إلـى الثورة الإسلامية الشاملة»، ورفع شعار «الثورة الإسلامية قدر هذه الأمة»، واشتعال معظم حدود باكستان بالتمرد ضد التحالف الباكستاني - الأميركي، فالأحداث جميعها رغم أهميتها ليست أكثر من خطوات سبقتها خطوات أكثر عدداً واتساعاً على طريق الفوضى، وإن لفت النظر في هذه الأحداث الأخيرة عنصر قد يلعب دوراً أعظم كثيراً في المستقبل في باكستان وخارجها وهو المشاركة الواسعة للنساء في أعمال التمرد والاستعداد لـ «الشهادة» وقيادة صفوف الدعوة والتعبئة.

هناك انقسام لا شك فيه في دوائر الحكم الأميركية حول أسلوب التعامل مع حكومة مشرف في إسلام آباد، وهناك انقسام آخر ومؤكد في دوائر الحكم الباكستانية حول حدود التحالف الأميركي الباكستاني في قضايا «طالبان» وأفغانستان والإرهاب، وهي قضايا وإن بدت للعين المجردة قضية واحدة، تبدو لصانع القرار الباكستاني قضايا متباينة وإن كانت بالضرورة غير متناقضة.

من ناحية أخرى صارت الخلافات بين الولايات المتحدة وباكستان أشد وضوحاً في أكثر من مناسبة في الآونة الأخيرة، إحداها خلال زيارة مشرف إلى الولايات المتحدة ونشر كتاب له انتقد فيه إدارة بوش للعلاقات مع باكستان والحرب مع أفغانستان، ثم خلال زيارة نائب الرئيس ديك تشيني لباكستان وفي مناسبات أخرى أثيرت خلافات تتعلق بدور الاستخبارات الهندية في أفغانستان والشراكة الاستراتيجية المتصاعدة بين الهند والولايات المتحدة وأنابيب الغاز والنفط من إيران وغيرها. ثم جاء دور الإعلام الأميركي الذي يشن حالياً حملة شديدة ضد الرئيس مشرف شخصياً وحكومته العسكرية ويطالب بوش بالتخلي عنه لشعبه ليفعل به ما يريد.

ولكن أليس هذا هو النمط السائد في معظم التحالفات الأميركية مع الدول العربية والإسلامية: شكوك متبادلة وعدم ثقة وضغوط اقتصادية وسياسية وأحياناً عسكرية وتدخل في الشؤون الداخلية وإحباط سياسات إقليمية وتشويه الصورة أو على الأقل دعم الصور السلبية للدولة الحليفة؟

باكستان تغلي بالفوضى، ليس فقط بما يجري فيها من صدامات عرقية وطائفية وبين الجيش والجماعات الدينية وبين القبائل والحكومة المركزية وبين السلطة القضائية والمؤسسة العسكرية، ولكن أيضاً بما يدبر لها من الخارج، فهي إحدى الدول الإسلامية التي احتفظت بمؤسسات تقليدية تتمتع بنفوذ أقوى من أن تتغلب عليه قوى الحداثة عن طريق التطور السياسي والاجتماعي الهادئ والمتدرج، وهي الدولة الإسلامية التي تصر وبعناد على أن تتولى المؤسسة العسكرية بمفردها مهمتي حكم الشعب والحكم بين مختلف تياراته وطوائفه وأقاليمه الجغرافية.

ولن تكون باكستان المحطة الأخيرة، فالمهمة التي أوكلها الأميركيون للفوضى «الخلاقة» يعترفون بصراحة تستحق التقدير بأنها لم تحقق بعد كل أهدافها، وأغلب الظن أن للقطار سكتين، سكة ذهاب وسكة إياب، ووصوله إلى باكستان لا يعني أنه لن يعود لاستكمال مهمته.

"الحياة"

التعليقات