31/10/2010 - 11:02

كفّوا الشوك فالله ستّار حليم ....!؟/ أيمن اللبدي

-

كفّوا الشوك فالله ستّار حليم ....!؟/ أيمن اللبدي
في تاريخ المشهد الثقافي الفلسطيني المعاصر، ثمة محطات ومفارق لافتة، لعبت مناطق جغرافية فلسطينية بعينها دوراً مباشراً، وسجّلت باسمها نقطة انعطافة حقيقية، من هذه المحطات دور منطقة الساحل الفلسطيني ومنطقة « فلسطينيي الجذور»، أو ما بات يعرف بمنطقة الخط الأخضر لاحقاً، فما أن حلّت الكارثة الوطنية والقومية بشعب فلسطين، وتم اغتصاب الجزء الأكبر منها، حتى خرجت منها أولى أصوات الرفض لهذا الواقع الجديد، وحتى نشطت فيها وعلى أيدي نخبة من أدبائها ومثقفيها، ما عرف تالياً باسم «أدب المقاومة»، فتلألأت أصوات الكوكبة الأولى، راشد حسين، محمود درويش، سميح القاسم ورفاقهم، كانت هذه محطة لافتة ومهمة، افتتحت عصراً حقيقيا للأدب والحركة الأدبية الفلسطينية.

في سبعينات القرن المنصرم، ومع مرور القضية الوطنية الفلسطينية، بمفارق المؤامرات الإقليمية والدولية في حلقات أكثر ضيقا من حول الحركة الوطنية الفلسطينية، وأكثر اقتراباً من عظم هذه القضية، انفجرت ذات المنطقة في وجه الجلادين، وفي وجه مخططات سرقة الأراضي العربية الفلسطينية، ومحاولة حصار عناصر الصمود والوجود الفلسطيني، في مناطق الجذور، وهي التي عرفت لاحقاً باسم « الانتفاضة » في يوم الأرض الشهير من عام 1976، وأيضا كانت الحركة الثقافية الفلسطينية والأدبية هناك، في مقدمة التحريض على هذا العمل المقاوم البطولي، ودخلت الانتفاضة بعدها مصطلح العمل الوطني الفلسطيني وخياراته، فانتفاضة العام 1987 لم تكن هي المرة الأولى التي يتم فيها نسج هذا المصطلح، وإن كانت المرة الأولى التي يتم تداوله على نطاق دولي، وتدخل به المعاجم والصورة الذهنية الثقافية العالمية.

في هذه المحطة القاتمة، هذه الأيام وعلى واقع الانقسام الأفقي الأول في الجغرافيا الفلسطينية، وعلى مشاهد إحداث القطيعة وسلخ جزء من فلسطين، هو قطاع «غزة» المرابط، وفي عملية حصار غير مسبوقة، فاقت وقائع حصار «الأبارتهايد » في جنوب أفريقيا العنصرية، وفاقت حصار « الجيتو» في أوروبا، ومعاناة الشعب الفلسطيني المتفاقمة، نتيجة لاستغلال اجتهادات سياسية مراهقة وطفولية من قبل بعض القوى المستحدثة في الساحة الفلسطينية السياسية، ولإدامة وتعميق هذه الشروخ وتحويلها إلى وقائع مقيمة على الأرض، تتزاوج فيه عوامل المعاناة مع نواتج أخرى من واقع حصار آخر، تقوم به بضعة مليشيا أصولية للفكر والثقافة والتراث الفلسطيني الحر، في محاولة محمومة لتظهير الشخصية الثقافية الفلسطينية، عبر تطبيقات ظلامية مغلقة لا علاقة لها، لا بالوطن فلسطين، ولا بالدين، ولا بالماضي، كنا نتوقّع لمنطقة الجذور أن يكون لها ذات الدور التأريخي، في اجتراح صيغة إعجازية ما تسهم في تغيير هذا المصير، أو على الأقل التبشير بأمل ما.

حال المشهد الثقافي الفلسطيني لا يسر، وهو منذ الممر المرّ في«أوسلو »، آخذ في مزيد من التراجع والتردي، لا نتحدّث هنا عن حال المؤسسات « الحكومية» أو حتى الأهلية، لدينا وزارة ثقافة ملحقة أحيانا مع الرياضة والشباب وربما الإنارة، أصبحت بحكم واقع التشظي اثنتان، ولدينا في موضوعة الاتحادات والنقابات عشرات، ولدينا في مسألة الشلل والجهات المئات، ناهيك عن انعكاس واقع الفصائليات مثل ذلك، وفي الوقت الذي كنا دوما نتطلع إلى الأدوار القيمة الأصيلة التي لعبتها الساحة الثقافية الفلسطينية في داخل مناطق فلسطين « الجذور»، وكأننا على موعد ما بانتظار بارقة أمل، وهي المناطق ذاتها التي واجهت في التحديات والمعيقات، إضافة لما واجهه المشهد الثقافي والأدبي الفلسطيني، في مناطق الجغرافية الفلسطينية الأخرى، وحتى في مناطق الشتات، أنواع نوعية أخرى لا تقل عنها ضغطاً وثقلاً، وليس أهونها « الإنكار » والتشكيك أحياناً، لا سيما مع استخدام غير حكيم ولا راشد، لأدوات محاربة «التطبيع »، وهي إن كانت مسألة محقة، فإن حدودها اللاهبة والحارقة، جعلت من سير المثقف والأديب الفلسطيني هناك، سيراً محاطاً بحفر إضافية عليه أن يستبرأ منها، ورغم ذلك استطاعت هذه الحركة أن تنجو من التذويب وسيف العبث بها، واستطاعت أن تقاوم وتحافظ على أسس الشخصية الثقافية الفلسطينية ولغتها العربية سليمة، وأن تنتج أدباً جميلاً وثقافة مائزة.

في هذا الوقت، نشهد وبمرارة شديدة، عمليات إنزال باراشوتية على ساحة هذا الجزء من الحركة الثقافية الفلسطينية، وعمليات تمويه وكمائن وتفخيخ، منسقة ومنظمة، أحياناً تتلطى خلف مطالب محقة بالنقد، وأحياناً تصنع «كولاج» من أنصاف الحقائق وأنصاف الوقائع، وتستهدف أسماء محترمة وذات قامة أدبية وثقافية، كما تستهدف أكاديميين فلسطينيين وتربويين لهم إسهاماتهم الجدية، المشكلة أن هذا في الرهط المباشر لأحاديث أقرب إلى مسائل الإفك، من لم نتوقع أن يكون صاحب كبره، ولا حادي كيره، وبعضه الآخر لم نسمع به من قبل، ولم تردنا إلياذته ولا إنياذته، والعصر ليس عصر فارك الأباريق السحرية، ولا الكلمات السرية، ولا نفخ الأرحام بالقدس، يعني المسألة فيها كلام كثير، ونسأل: ما الحكاية؟ ولمصلحة من! وما هي القضية بالضبط! وهل هي زوبعة فنجان، أم فناجين زوابع ؟! بصراحة هذا نمط لم نعهده هكذا، قد يكون موتوراً في مواقع نقابية دنيا هنا أو هناك، لكن في فلسطين، وفي هذه المنطقة بالذات؟ هذا شيء يدعوا لأسئلة كثيرة.

المدهش أن منهجية التناول هذه، تتم بلغة لم نعتد ولم نتوقع أن تكون لا زالت لها شرانق، في هذه المنطقة بالذات، وأنها تنفذ إلى المماحكات والكيديات الشخصية، أكثر مما تذهب إلى ترسيخ فكرة ثقافية، وهي قبل ذلك كله وبعده، لم تؤشّر على حالة حراك ثقافي، ولا استنهضت أثراً ثقافيا، اللهم إلا ممارسة شعوذة فكرية، لا نعتقد أن المشهد الفلسطيني الأدبي والثقافي بحاجة لها، ولا نظنها تلكم التي لا زلنا ننتظرها من هذا الجزء الغالي من فلسطين، ونحن لا زلنا عند ثقتنا بالأنبل والأجمل في هذه الساحة، من أسماء وقامات وجهات، وأيضا من براعم ومواهب قادمة، ولا أظن أن غياب قامة ورمز أدبي فلسطيني ورحيله، كقامة أخي الراحل محمود درويش، سيكون أثرها عكسياً عن هذه الساحة إلى هذا الحد الذي نشهد، وإلى هذا الواقع الذي بتنا منزعجين منه مع شعور بالغثيان من تكراره على هذا النحو.

صحيح أن الشبكة المعلوماتية تضج بالغث، وصحيح أيضاً أن الجلبة تجد لها طريقها إلى مواقع أو منابر، لا يهمها نوعية ما يظهر من خلالها، وبعضها يجتهد في مطاردة مواد الإثارة من كلِّ نوع، وصحيح أيضاً أن الطريق سالكة لنثر كل أنواع المخلّفات، لكن الأهم في هذا كلِّه، أنّ جملة هذا كلّه من الزبد، والزبد يذهب جفاء، ونافخ الكير يؤذي غيره، لكنه حتماً هو حارق يديه.

كنا نتوقع من أخي الشاعر المقدّم سميح القاسم، أن يكون له لمسة في تصويب هذه الجلبة، وكنا نتوقع من أخوتنا المثقفين والأدباء والأكاديميين الرائعين هناك، أيضاً أن يكون لهم أيضا بصمة في تعديل هذا الجو الخانق، لا أود أن أذكر أسماء لأن المجال يضيق وهم أكثر من أن يحصوا، لكن يجب أن يعلم الرائعون، أننا ننتظر لهم كلمة في هذا المجال.

يا أهلنا في فلسطين السليبة، لا يكون منكم عون على شعبكم، ولا يكون هؤلاء عيونناً على بلل الماء فيكم، فهم قبل البلل غارقون، ولا ترهقوا أنفسكم باختراع المعيقات، وترصّد سير السائرات على قلتها، فعندنا ما يكفينا من كل ذلك، والناس تنتظر من عندكم كلَّ جميل وخيّر،إن لم تكونوا على موعد مع وردة جميلة كعادتكم تقدمونها، فكفوا الشوك، والله ستّار حليم.


"عرب48 والوسط اليوم"

التعليقات