31/10/2010 - 11:02

من نابليون إلى أولمرت خابت رهانات الغزاة../ عوني فرسخ

من نابليون إلى أولمرت خابت رهانات الغزاة../ عوني فرسخ
لم يكن عرب التسوية وحدهم، وبالذات الفلسطينيون منهم الذين، فاجأتهم انتفاضة جماهير قطاع غزة ضد حصار الجوع، وإنما أيضاً صناع القرار السياسي والعسكري الصهيوني. ففي صباح انطلاق الانتفاضة (23/1/2008)، أوردت نشرة “عرب 48”، التي تصدر في الأرض المحتلة منذ سنة ،1948 تقريراً تضمن بعض ما كان يراهن عليه القادة الصهاينة في اليوم السابق لانتفاضة الشعب الذي لا يقهر. فأولمرت، في حديث هاتفي مع وزير خارجية هولندا، ذكر أنه دعا سكان القطاع لإسقاط حكومة حماس، وفي رده على الوزير الذي أبدى قلقه تجاه الأوضاع الإنسانية في القطاع قال: “نحاول المس فقط بمن لهم دور في الإرهاب، ولكننا نلمح للسكان بأنهم لا يمكنهم التنصل من مسؤوليتهم عن الوضع، وعلى سكان قطاع غزة إسقاط حكومة حماس”.

أما نائبه حاييم رامون، صاحب الدعوة لقطع المياه والكهرباء عن المحاصرين، ففي حديث مع إذاعة الجيش ورد قوله: “أؤكد أن في هذه المرحلة لا يوجد أزمة إنسانية، صحيح يوجد مس بالحياة اليومية، والمسؤولية عنه على عاتق من يحكم القطاع”، كما ورد في تقرير “عرب 48” أن الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” تنتظر أن تصب الجماهير الفلسطينية غضبها على حكومة حماس. وقد أعرب مسؤولون أمنيون عن رضاهم عن نتائج الحصار، وهم يرون أنه نجح في الضغط على حكومة حماس، ويرقبون القطاع منتظرين خروج جماهيره ضدها. ونسب التقرير لمصادر “إسرائيلية” قول مسؤول أمني رفيع “إن “إسرائيل” لا تفكر الآن في شن حملة عسكرية واسعة النطاق على قطاع غزة، لذلك تتبع وسائل أخرى لنقل الرسالة على حساب الشعب الفلسطيني”.

ذلك بعض ما ورد في تقرير “عرب 48” وفيه، على إيجازه، دلالات جديرة باهتمام النخب السياسية والفكرية العربية، خاصة الملتزمة بما يسمى “عملية السلام”، وتلك ذات التوجهات الليبرالية الجديدة. فالكيان المشاع عنه أنه عليم بدقائق الواقع العربي وصاحب الباع الطويلة في التجسس على المنظمات الفلسطينية، يتضح بجلاء، مدى جهل صناع قراره الفاضح بمجريات الأمور في قطاع الصمود والمقاومة. كما أن لمفاجأتهم بانتفاضة جماهيره دلالة انحسار ظاهرة العملاء التي عانى منها القطاع طويلاً، وذلك ما أشارت إليه الصحافة “الإسرائيلية” في الشهور الأخيرة. مما يؤشر لنجاح سلطة حماس في تحجيم خطر العملاء الذي استشرى في أعقاب اتفاق أوسلو.

ثم إن في مراهنة صناع القرار الصهيوني على تفجر الغضب الجماهيري ضد سلطة القطاع الشرعية، بتأثير حصار الجوع والحرمان، ما يدل ليس فقط على الجهل المريع بتجذر ثقافة الممانعة والمقاومة لدى الشعب العربي الفلسطيني، وإنما أيضاً على أن الصهاينة، وإن بلغوا من العلم والمعرفة ما بلغوه، لا يزالون أسرى ثقافة عنصرية معظمة للذات ومحقرة للآخر وثقافته. فالذين يمجدون “الماسادا” ويذكرون بفخر انتفاضة “جيتو وارسو” ضد الحصار النازي، لم يخطر ببال احدهم أن ينتفض المحاصرون في القطاع ضدهم. بل وتذهب أوهامهم حد انتظار خيانة مواطني القطاع لتاريخهم في الصمود والمقاومة ليصبوا جام غضبهم على سلطة كان الدافع الأول لانتخابهم لها التزام رموزها بالمقاومة خياراً استراتيجياً.

ولا تعكس أقوال أولمرت ورامون فقط لا مبالاة صارخة بتصعيد إرهاب الدولة الصهيوني، وتشديد إجراءات الحصار ضد مليون ونصف المليون من البشر، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين العزل من أي سلاح، وإنما أيضاً اقتراف جريمة تحريض مواطني القطاع لإسقاط سلطتهم التي اختاروها في انتخابات ديمقراطية غير مطعون فيها. فضلاً عن أن تحميلهما مواطني القطاع المحتل والمحاصر المسؤولية عن أعمال المقاومة المشروعة ما يفضح التزامهما بازدواجية المعايير، إذ طالما ملأ الصهاينة الأرض صراخاً ضد العمليات الاستشهادية لأنها كانت توقع إصابات في مستوطنين، شكلوا على الدوام العمود الفقري لجيش العدوان الصهيوني، فضلاً عن وجودهم غير المشروع في أرض مغتصبة، بحجة أنهم مدنيون.

وانتفاضة قطاع غزة، التي تنذر بإسقاط الرهانات الصهيونية، وإفشال مخطط الفتنة المرسوم أمريكياً بعناية فائقة، ما هي إلا المشهد الأكثر حداثة من مشاهد إبداعات المقاومة والممانعة العربية، التي توالت منذ إفشال غزوة نابليون سنة 1798. فالقائد الذي جاء مستقوياً بتفوق جيشه بالقدرات البشرية والإمكانات المادية والتقدم العلمي والمعرفي، ومراهناً على التخلف العربي الموروث، والذي اجتاح أوروبا من أطراف إسبانيا إلى أعماق روسيا، وأسقط العديد من ملوكها وأباطرتها، حقق انتصاراً سهلاً على فرسان المماليك، لكنه فشل في قهر إرادة المقاومة في مصر وفلسطين، وارتد خائباً وقد خابت رهاناته. ولا ينكر دور الأسطول البريطاني في دعم صمود عكا، إلا أن جماهير الشعب العربي بمصر أفشلت حملة هذا الأسطول على رشيد سنة 1807.

والتقويم الموضوعي للتاريخ العربي لا يستقيم بحصر النظر في نتائج المعارك المفروضة على جيوش محكومة بالخلل الاستراتيجي لمصلحة العدو في ميزان القدرات والإمكانات، وتجاهل إنجازات وإبداعات المقاومة الشعبية التي شكلت على الدوام معادلاً موضوعياً لتفوق الغزاة، وفي إسقاط قوة الردع الصهيوني وأسطورة “الجيش الذي لا يقهر” في جنوب لبنان صيف ،2006 كما في عجز الجيش الأمريكي وميليشيات عملائه عن قهر إرادة المقاومة في العراق المحتل مثالان واضحان. والسؤال الأخير: ألا تشكل انتفاضة قطاع غزة، والحراك الشعبي الذي استنهضته في مشرق الوطن العربي ومغربه، ظرفاً موضوعياً لمراجعة ما فرضته اتفاقات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة من التزامات لم يعد التقيد بها يتلاءم مع مستجدات ومتغيرات الواقع العربي؟
"الخليج"

التعليقات