30/12/2010 - 15:54

شبكات التجسس والأمن القومي العربي: ما العمل؟../ ناصر السهلي

-

شبكات التجسس والأمن القومي العربي: ما العمل؟../ ناصر السهلي
حينما تقرأ تفاصيل قضايا شبكات التجسس الإسرائيلية، كما يأتي في التسريبات على لسان المتهمين بالتجسس أو اكتشاف شبكة مراقبة وتنصت وتجنيد، كما في أحدث القضايا كقضية طارق عبد الرازق في مصر، فأنت بالتأكيد أمام كم كبير من الملاحظات المثيرة.
 
"أمراء الموساد" ليوسي ميلمان و دان رافيف و"عن طريق الخداع" لفيكتور استروفسكي (اسم مستعار لعميل الموساد السابق) يعطيانك صورة ما عن العمل التجسسي والاستخباراتي للأجهزة الأمنية الإسرائيلية واهتماماتها، لكن ما من شك بأن الكشف المتواصل عن توسع خارطة ورقعة هذا العمل ضد العرب ( وبالتأكيد ضد غير العرب) يشير إلى أشياء أساسية.
 
أولا، ليس بالضرورة أن تعبر تلك العمليات والعملاء عن حالة قوة للأجهزة الإسرائيلية المختلفة، فسبر أغوار العمليات يكشف إخفاقات كلفت الموساد تحديدا ثمنا غاليا، وذلك عكس ما يُشاع عن الهالة الضخمة لهذا الجهاز. يكفي هنا التذكير بتساقط بضعة شبكات مهمة في لبنان وفك المقاومة اللبنانية لشيفرة التفرد الاستخباراتي الإسرائيلي في هذا البلد الصغير. رغم ما يثار من ملاحظات على طريقة التعاطي مع العملاء واستخفاف البعض بأهمية العقاب والاكتشاف.
 
وقد تكون عملية "المبحوح" في دبي مثلا ساطعا على انهيار الأسطورة، إذ تبين للجميع العدد الهائل لاستهداف شخص واحد، هذا في الظاهر عداك عن العدد الآخر غير المكتشف في مسائل لوجيستية موزعة على عدد من الدول الأوروبية و تل أبيب.
 
ثانيا، يبدو أن بعض العرب اكتشف مبكرا، وربما جهاز الأمن المصري، أن قضية "معاهدات السلام" وإقامة علاقات دبلوماسية لا تعني أبدا تخلي الموساد عن محاولات تجنيد عملاء وإقامة شبكات تستهدف حتى أكثر الدول تنسيقا أمنيا معه. بمعنى أنه على عكس السائد من أن الموساد لا يقوم بشيء في البلدان التي تقيم تل أبيب علاقات دبلوماسية معها.. بل هي تستفيد حتى من العلاقات البسيطة والتجارية لتنفتح أمام أجهزتها الأمنية ساحات جديدة.
 
وبالرغم من أن الملاحظة الثانية مهمة في كشف قضية طارق عبد الرازق وبقية الشبكة ( وهي ليست المرة الأولى) إلا أننا لسنا أمام صورة تعاون عربي مثالي في مواجهة أهداف تل أبيب من عمل هذه الشبكات. فمن سياق التسريبات في الصحف المصرية ( مع شطب ما هو للإثارة) يبدو أن عددا من البلاد العربية مستهدفة في تقاطعات مثيرة بين الشبكات المكتشفة، وهنا تكمن أهمية الحديث عن مفهوم الأمن القومي الاستراتيجي العربي بكل تفاصيله.
 
فمواجهة "فردية" أحادية وغير جماعية لهذه الشبكات تكاد تكون في النموذج اللبناني طامة كبرى، رغم الانجازات الكبيرة، إذ ما نحن بصدده من استخفاف البعض بهذه الاكتشافات، بل والتخندق في معسكرات ضيقة الانتماء تدفع للتعجب من قراءة مستخفة لهذه الخردقة الأمنية، وهو ما ينطبق على الحالة العربية الأوسع. فقد ظن البعض أن التنسيق الأمني على صعيد الشرطة ووزارات الداخلية التي تجتمع دوريا كاف لحماية الأمن العربي، لكنه أمن يقتصر على حالة لا علاقة لها إلا بمسألتين: شرطية داخلية و تنسسيقية باتجاه واحد متعلق بقضايا الاسلام السياسي والقاعدة.
 
فقد ظن البعض العربي واهما أن فتح قنوات مع تل أبيب سيجعله أكثر حصانة ومناعة بوجه الخرق الخطير لنسيجه الأمني والسياسي والإجتماعي والاقتصادي، ودلت التجربة على عكس ذلك.
 
في كتاب فيكتور أوستروفسكي "عن طريق الخداع" تم التطرق لقضية اختراق أنظمة اتصالات عربية منذ ثمانينات القرن الماضي وعن طريق دول أوروبية، نذكر على سبيل المثال مراقبة الاتصالات بين تونس ولبنان وعدد من الدول الأوروبية، وهذا يعني أن قضية العمل التراكمي لاختراق المجتمعات العربية ليست جديدة. والسؤال الحيوي الذي يطرح نفسه: هل تستطيع الدول العربية إعادة النظر بقراءتها لمفهوم الأمن القومي العربي؟
 
الظاهر، ونتيجة لتطور أحداث سنوات طويلة من اختلال العلاقات الداخلية العربية، السياسية بالأساس، أن التوجهات العربية استخفت كثيرا بمفهوم الأمن المشترك. في المقابل تعزز تل أبيب علاقاتها ونفاذها إلى ساحات مختلفة تحت غطاء سياسي وتجاري واستغلال الاختلاف العربي السياسي في التوجهات المتعددة.
 
هل الأمن القومي المصري، الذي حددت دوائره ثورة يوليو بقيادة عبد الناصر، يختلف اليوم عما كان عليه بالأمس؟.. صحيح أن قطاع غزة يشكل خاصرة رخوة لمصر، ليس بسبب رغبة فلسطينية في تهديد أمن مصر القومي بقدر ماهو متأت عن مشاريع إسرائيلية تستهدف مصر على كل المستويات، لكن اكتشاف الشبكات المتكرر منذ معاهدة كامب دافيد واختراق سيناء يؤكد بأن الخطر على الأمن القومي المصري جنوبا وشرقا وغربا لا يُعزز إلا بمزيد من التنسيق العربي. في هذا المجال لابد من التساؤل عن قدرة الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية على زعزعة الأمن في سيناء وزرع أدلة لتوريط جهات فلسطينية وعربية مقاومة؟ إذا كانت مصر تعمل وفق التزامات أمنية معينة فرضتها عليها اتفاقيات ومعاهدات، فلا بد من إعادة النظر عما تعنيه محاولات استباحة مصر من قبل تل أبيب، وإعادة النظر فيما تمثله السفارة الإسرائيلية في القاهرة من دور لم يعد خفيا.
 
"التنسيق" بين مصر وسوريا كان دائما سدا منيعا لوقف الانهيارات في الأمن القومي العربي، وعليه فتوجيه الاتهام للجاسوس عبد الرازق بتخريب العلاقة مع سوريا يعني الحاجة لخطوة إضافية في مراجعة الأولويات العربية مجتمعة وعلى كل المستويات.
 
قد يسأل البعض: هل يهم سوريا الأمن الإستراتيجي لمصر؟
ما من شك بأن وجود مصر قوية تلعب دورا أساسيا على الصعيد القومي العربي يلعب دورا في تعزيز الاهتمام السوري بأمن مصر كجزء من الأمن القومي لمجموع بلدان العرب، فكما شكلت حالة الأمن والاستقرار في لبنان أهمية كبرى في الإستراتيجية الأمنية القومية لسورية فالأمر ينسحب على العراق وكشف الاختراق المبكر للموساد منذ الغزو الأميركي للساحة العراقية واللعب على التناقضات السياسية وتحويلها إلى استدامة طائفية ومذهبية لإضعاف حلقات الأمن القومي العربي.
 
ومن الصحيح أن أمن دول الخليج العربي هو أيضا تعزيز للأمن العربي، وما أظهرته قضية المبحوح وعدد من القضايا غير المكشوفة وحتى قضية التجسس على المملكة العربية السعودية ووصول العبث بالأمن القومي إلى دول المغرب الغربي واختراق في عمق القارة الأفريقية، ليس في السودان وإثيوبيا وجيبوتي وحسب، يستدعي الكثير من إعادة النظر بحالة التنسيق والتعاون العربي.
 
 
دول الاتحاد الأوروبي، وبالرغم من الفروق الإيديولوجية ووجود حكومات مختلفة، يستمر في تعزيز التنسيق البيني باعتبار أن أي استهداف لأمن دولة صغيرة كالدانمرك هو استهداف لمجموع دول الاتحاد الأوروبي، والأجدر بالدول العربية التي تواجه الكثير من محاولات الاختراق والتأثير على أوضاعها الداخلية أن تكون سباقة لفهم مصدر الخطر في المجال ألاستخباراتي واستهداف المجتمع العربي، وهو ليس بالضرورة ناشئ عن التيارات الإسلامية التي تجد فيها السياسة الأوروبية والأميركية فزاعة بوجه الحكومات العربية لدر المزيد من التنسيق واستباحة السيادة لعدد من الدول. وفي هذا الاتجاه لا يمكن أن تكون إعادة النظر بطبيعة دخول المطارات والمنافذ الحدودية العربية مقتصرة على العربي فقط، ولا هي دعوة للانغلاق عما يمكن أن يكون مشتركا مع دول صديقة في المحيط العربي.
 
ختاما، لا بد من التذكير بأن تركيزا عربيا على اعتبار إيران خطرا استراتيجيا على الأمن القومي العربي في جوهره تركيز في الاتجاه الخاطئ لمجموعة من العوامل يعرفها من يخط هذه الإستراتيجية أكثر من غيره.. لكن التركيز على اعتبار هذا البلد الجار للعرب هو الخطر عليهم يمنح الجانب الإسرائيلي المزيد من الفرص للتلاعب بالأمن القومي العربي، تماما مثلما يمكن أن تشكل حالة التركيز على المقاومة العربية وتسلحها كخطر أكبر وتراخ مع خطر حقيقي يستهدف مجموع الأمن القومي العربي.
 
إذا، إعادة تفعيل مفهوم الأمن القومي العربي أمر يتجاوز مسائل الخلافات بين الحكومات العربية فهو متعلق بأجيال عربية ومستقبل عربي يتعرض لكثير من الاستهداف وكثير من المواجهة الأحادية، وطالما أن المجال الحيوي لأمن كل دولة عربية على حداها يتجاوز بديهيا حدودها الجغرافية فلا مناص من أن تعاد قراءة عملية لمعاهدات أمنية عربية مشتركة، ومن بينها معاهدة الدفاع المشترك، ليكون هذا المجال الحيوي مصانا بشكل عملي لا شعاراتي فحسب.    

التعليقات