13/02/2011 - 11:31

عودة مصر../ عبد اللطيف مهنا

سوف يدون التاريخ العربي المعاصر أن للتوانسة العرب فضل السبق في اشعال الفتيل وقدح الشرارة التي بدأت الاشتعال في هشيم زمن عربي أوغلت أيامه إسفافاً وانحداراً، وأن للعرب المصريين فضل إذكاء لهيب غضب مقدس كان مكتوماً

عودة مصر../ عبد اللطيف مهنا
سوف يدون التاريخ العربي المعاصر أن للتوانسة العرب فضل السبق في اشعال الفتيل وقدح الشرارة التي بدأت الاشتعال في هشيم زمن عربي أوغلت أيامه إسفافاً وانحداراً، وأن للعرب المصريين فضل إذكاء لهيب غضب مقدس كان مكتوماً سوف يضيء نوره الربوع العربية من اقصاها إلى أدناها، ومن شأنه أن يتجاوزها صدى وإلهاماً في أربع جهات الكون، حيث سيكون له وقعه العميق الأثر وسيغدو أنموذجاً ملهماً في كل تلك البقاع المستضعفة فيه. المصريون، أي مصر، بثقلها في موازين الأمة، بمكانتها الريادية، بأدوارها التاريخية المفترضة التي غُيّبَت قسراً، كان لهم وحدهم، كان لها وحدها، القدرة على فعل ما هم الآن، ما هي، بصدده.
 
ثلث الشعب العربي المصري خرج إلى الميادين والساحات والشوارع متظاهراً، كل المدن غدت ميدان تحرير، من الإسكندرية وحتى أسوان، ومن الشيخ زويّد وحتى الخارجة... وتقاطر المزيد المزيد من الخارجين من بيوتهم ومعاملهم ومؤسساتهم الملتحقين بهذا المد الطوفاني الشعبي الهادر: "الشعب يريد اسقاط النظام"... كان مشهداً حضارياً فريداً يسفر عن مخزون طافح من التمرد طال أمد تراكم أسبابه، وغضباً تلقائياً نبيلاً لم ينتظرطليعة تؤمه أو قيادة توجهه أو محرضاً يذكيه، لم ين ميدانياً في إيجادها. إنه المشهد الملحمة الذي يسفر في مثل هذه اللحظة التاريخية العربية المفاجئة للجميع، وحتى لذاتها، عن ثورة شعبية حقيقية لها فرادتها ومن ذات طبيعة تسونامية تمتلك ديناميكيتها وخصوصيتها ومتوالية دفق زخمها، بحيث هي كانت فوق الالتفاف عليها، وبمنأى عما يشوب روحها ويحد من جارف توقها، وكانت العصية على الاحتواء والتي لا يمكن المراهنة على توقفها... ردت الحياة إلى نبض أمتها، وأعادت لها كرامتها... بها غدت الأمة من محيطها إلى خليجها ميدان التحرير...
 
وسوف يسجل هذا التاريخ في مدونته الفخورة بما دونته، أن المشهد المصري الذي دارت وقائعه المجيدة وتلاحقت آياته المذهلة في ميدان التحرير، وسائر ميادين أرض الكنانة الثائرة، كان يترجم عن ثورة شعب غير مسبوقة، ليست شبابية فحسب، كما يزعمون مقللين من شأن شموليتها، وإنما هي فعل شعبي شارك ويشارك فيه كل فئات أهلنا المصريين... قضاة ومحامون، أساتذة جامعات وعلماء وأزهريون، صحافيون ومثقفون وفنانون، ضباط متقاعدون وآخرون سلموا سلاحهم والتحقوا بمواطنيهم، وعمال وفلاحون وبسطاء، ورجال ونساء وأطفالهم... ثورة لم تبدأ فحسب في اليوم التاريخي الخالد 25 يناير، وإنما سبقت مقدماتها، وتراكمت صواعقها، وفيه فحسب كان آن تفجرها... وهي، كما أشرنا، ليست مصرية فحسب وإنما هي عربية الوجه واللسان والمدى والتداعيات، وعالم ثالثية الأثر والانموذج.
 
وسوف تضم مدونة هذا التاريخ كيف أسقطت الجماهير قدرية الفرعون، واختصرت عبر يافطة علقها المتظاهرون على بوابة مجلس الشعب تقول: "عذراً، مغلق حتى إسقاط النظام" هدفاً لم تحد عنه، وإن النظام كان متمترساً لا يريد رحيلاً، ويتشبث معانداً ويستميت مكابراً ومناوراً ومخادعاً، لحماية رؤوسه التي قد أينعت وحان قطافها، وبغية تجنيبها يوم المساءلة على ما اقترفته ونهبته، وإن الثوار كانوا الصامدين المتحدين المُصرّين على مطالبهم السبعة التي على رأسها ويختصرها رحيل النظام.
 
ولن ينسى هذا التاريخ إن الولايات المتحدة وغربها وإسرائيلها كانت ترقب التطورات في أرض الكنانة عن كثب... لأنها وفريقها ومريديها بين ظهرانينا تدرك أن رحيل مبارك يعني رحيل نظامه، وأن رحيل النظام هو إعلان مدو عن تصفية نفوذها، ليس في مصر فحسب، وإنما بداية مؤكدة لتصفيته في سائر مواقع أمتها... وإنه لهذا تكالب المتكالبون للذود عن بائد مصر في مواجهة جديدها، وكان هنا مكمن الأزمة الأمريكية، والفحيح الإسرائيلي... لأنهم أفادوا، وهم المعروفون بالتخلي عن أدواتهم لصالح مصالحهم، من درسهم الإيراني القديم، والتونسي الأجد، فهم في حين أنهم لا يريدون التخلي عن نظام أدى ويؤدي أجل الخدمات لاستراتيجية هيمنتهم في المنطقة، وتعده إسرائيل كنزاً استراتيجياً لها، بادروا من اللحظة الأولى يعملون على تبديل الوجوه والشخوص لصالح استمراره تحت يافطة "الانتقال المنظم للسلطة"، وفي نفس الوقت لم ينوا يحاولون ما استطاعوا الحفاظ على نفاقهم المزمن المترجم شعارات تزعم حرصاً على الديمقراطية، حيث لم يعد يصدقهم أحد في عالم لم ير ترجمة لشعارتهم هذه في المواقع التي لهم مصالح لايحميها عادة فيها إلا المستبدون المستند استبدادهم على الدعم الأمريكي...
 
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تشبث النظام ما استطاع تشبثاً بالسلطة، والذي أصم أذنه إلى آخر رمق عن سماع صوت الجماهير الهادر، الذي وصلت أصداؤه وطافت مدوية في جنبات الكون، هو ليس لأنه، كما يقال، قد فقد رشده، وإنما لأنه كان ينفذ خطة دقيقة وضعت له برعاية رعاته الذين لا يريدون تشييع وجوهه الساقطة دونما إيجاد بديلها... من هنا كنا نسمع عن خارطة طريق أمريكية تذكرنا بتلك سيئة الصيت التي وضعوها للفلسطينيين الأوسلويين... أي هنا كان مربط الفرس، وفيه سر عناده أو اصراره على ذاك التصرف المشين بعقلية ما قبل 25 يناير، وما يفسر مناوراته البائسة ومحاورته المتغطرسة للمعارضة التي أجراها على طريقة مفاوضة الإسرائيليين للأوسلويين.
 
كان صمود هشيم النظام قراراً أمريكياً ريثما يتم ترتيب البديل الذي لم يتم... ولعله هنا أيضاً كان سر ذلك الغموض الذي اكتنف حتى آخر لحظة موقف الجيش... وهنا لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن من حضر حوار عمر سليمان من نماذج المعارضة المصرية الرسمية قد خسر ولم يربح، تماماً مثلما كان قد جرى لمن شهد جلسات كرنفال حواره الفلسطيني الشهير، والذي لم تُفد مشاركة من شارك فيه من المقاومين سوى الأوسلويين وحدهم.... وسوف لن يغفل التاريخ الذي دونت مصر صفحاته العربية الأخيرة، أنه، وحيث سحب الشعب الشرعية من السلطة ونزعها عن النظام، كاد حوار المعارضة، التي أغلبها لا يمتلك شارعاً، أن يعيدها إليها، لولا يقظة الشعب الساحب لها منها، ووعي ممثليه الحقيقيين المرابطين في ميدان التحرير... بعض المعارضة فاوضت بعقلية من انتهز فرصة سنحت، وبعضها تسابق مع المتسابقين معه منافساً للفوز برضا النظام، والبعض الآخر ظنها فرصة نادرة قد سنحت لاقتناص اعتراف النظام به... وإلى جانب هؤلاء عانى ميدان التحرير غزوات مموهة خطرة من الانتهازيين، وتهالكاً مسفاً من مداحي النظام الذين تحولوا إلى التطبيل للثورة بعد الإحساس برجحان كفتها، رجحان بدت بوادره إثر فشل غزوة الجمال والخيول وأفواج البلطجية وتعالي أمواج الطوفان الشعبي وصمود موجاته في ميادين التحرير المصرية الواسعة.
 
وأخيراً، في مصر ميدان التحرير، سطر التاريخ المصري في مدونة التاريخ العربي المعاصر، أنه كما ثار الجيش المصري في 23 يوليو العام 1952 وأيده الشعب حينها في ثورته داعماً ثوريته، فإن هذا الشعب قد ثار في 25 يناير العام 2011 وإن جيشه قد انحاز إليه...
 
أرض الكنانة، أم العرب، تصنع الآن نصرها، وبنصرها انتصرت للعرب، ونصرها هذا، كما كنا قد قلنا في مقال سابق، هو خطوة باتجاه فلسطين... صنعت تحولاً عربياً شاملاً بدأت شرارته المبشرة في تونس التي أعادت لها سيدي أبو زيد خضرتها... وسوف تعيد اللحظة التاريخية العربية التي بدأت إرهاصاتها في تونس وتجلت منتصرة في مصر العرب الاعتبار للأمة، وسوف تعيد التوكيد على حقيقة حاولوا طمسها في بلادنا وهي أن الديموقراطية تعني الوطنية، وهذه تعني العروبة، وهي إن تحققت، لن يكون هذا في صالح الولايات المتحدة وغربها وإسرائيلها. وعليه، لابد من الانتباه إلى أن الصراع الآن على أرض مصر، وقبلها تونس، وما يتبع في دنيا العرب، وقبل هذه وتلك في فلسطين والعراق ولبنان وسائر مواقع الأمة، هو إنما كان يدور وسيظل دائراً بين هذه الأمة وهذا الأمريكي العدو الأول للعرب، وغربه، وتفصيلها الإسرائيلي... اليوم عادت مصر لأمتها وبعودتها استعاد العرب عروبتهم.

التعليقات