21/02/2011 - 10:51

الأيام الأخيرة لحسني مبارك.. ماذا بعدها../ نصري الصايغ

مصر أولاً... وسيتغير العالم ثانياً. لن يبقى كل شيء كما كان... هكذا قال كثيرون، ومن بينهم قادة غربيون. لم لا؟ فهناك مكان شاسع تحت الشمس.

الأيام الأخيرة لحسني مبارك.. ماذا بعدها../ نصري الصايغ

I ـ السقوط حتمي... إنما لم يسقط النظام المصري بعد. الطريق لإسقاطه شاق ولكنه ضروري، ومن علامات سقوطه، أن الشعب المصري، بثورته الديموقراطية، يثابر بحسم، لنقل النظام السياسي من حال الاستبداد، إلى الديموقراطية، عبر تكريس آليات العمل الديموقراطي، في مجتمع مدني، يتأكد فيه الاختيار الحر، والانتماء الطوعي، والمشاركة الفاعلة، في ظل منظومة قيم أخلاقية وسياسية جديدة، تساوي بين الجميع أمام القانون، وتخضع السلطة للمساءلة، وتفرض على العاملين في السياسة والإدارة، التعاطي بشفافية موضوعية، تحرم الفساد من الحماية والرعاية، وتعاقب المفسدين النهبة واللصوص والقراصنة، بما يستحقون على جرائمهم، وفق سياق يضع العدالة في مرتبة القداسة.

الطريق شاق وصعب، ولكنه ميسور أيضا، فحتى الآن، لم تسجّل للثورة الديموقراطية الأولى في العالم العربي، انطلاقا من تونس ومصر، أخطاء ملموسة في مسارها العام. فلا الأخوان المسلمون، بعد اندلاع الثورة، هم «إخوان» الأمس، إذ برهنوا على ليونة سياسية مدهشة، (برغم تعكير القرضاوي المناخ المدني للثورة الديموقراطية)، كما قدم جيل الشباب نموذجاً راقياً من التواضع والحكمة مقرونين بالصلابة والوضوح، ومعتمدين على إرادة التغيير وفعل الإنجاز.

وعليه، سيسقط النظام، وسنشهد، ونحن في المنحنى الأخير من عمر الهزائم والخيبات والإحباط واليأس ومراودة الاستسلام، سنشهد انتصار الديموقراطية، بقيمها الليبرالية، وتعلقها بتراثاتها التاريخية والدينية، من حيث كونها، العمق الروحي الذي تتجسّد فيها شخصية الأمة...

إنما...
II ـ الديموقراطية في السياسة.. فماذا عن الاقتصاد؟

لا يقال أبداً: ثروة حسني مبارك وعائلته بلغت 70 مليار دولار. ولا يجوز أن يتردد، أن ثروة بن علي بلغت 13 مليار دولار. حرام. هذا كلام غير منصف. وإن كانت لفتة بريئة وأرقامها متداولة. الصح أن يقال، بلغ النهب المنظم لكل من الرئيسين كذا وكذا. فهذه ليست ثروتهما، بل هذه هي اغتصابهما للسلطة وممارسة الفساد المنظم والمحمي. وهذه الثروة المشار إليها آنفاً، هي ثروة تخص الشعبين، المصري والتونسي.

وغداً، عندما يسقط الآخرون من قراصنة العرب، يلزم أن نحصي الثروات المنهوبة من شعوبها، لاستردادها ومعاقبة من كانت أمواله بلون الدماء، الاستبداد العربي تفوق في جعل الفساد، ديناً اقتصادياً يتبع طقوس نظام العولمة وأنبيائه الرأسماليين، أكلة لحوم البشر.

وعليه، لا يقال، إن نظام الاستبداد سيسقط حتماً، إلا إذا اقترنت الثورة الديموقراطية، بحركة جذرية، تطيح بنظام العولمة الاقتصادي، الساري مفعوله، في مصر وتونس وشقيقاتهما العربية، والذي كان من كوارثه، قتل الدولة الحامية لمصالح الناس، وإحياء الدولة القابضة على أرواح الناس. فاقترنت الحرية الاقتصادية الفالتة والمتوحشة والمدمرة، بالقمع السياسي والبؤس الاقتصادي.

إن نظام مبارك لم يسقط بكامله ولن... إلا إذا أحدثت الثورة الديموقراطية، ربط نزاع، بين النظام الديموقراطي المزمع تأسيسه ورعايته، والنظام الاقتصادي الجديد، المضاد لنظام العولمة المتوحشة. فكما تعيد الديموقراطية للإنسان قيمته كفرد حر ومواطن مشارك ومسؤول ومحاسب، النظام الاقتصادي يعيد قيم العمل واحترام الكفاءة، وتثمين الانتاج، وحد الأرباح، وعدالة الضريبة، وعدالة التوزيع.

هل يمكن أن يكون سقوط مبارك، فاتحة لسقوط النظام الاقتصادي الذي كان سائداً في حكمه؟
ليس مبارك وحده فاسداً. النظام الاقتصادي كان أساس الفساد. والفساد بحاجة إلى كلاب حراسة، من أمن وقضاء وإعلام وثقافة وأحزاب... الفساد، رأس الحكمة فيه، القبض على السلطة، من قبل رجال المال (المنهوب) ومن قبل الشركات المتلاعبة بالسلع والأسعار.

لقد كان الفساد محتشماً، وفي الدول الديمقراطية، كان وما زال، سرياً. أما في العالم الثالث، فالفساد، والفاسدون، يسيرون في وضح النهار، ويتصدقون من فسادهم، بفتات لجمعيات خيرية، وفقراء مستعبدين، واعلاميين مرتزقة.

الثورة الديموقراطية الجديدة، تستدعي القطيعة مع نظام اقتصادي، يفرغ الدولة من مؤسساتها، فيدمر فعاليتها، وبالمقابل، يبشر بالخصخصة، التي ثبت بالعين المجردة، إنها سرقة من قبل السلطة وأعوانها وشركائها في الداخل والخارج.

الثورة الديمقراطية، إذا اقترنت بنظام اقتصادي اجتماعي تشاركي عادل، ستجد نفسها أمام نظام اقتصادي كوني يكدّس الخسائر ويتعرض لانهيارات مستمرة. فامبراطورية الدولار الأميركي العالمية، بعد عقدين من سفاح العولمة، وإفلات الحرية للأسواق (فقط للأسواق والأموال، وليس لمواطني العالم الثالث) وإطلاق يد قراصنة المال على غاربها، وتعميم المجاعات لـ40% من سكان المعمورة، وبعد رسم مسارات بهلوانية لألعاب الدولار في حلبات البورصة، سقطت أبراج المال في المركز، وجرّت خيول الليبرالية المتوحشة أوروبا معها، وبلغت قلب اليابان، وشواطئ الخليج... إمبراطورية العنف المالي هذه، حوّلت العالم إلى ساحات حروب في الشرق الأوسط، وإلى ساحات لاعدام أرصدة الفقراء والمودعين لأموالهم، في كرنفال الإجرام الانفاقي، وتعويض المصارف المجرمة، بأموال المكلفين، دون أن يتنازل كبار المصريين عن رواتبهم الباهظة.

III ـ خصخصوا تخلصوا
هل تعرف الولايات المتحدة أن الأنظمة العربية فاسدة؟ ألم تغمض أوروبا عينيها عن فساد الأنظمة السياسية المشاطئة للبحر المتوسط؟ إنها كانت تعرف جيداً وبالأرقام. وكان صمتها سياسة، لأن من مصلحتها دعم الفساد، وبلغ الأمر بالولايات المتحدة، أن تحتال على قوانينها، فتشرع الفساد، في جزر عذراء، أو في الفراديس الضريبية، فأشارت إلى الشركات الكبرى المصدرة للسلع وإلى الشركات المالية والمصرفية، أن تقيم "بيوتات" إداراتها المالية في خارج الأراضي الأميركية، علماً أن المؤسسات الأم تقيم في نيويورك وبوسطن وشيكاغو، أما أوروبا، فقد طوّعت قوانينها، وطنشت أحيانا، لأن الفساد هو العملة الصعبة، التي يتم بواسطتها، تسييل السلع.

وهكذا تحولت العولمة، إلى إفساد عالمي. لأن إفساد الدول الأجنبية، خارج منظومة الدول الديمقراطية، أمر محبّذ ومرغوب، وبناء عليه، فلا عقوبات تطال المساهمين في الفساد، خارج هذه الدول.

وهكذا، لم يعد للفساد مكان إقامة محدد. فهو لا يعترف بحدود جغرافية، وإلا، فكيف نفسر هذه الاجتياحات للاقتصادات المحلية وتدميرها، فتتحوّل، بلدان منتجة للغذاء الوفير، إلى بلدان يتضور شعبها جوعاً ويتعرض لما يشبه إبادة لزراعته وصناعته وحرفه، ليصبح إما خادماً أمنياً في أنظمة الفساد الدولية، وإما متسولاً لمساعدات ومشاريع تنمية، تصل أموالها إلى السلطات المحلية الفاسدة، التي تقتطع حصتها الكاملة، كحق يشرعه نظام النهب ومنطق الاستبداد.

أليس لأن الرأسمال مقيم في مراكز القرار الدولية، في واشنطن وسواها من عواصم العولمة المفترسة، بات المال يسير باتجاه واحد فقط، من الدول الفقيرة إلى الدول الثرية، ومن الفقراء إلى السوبر أثرياء، ومن الشركات الوطنية المهددة بالإفلاس، إلى الشركات العملاقة العابرة للقارات.

إن الأرقام مذهلة: 200 شركة عالمية تتحكم بـ32% من الاقتصاد العالمي. و100 شركة خاصة متعددة الجنسيات، تفوق صادراتها، صادرات 120 دولة فقيرة... أليس لأن الرأسمال، مقيم في الكونغرس، عبر 30% من أعضائه الذين يفوزون بلقب مليونير؟

إن البيت الأبيض، لونه أخضر. فهو محكوم بالدولار، ومهمة «الرؤساء الطيبين» فيه، هي تبييض هذه الأموال، بسياسات ذات طابع إنساني، ولو اتخذ شكل حرب على العراق، وقتل لملايين الأطفال، جوعاً ومرضاً.

إن خصخصة الكرة الأرضية كانت ملحة... ولقد عاشت مصر ومعها أقطار كثيرة، موجة الخصخصة... والاستثمارات العقارية الفضائحية، فتحولت إلى موظف مطيع لدى المؤسسات الدولية. ويروى، أن عدداً من المسؤولين ناقشوا الديون التي سجلت على دولهم. فكان جواب المؤسسات المالية وصندوق النقد الدولي: خصخصوا واسرقوا... وليذهب البلد إلى الإفلاس. وهكذا يتحول سيد النظام السياسي، إلى مرابٍ وسارق ومجرم، يصرف وقته في البحث عن كيفية تحويل أموال الناس (أمواله!!!) إلى الخارج، بواسطة عملاء وخبراء غربيين، تساعدهم نخبة من المنافقين، و«مثقفي» العولمة والمبشرين بفضائلها القاتلة.

IV ـ النازية المالية
حوار بين مخرج سينمائي وخبير دولي في نيامي في النيجر.
المخرج: هل يمكن أن ترى النور محاكمة نورمبرغ مرة أخرى لمحاكمة هؤلاء؟
الخبير: ماذا تقصد؟
المخرج: إن المسألة واضحة وبسيطة جداً. النازيون والفاشيون، برغم كل جرائمهم الرهيبة، تقصدوا ارتكاب جرائمهم ضد مجموعات بشرية محددة. كانوا ينفون صفة الإنسانية عن بعض الاتنيات فيبيدونها... النيوليبرالية من جهتها، تمارس جرائمها ضد الإنسانية برمتها.
الخبير: فهمت. العالم غابة. إن الرأسمال، يقتل ويثير الشقاق ويفتتح الحروب... إن ضحايا النازية المالية، أكبر بكثير من ضحايا النازية الهتلرية... وهم يتساقطون كل يوم.

انتهى الحوار... ولكن الضحايا، ما زالوا يتساقطون، ولا مفر من مقاتلة هذا النظام الاقتصادي المالي الدولي، واستبداله، بنظام عادل تصفه الثورات الديموقراطية الاجتماعية.
مصر أولاً... وسيتغير العالم ثانياً.
لن يبقى كل شيء كما كان... هكذا قال كثيرون، ومن بينهم قادة غربيون. لم لا؟ فهناك مكان شاسع تحت الشمس.
"السفير"
 

التعليقات