29/07/2011 - 12:32

الشعب يريد تحرير العقول../ نواف عثامنة

طالما بقينا نستحضر الادعاءات الصهوينية في مخليتنا كي نحاججها ونقنعهم بكتابتنا، فليس ثمة فرصة لكتابات فكرية تحررية. الفكر بتعريفه مجرد ومطلق. فليترك مثقفونا للأحزاب مهمة صياغة برامج العمل السياسي، وليهتموا هم بالتنظير والتفكير الحر، متحررين من صورة السيد المعششة في مخيلتنا ومتحررين من سؤال "هل سيوافق عامي ويوسي، وكيف سيردون". فالكتابة التي تحاصر نفسها، باسم الواقعية أو البرغماتية والتبريرية وغيرها من المفاهيم المناهضة للفكر، لا يمكنها أن تكون كتابة فكرية حرة وتحررية. نعم، عليكم بالكفر والجنون. والشعب نعم يريد تحرير العقول

الشعب يريد تحرير العقول../ نواف عثامنة
أدرك شباب ثورة مصر سريعاً برهافة حدسهم وخفة دمهم المعهودة أن إسقاط رموز النظام غير كاف بحد ذاته لتحقيق أهداف الثورة. فبعد ترحيل نظام مبارك أقاموا فضائية التحرير واستبدلوا شعار الثورة السابق "الشعب يريد إسقاط النظام"، بشعار "الشعب يريد تحرير العقول". لقد أدرك هؤلاء الشبان أن المهمة الأصعب الأن هي اسقاط صور النظام المنعكسة والراسخة في عقلية زبائن النظام السابق من مفكرين وصحفيين وبيروقراطيين، وربما في عقول العديد من عامة الناس؛ ذهب نظام مبارك ورحل، لكن ما يمثله هذا النظام لم يرحل بعد، فلديه الكثير من الزبائن الذين ما زالوا يهددون الثورة.
 
وعندنا هنا في فلسطين، لا يختلف الاستعمار الكولونيالي الصهيوني في آليات السيطرة، ليس السيطرة على الأرض والثروات فحسب، بل محاولة السيطرة على العقول والأذهان أساسا. قد نستطيع التغلب والتحرر من آليات القمع والسيطرة العلنية، لكن التحرر من الآليات المضمرة المسيطرة على العقول يحتاج إلى ثورة حقيقية. يستطيع مفكرونا وأكاديميونا (الراغبون بذلك منهم فقط) مقاومة النظام الصهيوني وتحديه، لكنهم، بمعظمهم، لم يتغلبوا بعد على الهيمنة الفكرية للمؤسسة المضمرة في أذهانهم والتي تؤطر سقف مشروعنا الفكري.
 
أسوق هذه المقدمة الطويلة المملة في أعقاب تراكم الكتابات والندوات المنشغلة بتصوراتنا المستقبلية ومحاولة صياغة مشروع تحرري، والتي تحتكم بغالبيتها (دون وعي عادة) للسقف الذي تشيّده الكولونيالية الصهيونية، والذي يعيق انعتاق الفكر من قيوده. وإن كان لا بد لاحتكام فكرنا لأمر ما، فليكن احتكامه لمبادئ العدل التاريخي والعدالة الإنسانية؛ فعلي سبيل المثال، وخلال ندوة لمثقفين فلسطينيين، الأول من الداخل والثاني من الضفة الغربية، وعلى الرغم من أن المداخلات كانت مثرية ومثيرة، فقد خرجت من الندوة بشعور سيئ. المؤسف حقا أن هذا النموذج لا يمثل الاستثناء، بل يعكس ظاهرة واسعة. لم أكن لأكتب هذا المقال مستعينا بمثال الندوة أعلاه لو لم تعكس نمط شائع لدى مثقفينا ومفكرينا.
 
السبب الرئيسي للاستياء، رغم النشوة التي شعرت فيها في بداية حديث كل من المحاضرين واتفاقي مع معظم ما قيل، هو السقف الإسرائيلي الذي ظهر جلياً ممعناً سيطرته على إطار الحديث، وبالتالي على استنتاجاته الفكرية. بدأ المحاضر الأول مداخلته المثرية حقا بطرح فكري جريء يتطلع إلى شمولية تمثيل كافة أجزاء الشعب الفلسطيني في إطار قومي جامع، لكن هذا التحليق الفكري ما لبث أن هبط في أعقاب استحضار المحاضر لقوانين اللعبة السياسية الإسرائيلية، وبالتحديد قوانين لعبة المشاركة في البرلمان الإسرائيلي، وإسقاطها على استنتاجاته، محولاً حديثه الفكري إلى كتاب دفاع أمام المحكمة الإسرائلية لمنع شطب الحزب العربي، أي حزب، والحيلولة دون منعه من خوض الانتخابات. هكذا تحولت الفكرة الأكاديمية إلى برنامج عملي سياسي محكوم بقيود القانون الإسرائيلي.
 
أما المحاضر الثاني، وبعد أن استعرض تاريخ خلل التمثيل الفلسطيني في المؤسسات الوطنية وعدم شموليته، فيما يبدو انتقادا راديكاليا للواقع، قد يؤدي إلى استنتاجات فكرية جديدة ومتحررة من "الواقعية البرغماتية" المصاغة إسرائيلياً، حتى سارع إلى تقييد فكره بما يعتقده أن الطرف الإسرائيلي قد لا يقبله، أو قد يثير سخطه. فبعد أن بدأ حديثه كمثقف فلسطيني، سارع بتقمص شخصية المفاوض الفلسطيني المحكوم سقف مطالبه بموازين القوى والهيمنة الصهيونية. المؤسف حقا أن هذا النموذج لا يمثل الاستثناء، بل يعكس ظاهرة واسعة.
 
المطلوب من مثقفينا ومفكرينا، هو التحرر أولاً من أدوات السيد وهيمنته ذهنياً، كي يقدموا لنا فكرا غير محاصر. فكرا متحرراً من هيمنة السيد ومن رغباته ونزواته. ليس المطلوب من المفكر، أي مفكر، أن يقدم لنا برنامج عمل سياسي تحكمه موازين القوى وإرادة السيد.
 
برأيي المتواضع، حتى وإن كنت اقحم نفسي في مجال لست فيه سوى طالب وفيّ ومجتهد، أنه كي تكون مفكرا، يجب أن تكون كافراً ومجنونا، أي تكفر بما تمليه موازين القوى وقوانين الكولونيالي، وأن تكون مجنونا كي تتغاضى عن المعيقات الفكرية التي تفرضها مفاهيم مثل الواقعية والبرغماتية. فهذه مفاهيم لا علاقة لها بالفكر والعقل والمفكرين، بل هي (ربما) شأن للسياسيين.
 
تخيلوا مثلا أن يقوم مثقفونا بالتنظير لحق العودة محكومين بتخوفات الكولونيالي الصهيوني، وبما قد يستفزه ويثير حفيظته، وبتسويغاته الأمنية والديموغرافية. فما الذي يبقى عندها من حق العودة، وما الذي سنبقيه للمفاوض الفلسطيني للتفاوض حوله، بعد أن قام مثقفونا الراديكاليون بتأطير هذا الحق تحت السقف الإسرائيلي. أو لنتخيل التنظير لحرية التنقل محكومين بقيود الحدود وجوازات السفر وقوانين الطوارئ والهواجس الأمنية، فما الذي يتبقى من هذه الحرية؟ الفكر، بحكم تعريفه، هو نشاط ذهني متحرر من علاقات القوة وقيودها، متحرر من إرادات السيد وشهواته، متحرر من القيود السياسية (وليس من السياسة نفسها).
 
ليس صدفة أن معظم ما يكتبه مثقفونا، مهما بلغت راديكاليته واختلفت انتماءاتهم السياسية، يبدو وكأنه جواب "لصديق يهودي". حيث يجلس مثقفنا ليكتب، فيستحضر ذلك اليهودي الإسرائيلي (اليساري عادة) ويبدأ يحاوره ويحاول اقناعه. وكي يمتنع عن استفزازه، نجده "يمشي على العجين ولا يلخبطه". من فترة قصيرة فقط قال لي صديقي نبيل إن المثقف الفلسطيني يكتب محكوما بهاجس ما الذي سيقوله الأصدقاء اليساريون، وتابع "خلص أنا بوخذهم وبسكنهم في بيتي وبحميهم. بس خلي جماعتنا يتحرروا منهم ويكتبوا".
 
طالما بقينا نستحضر الادعاءات الصهوينية في مخليتنا كي نحاججها ونقنعهم بكتابتنا، فليس ثمة فرصة لكتابات فكرية تحررية. الفكر بتعريفه مجرد ومطلق. فليترك مثقفونا للأحزاب مهمة صياغة برامج العمل السياسي، وليهتموا هم بالتنظير والتفكير الحر، متحررين من صورة السيد المعششة في مخيلتنا ومتحررين من سؤال "هل سيوافق عامي ويوسي، وكيف سيردون". فالكتابة التي تحاصر نفسها، باسم الواقعية أو البرغماتية والتبريرية وغيرها من المفاهيم المناهضة للفكر، لا يمكنها أن تكون كتابة فكرية حرة وتحررية. نعم، عليكم بالكفر والجنون. والشعب نعم يريد تحرير العقول.

التعليقات