28/09/2011 - 13:23

في ذكراه/ مصطفى طه

رحل عبد الناصر فقير الحال، لم يخلّف لأسرته سوى الراتب الذي تقاضاه كرئيس للجمهورية، ومع رصيد لا يُقدّر من الكرامة والكبرياء والعزة حُفرت عميقًا عميقًا في نفوس الملايين، وأصبحت واحدًا من المحركات الأساس نحو نفض التبعية الذي قاده نظام حسني مبارك ومضى بمصر نحو الحضيض بعد أن كانت قلب العروبة النابض في عهد ناصر، وقائدةً لمعسكر العالم الثالث في كل من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية - ولسان حال المستضعفين في الأرض، وصوت اللذين لا صوت لهم..

في ذكراه/ مصطفى طه

في الذكرى الواحدة والأربعين لفقيد الأمة جمال عبد الناصر

«يا خالد قول لأبوك: الشعب المصري بحبوك»


مصطفى طه

قبل واحدٍ وأربعين عامًا من مثل هذا اليوم رحل، يوم 28.09.70 بعد أن غادر مطار القاهرة الدولي مودعًا آخر ضيوفه – أمير الكويت – في اجتماع القمة العربية لإجراء مصالحة ما بين قيادة الثورة الفلسطينية والنظام الأردني، رحل والهم الفلسطيني على جدول أعمال حياته، كما كان حال بدايتها حين قاتل ناصر جنديًا في الجبهة الجنوبية دفاعًا عن فلسطين في أسدود والمنشية والفالوجة وعراق الشباب.

ستة ملايين مصري شاركوا في جنازته إضافة للملايين غيرهم في عالمنا العربي لوداعه الأخير، كما نزلت إلى الشوارع يوم خطاب التنحّي الذي تحمل فيه مسؤولية هزيمة سنة 67 وأعلن عن استقالته من رئاسة الجمهورية ليعود مواطنًا عاديًا في الوطن، ولكن الملايين أرغموه على البقاء.. أحبوه منتصرًا، وأحبوه مهزومًا، أحبوه حيًا وأحبوه ميتًا لأنه بادلهم الحب كابن لفلاح بسيط انحاز بالمطلق للفلاحين والفقراء والضعفاء بالفطرة، ورحل عن الدنيا وهو مدين للدكان بستين فلسًا.
سبعون مليارد دولار قُدرت ثورة حسني مبارك وحده، عدا عن أضعاف أضعافها من ثروة العصابات التي أحاطت به، وعلى رأسها أبناؤه الذين كدّسوا الأموال، وملؤوا الكروش وملايين البطون الفارغة حولهم من أبناء شعب مصر العظيم.. وأنهى حياته ذليلاً في قفص الاتهام رغم ملياراته.
رحل عبد الناصر فقير الحال، لم يخلّف لأسرته سوى الراتب الذي تقاضاه كرئيس للجمهورية، ومع رصيد لا يُقدّر من الكرامة والكبرياء والعزة حُفرت عميقًا عميقًا في نفوس الملايين، وأصبحت واحدًا من المحركات الأساس نحو نفض التبعية الذي قاده نظام حسني مبارك ومضى بمصر نحو الحضيض بعد أن كانت قلب العروبة النابض في عهد ناصر، وقائدةً لمعسكر العالم الثالث في كل من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية - ولسان حال المستضعفين في الأرض، وصوت اللذين لا صوت لهم..
بموته لم تمت الأمة العربية، ولكن ماتت إرادة التحدي الكامنة فيها والتي كان ناصر محركها الأساس، وماتت الكبرياء التي كانت ترد مباشرة على الظلم كما رد حين رفض البنك الدولي الموافقة على إعطاء قرض لمصر لبناء السد العالي بإعلان تأميم قناة السويس الذي اعتبرته أمريكا أخطر قضية في القرن العشرين بعد أزمة الصواريخ الكوبية.
في الرابعة والثلاثين من عمره كان عندما قاد ثورة الضباط الأحرار التي أنهت حكم الملك فاروق دون أن تنزف نقطة دم مصرية، واقتادوا فاروق إلى سفينته في عرض البحر ليرحل بعد أن وقـّع على أمر تنحّيه عن العرش، كأخلاق الثورة حتى مع الخصوم، كان في ريعان شبابه كحال "البياض" الأعظم من شباب ميادين التحرير، وبحكم جيله، كان التحدي أجمل ما فيه، أجمل منه روح العزة والكبرياء التي غلّفت هذا التحدي، ولكنه تحدٍّ تحكمه بوصله واضحة المعالم حددتها مبادئ الثورة أساسها طرد الاستعمار، والوحدة العربية وبناء جيش وطني، وثروة الوطن للشعب لا للأسرة الحاكمة، والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لأبناء الفقراء وغيرها.. أوليست هذه مطالب الثوار في ميدان التحرير؟!
في أحد خطاباته ألمح الزعيم السوفييتي "خورتشوف" على عبد الناصر بالقول: "أنه شاب متحمس ومندفع"، فكان رده في أول خطاب له: "لولا حماسي واندفاعي لكانت مصر قاعدة امبريالية في الشرق الأوسط"... مات الرجل، وعادت مصر قاعدة امبريالية فعلاً كما كانت عهد فاروق، بقبعتيّ السادات ومبارك، وعادت الى العهد الذي نفث ناصر روحه فيها قبل أن يرحل.. لعل..
يوم أذيع نبأ وفاته في الثامن والعشرين من أيلول سنة 1970 أمر الرئيس الأمريكي نيكسون أسطوله الذي كان متجهًا إلى سواحل مصر بالرجوع قائلاً: "أن الرجل الذي جئنا لنخيفه قد مات".
من أكثر لحظات حياتي تأثرًا، تلك التي زرت فيها القاهرة للمرة الأولى قبل أربع سنوات، وكانت محطتي الأولى ضريح رمز الكرامة، أبو خالد، فألقيت التحية، وقرأت الفاتحة على روحه، وكتبت ملاحظاتي في دفتر الزوار، وعنونتها بعنوان:
"رجل اتسعت همّته لآمال أمته"... هكذا لخص فيلسوف القومية العربية ساطع الحصري سيرة جمال عبد الناصر بجملة.
في ذكرى رحيلك الواحد والأربعين يا أبا خالد، نقف لنجدد العهد من جديد للمشروع القومي الذي جاءت الثورات العربية لتؤكده كمشروع وحيد لأمتنا العربية التي تبحث لها "عن مكانٍ تحت الشمس"، ونقف أمام ذكراك مرتين: مرة إجلالاً لروحك الطيبة الباقية فينا أبدًا، وأخرى لنرفع رؤوسنا كبرياءً كما علمتنا. وألف ألف رحمة لخالد جمال عبد الناصر الذي رحل قبل أسبوعين تحت هتاف المشيعين: "يا خالد قول لأبوك الشعب المصري بحبوك".


التعليقات