22/02/2012 - 10:06

تركيا تؤدي قسطها للعلى!../ نهلة الشهال

أخرج وزير الخارجية التركي، البروفيسور داوود اوغلو، اثناء زيارته لواشنطن مطلع الشهر الجاري، جملة تقول إن تركيا "أرادت للأسد الى أن يكون مثل غورباتشيف، ولكنه أراد أن يكون مثل ميلوسيفيتش"

تركيا تؤدي قسطها للعلى!../ نهلة الشهال
أخرج وزير الخارجية التركي، البروفيسور داوود اوغلو، اثناء زيارته لواشنطن مطلع الشهر الجاري، جملة تقول إن تركيا "أرادت للأسد الى أن يكون مثل غورباتشيف، ولكنه أراد أن يكون مثل ميلوسيفيتش". وأضاف صاحب "صفر مشاكل" ("مع الجيران"!!) صيغة أخرى، وفياً لعادته في البحث عن البريق، تقول إن تركيا "ستقف الى جانب حمص كما وقفت الى جانب ساراييفو وغزة". ولعل الصحافيين يحبون هذه "النهفات" كما يقال باللهجة اللبنانية، ولكنها كالفقاعات حين تتعرض للوخز من الواقع.
 
فغورباتشيف نفسه يقول اليوم إنه نادم على الكثير مما قام به، وإنه آسف جداً على زوال الاتحاد السوفياتي (الذي كان مليئاً بالاعوجاجات من دون أدنى شك). وعلى أية حال، لم ينهر هذا الأخير بفعل الرجل الذي جاء في لحظة "القطاف". وعلى كل حال، وبعد عقدين على ذلك التاريخ، أمضتهما روسيا في حالة من البؤس المخيف، إذ تفكك فيها كل شيء الى حد يشبه تحلل الجثث، عادت حليمة الى عادتها القديمة، بدون ادّعاءات شيوعية هذه المرة، ولكن مع أيديولوجية قومية تستلهم عظمة "الأمة" بالاستناد الى الدين أحياناً والى التاريخ القيصري في أحيان أخرى. وأما بوتين الذي يرمز الى هذه العودة، فيعتبر "زوال الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيو ـ سياسية في القرن العشرين"!
 
ولكن السيد اوغلو يتجاهل هذه "التفاصيل"، فالصيغ الرنانة لا تحتمل التلوينات ولا التعقيد والاسترسال. وهي تتوسل الشعار القابل أن يذهب مثلاً، ولو على حساب الواقع، بينما هذا الأخير هو حكماً ملون، معقد، متشابك. وأما حبس بشار الأسد في نموذج ميلوسيفيتش، فله وظيفة أخرى تناسبها الصيغ الشعاراتية. وهي وظيفة الدفع بالرئيس السوري نحو وصمة التجريم بل، ولمَ لا، الانتهاء في محكمة جزاء دولية، كما الرئيس الصربي.
 
وفي الحقيقة، فما يرتكبه نظام الأسد جريمة بكل المعايير. ولكن الموضوع ليس في هذه، بل في خطأ النموذج المختار للقياس... وبالتالي للحل. وحين ذكر وزير الخارجية التركي ساراييفو، فهو لم يفعل سوى الإمعان في الخطأ بما يُسقط احتمال الصدفة.
 
فقد تقاتلت أقوام يوغوسلافيا السابقة حتى التفكك. و"ساعدهم" في ذلك وعليه تدخل "الناتو" الذي كان يستهدف إعادة تركيب منطقة البلقان بمجملها. وأما في سوريا، وعدا الكرد، فليس هناك "أقوام" كبرى، وإن كان فيها تنوع كما في سواها، وهذه نعمة (فيا لهول التجانس التماثلي التام!). وعلى ذكر الاقوام، وعلى ذكر قمعها، وعلى ذكر ممارسة التصفيات بغرض الانسجام، فتركيا ليست مرجعاً صالحاً. لم تكن كذلك بالتأكيد طوال حقبة الاتاتوركية التي شهدت ذبح مئات ألوف الأكراد (وغير الاكراد أيضاً). وهي ما زالت اليوم، وفي ظل "الإصلاحية الإسلامية المعتدلة"، تنكر على أقلياتها (الكبيرة جداً) حقوقهم الأساسية، وتشن على بعضهم غارات بالطيران تحت مسميات مكافحة الارهاب.
 
ولذلك كله، فالأمر لا يتعلق بالدفاع اليوم عن حمص كما كان الدفاع بالأمس عن ساراييفو، إلا إذا كانت غاية التشبيه تحوير الرسم، بما يشبه تقنيات لعبة الظل، لتصبح المعركة الجارية أقوامية. والصراع في سوريا ليس كذلك، وهو صراع سياسي واجتماعي يدفع ثمنه الغالي من دمائهم السوريون الحالمون، عن حق ومشروعية، بدولة المواطنة والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، مما سحقته السلطة القائمة على القمع والفساد والمحسوبيات والتمييز على أسس شتى. وهذا كله هو، وليس سواه، ما يؤدي الى الإفقار، والى شعور الناس بالذل وعدم الأمان.
 
وبالتأكيد، فالمقارنة مع غزة بائسة تماماً، حيث يتعلق الأمر فيما يخصها بعدوان خارجي من جهة احتلالية واستيطانية وعنصرية. فهل قصد هنا أيضاً السيد أوغلو هذه المعاني، أم هو استرسل في البحث عن جمالية جملته من جهة، وسعى من جهة ثانية لاستحضار القوة الانفعالية والرمزية للقضية الفلسطينية (بما يشبه المتاجرة بها)؟
 
ولكن السيد أوغلو، بذكره ميلوسيفيتش وساراييفو، يمارس تحت ستار الإنسانوية وحماية الشعوب المقصوفة، تحريضاً طائفياً بشعاً. فساراييفو معركة حملت معنى الهجوم التصفوي على المسلمين. ولعلنا نقع هنا على بيت القصيد.
 
فلهذا التحريض باسم الإسلام (وإن إيحاءً حتى الآن) مرتكزات متزايدة يمكن لأصحابه الاعتداد بها، بحكم متوازيات مضمرة، يبدو المقصود منها هو أن الروس دعموا ميلوسيفيتش كما يدعمون اليوم الأسد! ويبدو المقصود منها هو تحريض المسلمين في العالم، وتحديداً في جمهوريات الاتحاد الأوراسي الناشئ (تلك التي يقطن معظمها سكان مسلمون أولاً، وينطقون بلهجات تركية ثانياً، ما قد يسمح لأنقرة برعاية الأمل في امتلاكها نفوذاً عليهم).
 
ولتلك الجمهوريات، بدءاً بأذربيجان وانتهاء بكل تلك التي تنتهي أسماؤها بـ"ستان"، أهمية بالغة في الإستراتيجية الجيوسياسية لروسيا، على نطاق الصراع العالمي الدائر، وهو التعبير البارز عن عودة التعددية القطبية الى العالم، وعن انتعاش روسي يمتلك خطاباً سياسياً (وتدابير وبرامج عسكرية، كما صرح بوتين منذ يومين)، وآخر صيني أقل فصاحة سياسية، ولكنه ليس أقل شأناً، بينما يمر العالم الغربي بأزمة اقتصادية بنيوية طاحنة. فهل تركيا بذا تستعيد مواقعها (السالفة) في الحرب الباردة الجديدة.
 
ولأن لتصريح السيد أوغلو وظيفة تحريضية تكاد لا تمتلك أي قدر من التمويه على الدور الروسي اليوم في سوريا، ولأن هذا الكلام أطلق من واشنطن، فهو يوحي بأنه ينبئ بالخطة المقبلة لمحور واشنطن/ أنقرة. لا سيما أن المخابرات الاميركية سربت، أثناء زيارة السيد أوغلو إلى واشنطن، أنباء تقول إن السلطات التركية هي من طلب نصب منصة الأطلسي للدرع الصاروخية في تركيا. وهذه تستهدف روسيا أكثر بكثير مما هي بمواجهة إيران، فلهذه الأخيرة منصات مخصصة لها ومنصوبة في أماكن أكثر ملاءمة.
 
وفي نهاية المطاف، قصد أوغلو أو لم يقصد، فهذا فصل جديد من الدفع باتجاه التشنج في سوريا. فصل جديد في استخدام الصراع الدائر فيها لغايات إستراتيجية، قد لا تطابق غايات الصراع الاجتماعي والسياسي، بل هي تقضي عليها. وقد مارست تركيا دوراً أساسياً في تشجيع المنحى العسكري للانتفاضة، وتحديداً في رعاية ظاهرة "الجيش السوري الحر" التي ابتلعت الحراك، بينما هي تعلم حق العلم، ما هي النتائج الكارثية المترتبة على هذا المنحى، لجهة استدراج ردود فعل بشعة من السلطة السورية القائمة، ولجهة تضليل المعارضات ودفعها للتشدد، آملة بتدخل دولي ميداني مساند.
 
وهذا، تعلم تركيا جيداً أن إمكاناته غير متوفرة اليوم، موضوعياً، علاوة على الفيتو المزدوج في مجلس الأمن. وكذلك تعلم أنه لن يغير في ذلك مؤتمر "أصدقاء سوريا" المنعقد بعد أيام في تونس... التي تبحث هي أيضاً عن دور، لعل دوافعه أقل هوساً بالعظمة مما يحرك تركيا. فهو يستند إلى نوع من "التسول" الجاري، من مانحين كالسعودية وقطر، بعد مناشدة مستثمري دافوس بشكل معيب. وكالعادة، فهناك خدمات مقابل الإحسان. ويبدو أن السلطات التونسية الحالية تسند "تصور"ها الاقتصادي لمواجهة الكارثة الموروثة عن نظام بن علي، إلى تحقيق معجزة(!)، عوضاً عن التخطيط الفعال من جهة، ومصارحة الناس من جهة ثانية، وهم قادرون على تحمل البؤس حين يعلمون أن أفقاً للحل يجري البحث عنه. ولكن، أين سوريا في كل ذلك؟
"السفير"

التعليقات