29/03/2012 - 09:32

بالوحدة السياسية فقط تُحلُّ معاناة غزة../ علي جرادات

ثمة مجموعة أزمات إنسانية يعانيها فلسطينيو غزة، هي، ورغم أن أزمة الوقود والكهرباء تتصدرها هذه الأيام، إلا أن أثقلها يتمثل في عدم القدرة حتى الآن على إعادة إعمار آلاف المنازل والمباني العامة التي دمرتها الحرب الإسرائيلية عليها نهاية العام 2008 وبداية العام 2009

بالوحدة السياسية فقط تُحلُّ معاناة غزة../ علي جرادات
ثمة مجموعة أزمات إنسانية يعانيها فلسطينيو غزة، هي، ورغم أن أزمة الوقود والكهرباء تتصدرها هذه الأيام، إلا أن أثقلها يتمثل في عدم القدرة حتى الآن على إعادة إعمار آلاف المنازل والمباني العامة التي دمرتها الحرب الإسرائيلية عليها نهاية العام 2008 وبداية العام 2009.
 
"حماس" تتهم "فتح" وجهات أمنية مصرية بالتواطؤ مع حكومة نتنياهو في خلق أزمة الوقود والكهرباء لإجبار "سلطتها" على استيراد الوقود عبر المعابر الإسرائيلية، ولكسرِ تصميمها على استيراد الوقود عبر معبر رفح، لكن الغريب في موقف "حماس" هنا أنها لا ترفض استيراد الوقود عبر المعابر الإسرائيلية انطلاقاً من رفضٍ سياسي لاتفاق "أوسلو" والتزاماته واشتراطات ملحقه الاقتصادي الباريسي، بل انطلاقاً من رفضِ تحويل ضرائب هذا الاستيراد إلى صندوق "السلطة" في الضفة، ومن أن استيراد الوقود عبر معبر رفح أرخص، وأنه، وهذا هو الأهم، يتيح تحويل ضرائب هذا الاستيراد إلى صندوق "سلطتها" في غزة، ما يشي بأن ثمة إصراراً على إطالة أمد، بل وتعميق، انقسام السلطة الفلسطينية الانتقالية إلى "سلطتين"، واحدة في الضفة، وأخرى في غزة، ما يحيل بدوره إلى أن كل الأحاديث عن إنهاء هذا الانقسام هي مجرد أحاديث للاستهلاك وذر للرماد في عيون أبناء الشعب الفلسطيني التواق إلى إنهاء الانقسام واستعادة وحدته السياسية اليوم قبل غدٍ.
 
لكن لا غرابة هنا ولا هم يحزنون، فموقف "حماس" "غير السياسي" من استيراد الوقود هو امتداد لمطالعة أشمل تتجنب طرح رؤية إستراتيجية لإنهاء الانقسام وبناء وحدة مواجهة فلسطينية جدية، يعلم الجميع، بمن فيهم "حماس"، أن تحقيقها غير ممكن دون الاتفاق أو التوافق على برنامج سياسي يجيب على كيف يمكن التخلص من الالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية لـ"المرحلة الانتقالية" من اتفاق "أوسلو"، التي انتهى عمرها الزمني في أيار 1999، وإلا ما معنى أن يأتي رفْضُ "حماس" لـ"إعلان الدوحة" "قانونياً" وليس سياسياً، بل، والقول إن الحكومة المراد تشكيلها على أساسه برئاسة الرئيس هي حكومة بلا برنامج سياسي، وذلك في معرض الرد على إعلان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن التزام هذه الحكومة باتفاقاتها المُوقَّعة مع إسرائيل؟!
 
على أية حال، المشكلة أن موقف "حماس" "غير السياسي" من مسألة استيراد الوقود، لا يشي فقط بمطالعتها "غير السياسية" الأوسع لمعالجة تردي الحالة الفلسطينية والتباساتها وانقساماتها، التي تطال كامل الشعب الفلسطيني، بل وينطوي أيضاً، بمعزل عن النوايا والتبريرات، على مخاطر الوقوع في براثن مخططات السياسة الإسرائيلية تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 عموما، وتجاه غزة تحديداً، بل وتجاه كامل الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية أيضاً، حيث بات جلياً أن حذفَ غزة إلى حضن مصر ووضع الضفة على الرف واستكمال استيطانها وتهويدها وسلخ القدس عنها هي، (بما قلَّ ودل)، عناوين سياسة حكومة نتنياهو التي ترفض اعتبار الضفة وغزة وحدة سياسية وإدارية وقانونية واحدة. وحكومة نتنياهو هنا تعتمد، وتستكمل، وتعمِّق، ما بدأه شارون بإعادة الضفة للاحتلال المباشر عملياً عام 2002، وبفك الارتباط أحادياً مع غزة عام 2005، ناسفاً بذلك صيغة الربط "الأوسلوي" بين الضفة وغزة، ("غزة وأريحا أولاً")، التي صاغها رابين أصلاً بحذر وعناية واشتراطات قاسية، وشت بإضمار إبقاء هذا الربط مفتوحاً على كل الاحتمالات، باستثناء احتمال تمخضه عن قيام دولة فلسطينية مستقلة وسيادية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ما عنى أنه ليس سوى حيلة تكتيكية تتيح التخلص من أعباء غزة السياسية والأمنية والمالية، وتسمح بإخراج الجيش الإسرائيلي من وسط "عش دبابير نابلس القديمة وجباليا" المنتفضة آنذاك، كما قال رابين، الذي تمنى أيضاً لو أن "البحر يبتلع غزة"، وإلا ما معنى عدم اشتمال هذا الربط على القدس التي جرى تأجيل قضيتها إلى "المرحلة النهائية"، وما معنى عدم اقتران هذا الربط بوقف الاستيطان والتهويد في بقية أراضي الضفة، وما معنى عدم الالتزام بفتح "ممر آمن" يربط الضفة بغزة، كما نص اتفاق "أوسلو"، ثم ألا يحيل كل ما تقدم إلى أن سياسة إسرائيل النظام، (بحكوماتها)، إنما تقوم على الرفض الثابت لتجسيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير في دولة مستقلة وسيادية، ولو على حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967؟!
 
واليوم يأتي نتنياهو، الذي وافق شارون على نسف صيغة الربط "الأوسلوي" بين الضفة وغزة، بإعادة الضفة للاحتلال المباشر عملياً، وخالفه عندما فك الارتباط أحادياً مع غزة، لاعتقاده أنه كان بالإمكان استخدام تفكيك المعسكرات والمستوطنات فيها ورقة مساومة لحذفها بأكبر قدرٍ ممكن إلى حضن مصر. ومن أسف، فقد جاء شرخُ "السلطة الفلسطينية الانتقالية" إلى "سلطتين" ليشجع حكومة نتنياهو بكل ما لديها من فائض تطرفٍ وعنجهيةٍ وصلفٍ، على تركيز جهدها وإمكاناتها الداخلية والخارجية لممارسة سياسة (وضع الضفة علناً على الرف) و(حذف غزة إلى حضن مصر)، وإن بشكل غير مباشر، أي بإطالة أمد انقسام "سلطتها" عن "سلطة" الضفة، وإغراقها بتشديد الحصار والضربات العسكرية في ما لا يحصى من أشكال الأزمات الإنسانية التي لن يجنِّبَ حلها من خلال معبر رفح فخَّ حذفها إلى حضن مصر، إلا إذا جاء من بوابة وحدة فلسطينية ترتكز إلى أساس، (برنامج)، سياسي وطني فلسطيني مُوحَّد ومُوحِّد يتحدى التزامات المرحلة الانتقالية من اتفاق "أوسلو"، ويتحمل تبعات هذا التحدي لا في غزة فقط، بل وفي الضفة، وقلبها القدس، أيضاً. أما دون توافر هذا الشرط السياسي الوطني، الذي تتجنب "حماس" حتى الآن طرحه، وتصر "فتح" حتى الآن على عدم الإقدام عليه، فإن ثمة وجاهة ومشروعية للقول: إن محاولات "حماس" حلَّ أزمات غزة الإنسانية عبر معبر رفح هي بالاستعمال الفئوي لمعاناة سكان غزة أشبه، وإنها، (بمعزل عن النوايا)، إلى احتمال حصاد طُعْمِ الفخ الإسرائيلي أقرب، بحسبان أن ليس بالمقدور تفسير أزمات غزة الإنسانية وحلها دون ربطها بما يجري على قدم وساق من استكمالٍ لسلخٍ القدس وتهويدها وتفريغها، ومن استكمالٍ لاستيطان بقية أراضي الضفة وتهويدها وتمزيقها، ما يستدعي مراجعة سياسية شاملة لمغازي ودلالات سياسة (إسرائيل رابين-بيرس 1993حتى 1996) وسياسة (إسرائيل شارون 2002 حتى 2005)، وسياسة (إسرائيل نتنياهو اليوم) تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، من جهة، وتوافر إرادة سياسية وطنية لدى جميع أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية، وأولها "فتح" و"حماس"، كإرادة بها، وبها فقط، يمكن تجاوز ما قدمه شرخُ السلطة الفلسطينية الانتقالية من خدمة لسياسة حكومة أولمرت، ثم حكومة نتنياهو، الرافضتين على طريقة شارون اعتبار غزة والضفة وحدة سياسية وإدارية وقانونية واحدة، مع كل ما يحمله ذلك من دلالات لا يعوزها الشرح على رفضِ إسرائيل النظام لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة والسيادية وعاصمتها القدس، من جهة أخرى.

التعليقات