10/04/2013 - 11:29

الأرض لا البنطال قضيتنا../ علي جرادات

لكن ما هو غير طبيعي ومفزع هو ألا تكون هذه الحقائق بدلالاتها السياسية المرعبة في مركز اهتمام أطراف التنظيم السياسي الفلسطيني المنقسمة على نفسها، وكأن الأرض ليست القضية الأساس، أو كأنها ليست القضية كلها، إلى درجة أن تتقدم عليها "قضايا" البنطال وتسريحة شعر شباب فلسطين وشاباتها والفصل بين فتيانها وفتياتها في صفوف الدرس والتعليم بعد بلوغ سن التاسعة

الأرض لا البنطال قضيتنا../ علي جرادات

كنضال كل الشعوب التي احتلت أرضها واغتصبت حقوقها فإن نضال الفلسطينيين ليس بذاته ولذاته، إنما لتحقيق هدف سياسي هو –جوهراً- استعادة حقهم في تقرير المصير الذي لا يكون مستقلاً وحراً وسيداً إلا باستعادة أرضهم وعودة المقتلعين منها إليها. لذلك لم يكن ما خاضه الفلسطينيون، ولا يزالون، من كفاح ميداني مديد متعدد الأشكال والمراحل والأوجه فعلاً اختيارياً، بل امتدادا لعمل سياسي تحرري مفروض، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بـ"التخريب" و"الإرهاب" وممارسات قطاع الطرق. إنه فعل ميداني هادف دونه قط لا يمكن تحويل احتلال أرضهم واستباحة حقوقهم وتشريد أكثر من نصفهم إلى مشروع خاسر بكل المعاني. إذ ليس ثمة في التاريخ احتلال أجنبيا رحل إلا بعد أن تحول إلى مشروع مكلف وباهظ الثمن، ذلك من غير أن ننسى أن الاحتلال الذي طال الفلسطينيين ليس مجرد استعمار تقليدي يروم السيطرة على مقدراتهم وثرواتهم، بل استعمار استيطاني توسعي عدواني يبتلع الأرض ويقتلع الناس ويزور حقائق تاريخ علاقتهم بها. لذلك كان النضال ضد المحتلين، ولا يزال، هو –أساساً- ما يضبط خط سير الفلسطينيين، وتبنى عليه وتتعزز به وحدتهم السياسية المراعية لاختلافاتهم الفكرية وتنوعاتهم الاجتماعية والمجتمعية بأشكالها. وكان قبل غيره ما يحول دون انحراف بوصلتهم، ويمنع انشغالهم في المفتعل من الاهتمامات والمهام. وكان –حصراً- ما يوحدهم ميدانياً في مراحل خلافاتهم السياسية الحادة. وكان هو –جوهراً- ما يجنبهم السقوط في براثن تعدد الأجندات، ويمنع بلوغ تبايناتهم وخلافاتهم واختلافاتهم الداخلية حدَّ الصراع العبثي على جلد الدب قبل اصطياده.

   واليوم وبعد قرن من النضال ضد احتلال هذا هو طابعه وهذه هي مقتضيات مواجهته يقف الفلسطينيون، وفقاً لآخر تحديثات معطيات مركز الإحصاء الفلسطيني، وجهاً لوجه أمام حقيقة أن هنالك بين بحر فلسطين ونهرها 11،8 مليون من البشر منهم 51% يهود يتملكون ويستغلون ويسيطرون على 85% من أرضها و49% فلسطينيين بيدهم 15% منها، ناهيك عن أن أكثر من نصف الفلسطينيين ما انفك يعيش اللجوء ويعاني مراراته.

وأكثر من ذلك فإنه ضمن سياسة الاستباحة الشاملة والمخططة للشعب الفلسطيني يركز قادة إسرائيل اليوم على ابتلاع ما تبقى من أرض فلسطين، وعلى التنكيل بالأسرى بوصفهم، (بعد الشهداء)، رمز  ثقافة المقاومة وخندق بنيتها المتقدم. وهذا طبيعي بحسبان أن الأرض الفلسطينية، كأية أرض، ليست مجرد عقار يباع ويشترى وينتج خيرات وقيم اقتصادية، إنما هي أيضاً علاقة تاريخية بين ناسها وترابها تنتج وعياً اجتماعياً وسياسياً يعمق ارتباطهم بها وانتماءهم إليها. لكن ما هو غير طبيعي ومفزع هو ألا تكون هذه الحقائق بدلالاتها السياسية المرعبة في مركز اهتمام أطراف التنظيم السياسي الفلسطيني المنقسمة على نفسها، وكأن الأرض ليست القضية الأساس، أو كأنها ليست القضية كلها، إلى درجة أن تتقدم عليها "قضايا" البنطال وتسريحة شعر شباب فلسطين وشاباتها والفصل بين فتيانها وفتياتها في صفوف الدرس والتعليم بعد بلوغ سن التاسعة.

بهذا، وعليه، ثمة حق لكل فلسطيني وفلسطينية أن يستشعر الخطر الذي أوصله إياه هذا التيه غير المسبوق لنخب قيادية، (أو تصف نفسها كذلك)، تتجاهل، سيان: بوعي أو بجهالة، حقيقة أن 85% من أرض فلسطين التاريخية قد تم الاستيلاء عليها، وأن العمل على تهويد واستيطان ما تبقى منها جارٍ على قدم وساق، فيما تنشغل، وتشغل الآخرين معها، في أمر تثبيت سلطتها بقوة السلاح على الناس، بل، وفي أمر نوع "البنطال" وطريقة تسريحة الشعر والفصل بين الذكور والإناث في التعليم.

هنا ثمة تيه، بل تتويه، مشحون بترف أيديولوجي لا يمكن القبول به أو السكوت عليه. فليس لأجل نشوء "سلطة وطنية" على بعض سكان فلسطين أراد المحتلين التخلص من عبئه الاقتصادي والأمني، ثار الشعب الفلسطيني وقدم عن طيب خاطر قوافل الشهداء والجرحى والأسرى. وليس بإدارة مدنية لشؤون بعض سكان فلسطين، إنما باستعادة الأرض يصبح شعب فلسطين حراً ومستقلاً وسيداً. وليس بالاحتراب الداخلي على سلطة وهمية على الناس، لكن بالتنافس على النضال ضد المحتلين، تستعاد الأرض ويعود اللاجئون إليها، ويصبح مشروع احتلالها مكلفاً وخاسراً.

بسالف القول لم نشأ سوى تظهير ما يعتري التنظيم السياسي الفلسطيني من تيه، ووضع اليد على ما يعانيه من أمراض تمنع توحد أطرافه، ولو بالمعنى الميداني، في مواجهة ما تتعرض له فلسطين، أرضاً وشعباً وحقوقاً ورواية، من استباحة شاملة ومخططة، بل ومن تصعيد غير مسبوق لهذه الاستباحة التي لم تنقطع يوماً منذ نشأة المشروع الصهيوني وحتى اليوم.

ولعلها الحقيقة بعينها أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تشهد في تاريخها الممتد إلى عشرينيات القرن الماضي هذا المستوى من التيه والبلبلة وفقدان الاتجاه والالتباس والمماحكات الانقسامية المريضة فيما جرافات الاحتلال تغرز أنيابها في لحم ما تبقى بيد الفلسطينيين من أرض ما انفكت مطمعاً لكل غاز ومستوطن، ما يفرض التركيز على إسناد كل فلاح يزرعها وشهيد يفديها ومناضل أسير يذود عنها، وعلى توحيد جهد وطاقات وإمكانات شعبها المعني أولاً وأخيراً بحمايتها والدفاع عنها. فبهذا، وبه فقط، تكتسب الأرض الفلسطينية قيمتها السياسية وتتحول من مصدر رزق إلى وطن. فموضوع الأرض الفلسطينية منذ بدء ابتلاعها واقتلاع أهلها هو مفجِّر ثورات شعبها وانتفاضاته بدءاً بانتفاضات عشرينيات القرن الماضي، مروراً بالثورة الكبرى، (1936-1939)، تعريجاً على بطولات القتال في محطة النكبة عام 1948، وصولاً إلى أربعة عقود ويزيد من الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة في الشتات بمحطاتها النوعية في الوطن: محطة العمل الفدائي في سبعينيات القرن الماضي، ومحطة يوم الأرض عام 1976، ومحطة الانتفاضة الشعبية الكبرى، (1987-1993)، ومحطة الانتفاضة الثانية المسلحة، (2000-2004). ما يعني: لئن كان المشروع الصهيوني منذ نشأته يستهدف ابتلاع الأرض الفلسطينية واقتلاع أصحابها، فإن محور كفاح الشعب الفلسطيني عبر قرن من الزمان ظل الدفاع عن هذه الأرض وحمايتها. إذاً، كيف، وبأي حق أو منطق تصبح قضايا نوع "البنطال" وطريقة تسريحة الشعر وفصل الذكور عن الإناث في التعليم من القضايا التي ننشغل بها، بينما 85% من أرض فلسطين التاريخية تم الاستيلاء عليها؟! لكن يبدو أننا أصبحنا فعلاً في زمن إحلال الأيديولوجي محل الواقع السياسي كأنه هو. فيا فرحة قادة حكومة المستوطنين في إسرائيل بهذه الحال.

التعليقات