25/06/2013 - 11:51

أزمة الشرعية السياسية.. حول حملة تمرد و30 يونيو../ د. محمد بريك*

يمكننا تناول حملة "تمرد" والمظاهرات التي تدفع لها في 30 حزيران/يونيو من وجهتين: الأولى من منطلق الحق السياسي والشرعية والمشروعية، والثاني من منطلق التقدير السياسي والإستراتيجي، ويجب ألا نخلط بينهما

أزمة الشرعية السياسية.. حول حملة تمرد و30 يونيو../ د. محمد بريك*

يمكننا تناول حملة "تمرد" والمظاهرات التي تدفع لها في 30 حزيران/يونيو من وجهتين: الأولى من منطلق الحق السياسي والشرعية والمشروعية، والثاني من منطلق التقدير السياسي والإستراتيجي، ويجب ألا نخلط بينهما.

بالنسبة لشق الشرعية والحق السياسي – فمهم أن نميز بين الحملة كوسيلة ضغط سياسي سلمي على رئيس الدولة للدعوة لانتخابات مبكرة، وفي هذا هي ملتزمة بالطرق الدستورية وتكون وسيلة للإصلاح السياسي شرعية بلا شك.

أما في حال أنها تريد إسقاط النظام السياسي ذاته، لأنها لا تعترف بشرعيته أو مفرزاته (رئاسة وبرلمان ودستور) فهي مقبولة داخل النظام الديمقراطي، ولكن بشرط السلمية بالطبع، وبشرط ألا تدخل في العملية السياسية ذاتها. لا يجوز أن تدخل في العملية السياسية ثم لا تعترف بشرعيتها إذا أتت النتيجة على غير ما تحب.

والحملة ـ كما يظهر- تحتوي على العنصرين، وإن كانت رسميا قد ظهرت أنها وسيلة ضغط سياسي على صاحب القرار ليتحرك في إطار الدستور للتنحي والتعجيل بالانتخابات الرئاسية، ثم تحولت لحركة تريد إسقاط النظام والدخول في مرحلة انتقالية.

في الحقيقة ليس عندي أي اعتراض على الحملة من منطلق الحق السياسي بشرط سلميتها، فقط تحفظ على الشق الذي لا يعترف بالشرعية ولكن يدخل في منتوجاتها كانتخابات. حتى نستكمل هذه النقطة، مهم أن نميز بين ثلاث مساحات في تناول المشكلة السياسية الحالية، وهذا التمييز ليس حاجة نظرية، ولكنه مفيد لفهم الواقع السياسي الحالي ومشكلاته بشكل أفضل، وكذلك استيعاب أخطاء الأطراف المختلفة:

أولا مساحة الشرعية: وهي (قبول السلطة القائمة من حيث كونها سلطة)، ومشكلة الشرعية أن تكون هناك مشكلة على شرعية النظام السياسي ذاته كقواعد وآليات وعقد اجتماعي وسياسي.
الشرعية السياسية ليست عاملا مكافئا للانتخابات أو الاستفتاءات بفرض نزاهتها، لأن عملية الشرعية تعتمد على ثلاث نقاط بالإضافة للانتخابات النزيهة:

النقطة الأولى، لا بد أن يكون منتوج الانتخابات تمثيلا حقيقيا للإرادة الشعبية، بمعنى أن تكون البيئة التي تُعقد فيها هذه الانتخابات (دستور، قوانين نظام انتخاب وتوزيع دوائر، قواعد سياسية خاصة بطبيعة الأحزاب ومدى ارتباطها بالنشاط الخيري والاقتصادي والنقابي مثلا والخطاب السياسي) غير مُنحازة لفصيل بعينه وتتماشي مع النسق الديمقراطي ذاته.

والنقطة الثانية، أن يكون العقد الاجتماعي ضامنا أن يحكم المنتوج الانتخابي بشكل ديمقراطي ويتماشى مع الإطار المرجعي لجماعة المواطنين: لا وصاية لفصيل غير منتخب أو لمؤسسة عسكرية، توازن بين السلطات وتمييز بين جهاز الدولة والسلطة التنفيذية، منعا لتسييس الأول، أو أي مسألة مرجعية عامة.

والنقطة الثالثة – أن تتماشي الممارسة الفعلية مع ما سبق، لأنه لا توجد شرعية دائمة، فقط تكون هناك شرعية في الابتداء، ثم يتحول النظام السياسي لما يناقضها. وهذا حتى ما كان يشير إليه فقهاء السياسة الشرعية كالجويني والماوردي بـ(انخرام الصفات الشرعية ابتداء وتوسطا) مع اعتبار الفروقات الإفتائية بالطبع، تبعا لتطور الواقع السياسي والاجتماعي وطبيعة العقود.

وبالتأكيد، هناك شريحة واسعة من المصريين والشباب الثوري تحديدا، ترى النظام الحالي يفتقد لكثير من أساسيات الشرعية السياسية ابتداء (لنشأته تحت حكم عسكري وصيغ دستورية وأوضاع انتخابية غير ديمقراطية أو تمثيلية)، وتوسطا (خصوصا بعد إعلان تشرين الثاني/نوفمبر الذي طغي على استقلال القضاء، وبسبب السياسة الإخوانية التي تحاول تسييس دولاب الدولة المهني، واختطفت دستورا يكرّس مصالح حزبية وفئوية، مع استدعاء لشعار معركة الشريعة أثناء الدستور وبعده، مع أن الأحزاب المدنية كلها مع حزب الإخوان تحديدا، قبلت بالمادة الثانية بالشريعة ورأتها ضمانة للهوية التشريعية للدولة، وكذلك تعاملت السلطة الإخوانية مع كثير من القضايا المحورية الاقتصادية والأمن قومية فقط، كأزمتي النيل بما يحقق مصلحة حزبية قصيرة الأمد، حتى لو تضمن هذا تنازلا عن الحقوق المصرية وتدليسا في عرض وإدارة سياقات الأزمة بشفافية واحترافية).

وقد يظهر مثلا فريق سياسي أو شعبي يرفض شرعية النظام السياسي، وبالتأكيد له الحق في الوجود بشرط السلمية وعدم الدخول في اللعبة السياسية (حينها لا يقبل منه الدعوة لانتخابات مبكرة بالأصل داخل ذات الإطار الدستوري)، وإذا استطاع هذا الفريق – بغض النظر عن حجمه أو سبب رفضه – وقد يكون حتى من منطق أيديولوجي يرى (كفر) الديمقراطية ذاتها، أو عدم مناسبتها كنظام، أو اقتنع بما نقله بعض أئمة السياسة الشرعية من حصول إجماع على عدم أحقية العوام في إنشاء عقد البيعة أو رفض مركزية السلطة، أو رفض للبناء الاجتماعي والاقتصادي القائم من منطلق ماركسي- أن يحرك ديناميكيات ثورة بأن يحوز على زخم شعبي حقيقي، فنحن أمام مسار من الشرعية الثورية، وبالتالي المشروعية مختلف. في هذه الحالة فقط يتحول إسقاط الشرعية من منظور فردي أو جهوي لإسقاط فعلي للشرعية.

ثانيا مساحة المشروعية: وهي معنية بقانونية الإجراءات والتزامها بإطار الشرعية السياسية السابق ذكره. ولهذا فأحيانا تكون هناك شرعية سياسية لنظام، ولكن عوار المشروعية يصيب بعض جوانب الممارسة وإفرازاتها. وعلى الرغم من أن كبار الفلاسفة السياسيين مثل جون لوك يميزون تماما بين الشرعية والمشروعية، إلا أن أزمة المشروعية قد تقود لأزمة في الشرعية، إذا تفاقمت وامتدت وأثرت على الوظيفة الأساسية للدولة، أو إذا أصابت نزاهة العملية الانتخابية ذاتها وعدم تحيز جهاز الدولة. وحتى الآن يحتفظ النظام، خصوصا بعد حكمي الدستورية بشأن مجلس الشوري والجمعية التأسيسية، بقوام مشروعية وإن كان فيه خروقات وقبول له بحكم الاضطرار، كما أشار اليه الحُكمان.

ثالثا مساحة الخلاف السياسي: وهذه مساحة طبيعية ولازمة في أي ممارسة ديمقراطية، لأن هناك اختلافا لابد من وجوده – فكريا وسياسيا وبرامجيا وإداريا – بين أطراف اللعبة السياسية، ولكن هناك إطارا من الشرعية كما يتمثل في الدستور، مثلا يؤمنون به، وكذلك لا توجد مشكلة في المشروعية. وفي هذه الحالة لا بد أن يحسم صندوق الاقتراع أي خلافات، وهناك أحقية لكل طرف أن يدعو لانتخابات مبكرة، ولكن يبقى هذا رأيا سياسيا لا يمكن تنزيله، إلا بما ينص الإطار الدستوري، ويجب أن يؤخر هذا الخيار كملاءمة سياسية في حالات التحول الديمقراطي، خصوصا للحاجة لتثبيت العملية الديمقراطية، كما أن منطق الملاءمة السياسية يقضي بظهور تحالفات سياسية جامعة تدير الملفات السياسية والاقتصادية في هذه المرحلة أو في المفاصل التي تواجهها الدولة.

وعلى هذا، نجد أن هناك قطاعات تنزل يوم 30 يونيو بسبب أزمة في الشرعية السياسية، وقطاعات تنزل بسبب أزمة حادة في الأداء الوظيفي للدولة في مساحات الاقتصاد والأمن القومي والتحول الديمقراطي خصوصا.

وبالنسبة لشق التقدير السياسي لما يحدث في 30 يونيو ومآلاته، فنحن بالطبع أمام حالة مزرية وتخوين متبادل وتمهيدات وشحن يقوم بها الطرفان لشرعنة العنف.. فريق يرى أن من ينزل هو (عدو للإسلام)، وفريق يرى أن الإخوان طاعون لابد من تصفيته.. ومن كلا الطرفين من ينظّر للعنف وبادر بممارسته ضد مخالفيه وضد مؤسسات الدولة استبدالا لها، وفي الطرف الأول جماعات عنف مسلح بطبيعتها قامت بمراجعات وهمية تراجعت عنها، والطرف الثاني يسمح بحكم وجود الفلول فيه بجماعات البلطجة والقناعة لأطراف فيه بأدوات عنف ثوري. هناك سيناريوهات مختلفة لما يمكن أن يحدث يوم 30 يونيو اعتمادا على عاملين: مدى استجابة الشارع لدعوات النزول، وفرص العنف وحدوده.

السيناريو الأول – يوم عادي من دون زخم شعبي كبير، أو حالات عنف هامشية. وبناء على هذا فلا تغيير كبير في المشهد غير توسعة دائرة الاحتقان السياسي في المرحلة المقبلة.

السيناريو الثاني – زخم شعبي كبير وسلمي ينزل وتراجع فرص العنف، ويصحب هذا ضغط سياسي قد يدفع لتنازل هنا أو هناك استفتاء على انتخابات مبكرة، أو حكومة انتقالية، أو لجنة لتعديل دستور.

السيناريو الثالث – حالات عنف كبيرة متبادلة أو يقوم بها أحد الطرفين فتستفز الطرف الآخر للدخول في دوامة العنف. وفي هذا الوضع يتدهور الوضع السياسي والأمني، ويتدخل الجيش بأشكال مختلفة.. أقلها الضغط لأجل أحد الخيارات في السيناريو الثاني، ولكن سيصحب ذلك توسيع للوصاية العسكرية العملية على الأقل، وقد يتطور التدخل لضربات أمنية، وظهور أكثر على مستوى مجلس الدفاع لإدارة الشأن السياسي، أو حتى المجلس الأعلى، وأعلاها مرحلة انتقالية محدودة، وهذا لا أرجحه إلا في حال انفلتت الأوضاع تماما بسبب العنف المتبادل، وهو يشمل إسقاط الرئيس بالطبع.

في كل هذه السيناريوهات لا توجد فرصة لتغيير جذري إيجابي يحقق نظاما ديمقراطيا من دون تعميق الوصاية العسكرية أو الخارجية، إذ أن الأخير يتطلب حراكا تراكميا وتجديدا للنخبة السياسية ذاتها من كل التيارات لتكون أكثر انحيازا لأبعاد الديمقراطية والعدل الاجتماعي والاستقلال، وأكثر تقديما للمصالح الوطنية عن الذاتية والفئوية، ولكن أفضل المنتوجات التي يمكن الوصول لها هو تحقيق قدر من التوازن السياسي وتقليل هيمنة فصيل، وفي ذات الوقت من دون توسعة الوصاية العسكرية، مع محاولة علاج ولو جزئي لمشكلة الشرعية والفشل الوظيفي الكبير للدولة، اقتصاديا وسياسيا وأمنا قوميا.

ولهذا فإن الدفع لأجل السيناريو الثاني (الضغط الشعبي السلمي التي تتحرك القوى الفاعلية يوم 30 يونيو لضمانة إجراءات السلمية تلك) هو أفضل الخيارات وإن كان للأسف أصعبها تحققا في مقابل السيناريو الثالث.
"القدس العربي"
 

التعليقات