29/01/2014 - 17:07

الديموقراطية تصحح نفسها : تونس مثالا../ د. مخلص الصيادي

تونس مثال في التغيير الديمرقراطي، وفي التصحيح الديموقراطي، وفي احترام إرادة الناس ورغبتهم، وفي التوكيد على أهلية الديموقراطية في بناء حياة الانسان في هذا العصر

الديموقراطية تصحح نفسها : تونس مثالا../ د. مخلص الصيادي

من تونس انطلق الربيع العربي، وبغض النظر عن الكثير من التنظير والتأصيل لمعاني وتجليات هذا الربيع، فإن المعنى المركزي فيه كان يتلخص في أساس واحد جوهري: استعادة الناس، الجمهور، الشارع، الشعب، لحقه في فرض ما يراه صحيحا على الحياة التي يعيشها بكل أوجهها، بالوسائل الديموقراطية، وأن يكون خياره هو الحاكم في كل شيء، أي أن الأشخاص والسياسات والبرامج، يجب أن تعبر جميعها عن إرادته وخياره.

وأهم من ذلك، وقبل ذلك وبعده، أن يكون المعيار الحاكم في هذا كله هو الدستور ملبيا لتطلع هذا الشعب وإرادته، وأن يكون في مقدورهذا الشعب، ومن صلاحياته أن يختبر صحة كل مرحلة، وكل خطوة، وكل إجراء ليتأكد من مطابقتها أو مقاربتها لما يريد.

وبهذا الأساس: عاد الناس إلى السياسية، واستعاد الناس الحكم وأدواته وأجهزته لأنفسهم: الحكومة، والجيش، والأجهزة الأمنية، والقضاء، والصحافة، والأحزاب ، كل هذه صارت، أو أراد الربيع العربي أن تكون، نابعة من إرادة الناس وخياراتهم، وملتزمة بإرادة الناس وخياراتهم، وأمينة على خيارات الناس وإرادتهم، كل وفق طبيعته ووظيفته وآليات عمله.

هذا هو المعنى الحقيقي للديمقراطية، وهذا هو المعنى الحقيقي للربيع العربي، وكل المعاني الأخرى متفرعة من هذا المعنى، أو مستقاة منه، أو معبرة عنه، كان هذا واضحا، في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا.

ليست صناديق الاقتراع ـ على أهميتها المركزية ـ هي الحَكَم في ديموقراطية أي نظام سياسي، إن هذه الصناديق واحدة من معايير الحكم على الوضع الديموقراطي، لكنها ليست هي المعيار، إرادة الناس المستقرة هي المعيار، وهذه الإرادة يعبر عنها بصناديق الاقتراع تارة، وبالتحركات المطلبية تارة، وبالتحرك الشعبي الشارعي تارة أخرى، والذي قد يصل الى حدود العصيان المدني، وقد يعبر عنها بمواقف الصحافة والقضاء، وما يمكن أن تتكشف عنه معركة الحياة من فساد أو تجاوز أو خلل.

كل هذه من وسائل العملية الديموقراطية، لذلك كانت حرية تشكيل الأحزاب، وحرية التظاهر، وحرية الصحافة، وحرية الوصول إلى المعلومات، واستقلالية القضاء، كلها أجنحة للعملية الديموقراطية شأنها شأن صندوق الاقتراع سواء كان صندوق انتخابات عامة، رئاسية أو برلمانية أو محلية، أو كانت دعوات  استفتاء على قضايا طارئة.

الأنظمة التي تولدت عن الربيع العربي عانت من خلل كبير، إذ حصدت القوى والأحزاب التي كانت ـ لأسباب كثيرة ـ أكثر تنظيما وقدرة مالية وإعلامية، نتاج هذا الربيع، حتى ليظن المراقب أن هذا الربيع صناعتها، وأن أهدافه وشعاراته وغاياته كانت من صنعها. لكن ظهر سريعا أن هذه الأنظمة الجديدة لم تتحرك على الطريق نفسه الذي انطلق على مساره ولأجله الربيع العربي، وهو ما بدأ يكشف عن نفسه بأزمات داخلية خانقة، والذي ينظر الى المشهد العام في دول الربيع العربي الثلاث: تونس ، مصر ، اليمن، يرى هذا بوضوح، وإذا كان اختتام مؤتمر الحوار الوطني في اليمن يمكن أن يؤشر إلى نتائج إيجابية قد تظهر لاحقا، فإنه  بات جليا أن تصحيح الأوضاع والخروج من الأزمات الداخلية في مصر وتونس أخذ منحنيين مختلفين، تماما.

في مصر: كان الطريق هو الدخول على الأزمة الوطنية بقوة الجيش، ضاربين عرض الحائط بوسائل التصحيح الديموقراطي، وجاءت النتيجة الوحيدة لهذا المسار في الدفع بالجيش إلى مقدمة العمل السياسي، وقطع المسار الديموقراطي، وكان الثمن وما زال باهظا بكل المقاييس، مقاييس الدم والضحايا، ومقاييس الأمن والاضطرابات، ومقاييس العمل السياسي، ومقاييس الوضع الاقتصادي والمعيشي، وجاءت هذه الخطوة بدعوى الحيلولة دون وصول البلاد الى مرحلة الحرب الأهلية، وظهر في مصر كأن الديموقراطية عاجزة عن تصحيح أخطائها. 

في تونس: الأمر اختلف كثيرا، فقد اعتمدت القوى السياسية على حقيقة أن الديموقراطية تملك وسائل تصحيح نفسها، وأن على الشعب وقواه السياسية الاستناد إلى هذه الوسائل واختبارها للوصول الى الهدف المبتغى وهو الخروج بالبلاد من مأزقها.

لقد تابعنا جميعا الممانعة التي أبدتها حركة النهضة تجاة مطالب التغيير، وتابعنا عمليات الاغتيال التي طالت قيادات سياسية مهمة في البلد، والهجمات والعمليات المسلحة التي استهدفت الجيش وقواه الأمنية، وتابعنا كذلك الكثير مما قيل عن وجود خطوط تواصل بين أطراف من حركة النهضة، والجماعات المسلحة المتطرفة، وكان يمكن لكل هذه الوقائع أو الفرضيات أن تدفع الجيش الى التدخل لحسم الأمر، أو تدفع هذه القوة السياسية أو تلك الى تحريض الجيش على التدخل، لكن ذلك كله لم يحدث.

لقد تمسكت قوى المعارضة بآليات العمل الديموقراطي، وأكدت ثقتها بقدرة الشارع على الحركة، وعلى التصعيد، وعلى إنجاز التغيير المنشود، وتسلحت في مشوارها الطويل بالصبر والثبات على طريقها.

وحين ظهر لحركة النهضة "الإخوان المسلمون في تونس"، أن عدم الانصياع الى الإرادة الشعبية قد يدفع بتونس الى الحرب الأهلية ـ حسب تعبير زعيمها راشد الغنوشي ـ، اختارت الطريق السليم، طريق الديموقراطية، طريق التوافق على دستور للبلاد يقبله الجميع، والاحتكام الى صناديق الاقتراع، والإقلاع عن منهج السيطرة على إدارات الدولة كانعكاس لسيطرتهم على الحكومة والبرلمان.

قد يكون ما حدث في مصر قدم درسا للقوى السياسية وللحياة السياسية في تونس فيما يمكن أن تؤول إليه الأمور حين يختزل الطرف الحاكم الديموقراطية بمجرد صناديق الاقتراع.

قد تكون حركة النهضة، وكذلك القوى السياسية الأخرى رأت أن الاتفاق على حلول وسط للقضايا ذات الخلاف، أفضل للحياة السياسية راهنا ومستقبلا  من خروج البلاد عن الطريق الديموقراطي.

كل ذلك قد تكون له مساهمة في أن يتفق التونسيون على هذا الطريق الديموقراطي في حل نزاعاتهم، وإذا كان هذا صحيحا فإن التعلم من تجارب الآخرين واحدا من علامات النضوج والمسؤولية.

تونس مثال في التغيير الديمرقراطي، وفي التصحيح الديموقراطي، وفي احترام إرادة الناس ورغبتهم، وفي التوكيد على أهلية الديموقراطية في بناء حياة الانسان في هذا العصر.

النموذج التونسي يشجعنا على إعطاء درجة عالية من الثقة في ديموقراطية الأحزاب السياسية التونسية، وفي قدرتها على تحمل المسؤولية تجاه الوطن والمواطن.

دعونا ننظر بكثير من الاحترام والتقدير لكل جوانب الحياة السياسية التونسية، للشعب التونسي، والقيادات التونسية، والأحزاب التونسية، والجيش التونسي، والصحافة التونسية، وندعو إلى الاحتذاء بها، فأمامنا مثل يستحق كل ذلك وأكثر.
 

التعليقات