19/03/2014 - 09:28

نحو قراءة موضوعية لراهن الصراع../ علي جرادات

كان يُفترض أن يفضي كل من تجديد "التهدئة" بوساطة مصرية بعد عدوان تشرين ثاني 2012 على غزة واستئناف المفاوضات برعاية أميركية في 29 تموز 2013 إلى وقف استباحات الاحتلال الميدانية في الأراضي المحتلة العام 1967 أو تخفيف حدتها على الأقل

نحو قراءة موضوعية لراهن الصراع../ علي جرادات

   كان يُفترض أن يفضي كل من تجديد "التهدئة" بوساطة مصرية بعد عدوان تشرين ثاني 2012 على غزة واستئناف المفاوضات برعاية أميركية في 29 تموز 2013 إلى وقف استباحات الاحتلال الميدانية في الأراضي المحتلة العام 1967 أو تخفيف حدتها على الأقل.

   كان هذا نظرياً، أما عملياً فقد تم تصعيد هذه الاستباحات سواء لجهة تشديد الحصار المفروض على غزة وتوسيع نطاق الاعتداءات العسكرية عليها، أو لجهة تكثيف إجراءات مصادرة أراضي الضفة واستيطانها وتهويدها وسرقة مياهها والعمل على ضم أجزاء منها، أو لجهة إطلاق يد غلاة المستوطنين وممثليهم في الحكومة و"الكنيست" في الاعتداء على حياة الفلسطينيين وإحراق حقولهم ومزروعاتهم وممتلكاتهم، أو لجهة تصعيد إجراءات تهويد القدس وتفريغها والاعتداء على مقدساتها ومحاولات السيطرة عليها أو تقسيمها، أو لجهة توسيع حملات الاعتقال والاستدعاء وتصعيد سياسة الاغتيال الإجرامية التي طالت حياة نحو 47 مواطناً فلسطينياً منذ استئناف المفاوضات.

   والسؤال: لماذا كل هذا التصعيد الميداني؟ ثمة من يعزو الأمر إلى رغبة حكومة نتنياهو في التملص من استحقاقات المفاوضات وفي جر الفلسطينيين إلى جولة جديدة من الصراع الدامي لتحميلهم مسؤولية فشل المفاوضات. ربما يكون هذا صحيحاً لناحية التوقيت والتكتيك، لكنه يتناسى أن حكومة نتنياهو رغم فائض تطرفها السياسي وتشددها الأيديولوجي تحرص على عدم فرط عقد المفاوضات و"التهدئة" وفق إستراتيجية عمادها التفاوض من أجل التفاوض و"التهدئة" من طرف واحد.

   ما يعني أن فائض عنجهية حكومة نتنياهو يدفعها إلى الاعتقاد بإمكان الفصل إلى ما لا نهاية بين سياسة المفاوضات والتهدئة وسياسة التصعيد الميداني بما يحول الأولى إلى مجرد غطاء للثانية، بل الاعتقاد بأن تصعيد جرائم الحرب الموصوفة يردع الفلسطينيين و"يكوي وعيهم" المقاوم. وهذه فرضية صهيونية قديمة ثبت بطلانها حتى أن أوساطا سياسية وعسكرية وأمنية وإعلامية إسرائيلية ما انفكت تحذر نتنياهو من مغبة التعلق بأهداب هذه الفرضية الواهمة التي أورثت حكومات إسرائيل السابقة مفاجآت الهبات والانتفاضات الشعبية الفلسطينية، بدءاً بحكومة شامير-رابين التي فاجأها اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى العام 1987، مروراً بحكومة نتنياهو الأولى التي فاجأها اشتعال "هبة النفق" المسلحة العام 1996، وصولاً إلى حكومة بارك التي فاجأها اندلاع "انتفاضة الأقصى" العام 2000.

   هنا يتبدى أن التصعيد الميداني الإسرائيلي الجاري إن هو إلا صدى لصوت سياسة يحركها تشدد أيديولوجي صهيوني لخصه نتنياهو مؤخراً بالقول: "لن توافق حكومتي على أي اتفاق لا يتضمن إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين والاعتراف بإسرائيل "دولة قومية للشعب اليهودي"، وكأن هذا لا يعني تصفية جوهر القضية الفلسطينية وتسليم الشعب الفلسطيني بجوهر المشروع الصهيوني وحقائقه المفروضة على الأرض. لكن حكومة نتنياهو تتجاهل أنها بهذا التصعيد السياسي والميداني إنما تحول الحالة الشعبية في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 إلى مرجل يغلي أو بركان على وشك الانفجار، وتنسى أن الهبات الجماهيرية المتلاحقة بما يصاحبها ويتوالد عنها من أعمال مقاومة متنوعة واشتباكات ومسيرات وتظاهرات حاشدة تدل على أن تيار مقاومة الاحتلال يتدفق بغزارة في أوصال وعروق الحالة الشعبية. ما يعني أن بوسع الانقسام الداخلي المدمر ومواصلة سياسة التفاوض من أجل التفاوض و"التهدئة" من طرف واحد إرجاء الانفجار الشعبي الشامل، أما إبطال مفاعيله والتحكم بها والسيطرة عليها إلى أجل غير مسمى فأمر غير ممكن. أما لماذا؟

لئن كان العامل الذاتي متمثلاً في انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية وقلة استعداد بعض نخبها القيادية هو ما يميِّع الحالة الشعبية الملتهبة، فإن العامل الموضوعي متمثلاً في سياسات الاحتلال التي تستبيح فلسطين شعباً وأرضاً وحقوقاً وكرامة هو المحرك الأساس والعامل الأهم لتحويل الحاصل من هبات جماهيرية إلى اشتباك واسع وممتد ومتصاعد تقدم الأمر أو تأخر. ولعل كل مقاربة لا ترى هذه الحقائق في راهن الصراع إن هي إلا مقاربة ذاتية قاصرة تتجاهل- سيان بوعي أو بجهالة- أن الحالة الشعبية الفلسطينية السائدة في الأراضي المحتلة العام 1967 تشبه إلى درجة كبيرة ما كان سائداً فيها قبل الانتفاضة الشعبية الكبرى العام 1987 وهبة النفق المسلحة العام 1996 وانتفاضة الأقصى العام 2000، وتتجاهل أن سياسات الاحتلال واستباحاته الميدانية هي- في نهاية المطاف- ما يحدد توقيت اندلاع الهبات والانتفاضات الشعبية الفلسطينية وطبيعتها ومداها.

   بل وتتجاهل أن الاحتلال الإسرائيلي هو أسوأ احتلال في التاريخ، وأنه لن يرحل إلا إذا تحول إلى مشروع خاسر بالمعنى الشامل للكلمة، ما يعني أن المقاومة الفلسطينية بمعناها الواسع ليست ولم تكن يوماً خياراً ذاتياً، إنما هي خيار مفروض ودائم وإن تغيرت وسائلها وطرائقها ووتائرها وأشكالها ومستوياتها في هذه المحطة المفصلية أو تلك. فالاحتلال الإسرائيلي احتلال عنصري ينكر وجود شعب فلسطين. وهو احتلال إقصائي لم يتردد في التخطيط لإزاحة شعب فلسطين من التاريخ والجغرافيا والسياسة، ونفذ تطهيراً عرقياً دموياً شاملاً عام 1948، وآخر مشابها وإن جزئياً عام 1967، بل ما انفك يمارس كل ما من شأنه تفكيك وحدة شعب فلسطين وضرب هويته وتدمير ميكانيزمات وجوده وتطوره، فيما يتمادى اليوم بقيادة نتنياهو لفرض الشروط الصهيونية التعجيزية الناسفة لكل إمكانية للتوصل إلى تسوية سياسية للصراع تلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. وكل ذلك بالتوازي مع سياسة مخططة لمصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها وتفريغها وسرقة مياهها، ومع ما يرتكب  بصورة يومية بحق الفلسطينيين من تقتيل واعتقال واغتيالات وإذلال ومس بالكرامة واعتداءات على الممتلكات والحقول وتدمير البيوت وإتلاف المزروعات وتقييد الحركة والسفر واستباحة المقدسات ومحاولات سن قوانين السيطرة عليها وتهويدها وتغيير معالمها وتقسيمها.

   قصارى القول، وبتكثيف وإيجاز شديدين: التصعيد السياسي والميداني الذي تمارسه حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو يجعل أي تمديد محتمل للمفاوضات عقيماً وبلا طائل وغير ذي معنى، ويفرغه من كل مضمون حتى بحسابات إنهاء الاحتلال القائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، ما يجعل الانفجار الشعبي الفلسطيني خياراً قائماً بالقوة بصرف النظر عن شكله ومستواه وتوقيته وكيفيته. وهو ما يفرض على القوى السياسية الفلسطينية المنظمة بألوانها وبمستوياتها الشعبية والرسمية التهيؤ والتوحد سياسياً، وفي أقله ميدانياً، لتلبية استحقاقاته. أما لماذا؟

   من أهم دروس تجربة النضال الوطني الفلسطيني أنه كلما تزايد قمع الاحتلال ارتفع منسوب المقاومة بالمعنى الشامل لمفهوميْ القمع والمقاومة، فما بالنا عندما ترفع حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو منسوب قمع الاحتلال وجرائمه الموصوفة واستباحاته الشاملة لكل ما هو فلسطيني إلى حدود غير مسبوقة؟! هذا بينما يعلم نتنياهو ويعلم الفاشيون من أركان حكومته أن "جيشهم النووي" فشل في إخماد انتفاضات شعبية سابقة دامت لسنوات وحيدت إلى درجة كبيرة تفوقه التكنولوجي وتفوقت عليه سياسياً وأخلاقياً وكبدته خسائر فادحة. إذ ألم يتبجح رابين كوزير للدفاع في حكومة شامير عندما أجبره اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى العام 1987 على قطع زيارته للولايات المتحدة بالقول: "سوف أضع حداً لأعمال الفوضى والعنف في ثلاثة أيام"؟! فماذا كانت النتيجة؟ سبعة أعوام من الانتفاضة لم ينفع لوقفها تنمُّر"الجيش الذي لا يقهر" بإطلاق النار على الأطفال والمدنيين، عدا اللجوء إلى سياسة "تكسير العظام" والزج  بآلاف النشطاء في المعتقلات العسكرية التي أقيمت على عجل لاستيعاب ما عجزت عن استيعابه السجون القائمة آنذاك، وما أكثرها. هنا ثمة درس لمن يريد أن يفهم راهن الصراع  ومآلاته المستقبلية فهماً موضوعياً.                   

التعليقات