26/03/2014 - 15:39

الهدف تمديد المفاوضات.. لكن../ علي جرادات

إنها الدعوة إلى تمديد المفاوضات من أجل المفاوضات في ظل استمرار، بل تصعيد، سياسة مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد والحصار والعدوان والاغتيال والاعتقال والاعتداء على المقدسات واستباحة كل ما هو فلسطيني

الهدف تمديد المفاوضات.. لكن../ علي جرادات

رغم ثبوت عقم التعاقد السياسي لـ"مفاوضات الأرض مقابل السلام" التي أطلقها "مؤتمر مدريد"، 1991، ورغم وصوله إلى طريق مسدود وتحوله إلى مجرد شكل لتعميق الاحتلال عوض إنهائه، ما انفكت الأنظمة الرسمية العربية متشبثة بهذا التعاقد، ذلك لأن من شأن إنهائه أن يعيد المواجهة بالمعنى الشامل للكلمة إلى ما كانت عليه قبل إبرامه. بل إن أغلبية الأنظمة الرسمية العربية تخشى انفراط عقد هذا التعاقد أكثر من إسرائيل وحليفها الإستراتيجي الثابت الولايات المتحدة المستفيديْن الأساسييْن من إدامته. أما لماذا؟

لأن إنهاء سياسة هذا التعاقد يكشف عجز هذه الأنظمة، ويميط لثام تبعيتها للسياسة الأميركية وخضوعها للعربدات الإسرائيلية، ويحرج تهربها من الوفاء بالتزاماتها القومية تجاه القضية الفلسطينية التي تبقى- شاء حكام العرب أو أبوا- "قضية العرب المركزية".

وأكثر من ذلك فإن بعض هذه الأنظمة يتمنى اليوم لو أن المفاوض الفلسطيني يتخذ "قرارات صعبة من أجل السلام" كما تدعوه إلى ذلك إدارة أوباما، فيما يعلم الجميع أن اللغة الدبلوماسية لهذه الدعوة هي مجرد ظاهر يحجب ضغوط وتهديدات وابتزازات تدور في الغرف المغلقة لانتزاع موافقة فلسطينية على"اتفاق إطار" يعادل قبول التفاوض على أساسه الموافقة المبدئية على شطب حق اللاجئين في العودة، والتسليم بمساواة القدس ببعض ضواحيها بحيلة: "يكون للفلسطينيين عاصمة في القدس"، وببقاء الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة، وببقاء جيش الاحتلال لمدة طويلة -أي دائمة- على حدود فلسطين مع الأردن، وبتحويل جدار الضم والفصل إلى حدود سياسية رسمية، وبإرجاء البحث في مصير غزة لإدامة فصلها عن الضفة. ماذا يعني هذا الكلام؟

إن بعض الأنظمة الرسمية العربية المختبئة خلف الحجة الزائفة: "نقبل بما يقبل به الأخوة الفلسطينيون"، قد انتقل من موقع المتهاون إلى موقع المتواطئ مع إدارة أوباما التي لم تكتفِ بما أبداه المفاوض الفلسطيني من مرونة زائدة ومجانية في "قضايا الوضع النهائي" سواء لناحية القبول بالتباسات "إيجاد حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين"، أو لناحية قبول التفاوض على حدود الرابع من حزيران 1967، أو لناحية القبول بمبدأ "تبادل الأراضي" المعادل- أياً كانت نسبته وقيمته- لبقاء جزء من الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة، أو لناحية القبول بوجود مؤقت لطرف ثالث-حلف الناتو مثلاً- في منطقة الأغوار وعلى الحدود مع الأردن، أو لناحية القبول بإعطاء مدة 3-5 سنوات لانسحاب جيش الاحتلال من الضفة.

وأظن، وليس كل الظن إثماً، أن ضمان السيد كيري لموقف بعض الأنظمة الرسمية العربية هو ما يفسِّر تفاؤله الزائد حدَّ الأمل في التوصل إلى "اتفاق حل نهائي" "ينهي المطالب"، و"يضع حداً للصراع"، فيما يعلم كيري وغيره أن الأمل في قدرة تسعة شهور من المفاوضات على حل صراع عمره مئة سنة، وفشلت 25 عاماً من المفاوضات في تسويته، هو أقرب إلى "أمل ابليس في الجنة"، بل هو مجرد نكتة مثقلة بخداع التبني الأميركي الكامل لشروط ومطالب حكومات إسرائيل السابقة وصولاً إلى تبني شروط حكومة نتنياهو ومطالبها الصهيونية التعجيزية، ما يجعل وعود إدارة أوباما للفلسطينيين مجرد ضباب يخفي حرصها على استمرار التحكم بملف القضية الفلسطينية، بل العمل على تصفيتها باسم إيجاد حل لها.

لذلك كان من الطبيعي أن تتبدد آمال كيري ورئيسه أوباما في التوصل إلى "اتفاق حل نهائي" أو حتى إلى "اتفاق إطار" أساسه المطالب الصهيونية الناسفة لأدنى الحقوق الفلسطينية. هنا لم يتبقَ أمام إدارة أوباما كناقل لمطالب حكومة نتنياهو أشد حكومات إسرائيل تطرفاً سوى العودة إلى لغة التهديد والوعيد لضمان بقاء المفاوض الفلسطيني في إطار تعاقد التفاوض من أجل التفاوض وبلا شروط أو مرجعية غير مرجعية طاولة المفاوضات، بل ومطالبته بالإقدام على "مجازفات" ليس بوسع فلسطيني- حتى لو أراد- الإقدام عليها لأنها تساوي الموافقة على المطالب الصهيونية لحكومة نتنياهو وطموحها في فرض شروط الاستسلام على الشعب الفلسطيني.

هنا تتبدى الثمار المرة والنتائج المدمرة للخلل البنيوي المتمثل في قبول البحث عن إمكان إنهاء سيطرة إسرائيل على الضفة وغزة عبر الدخول في مفاوضات مباشرة مع حكومات احتلال استيطاني إقصائي احلالي عدواني توسعي، وترعاها وتتحكم في مجرياتها الولايات المتحدة الحليف الإستراتيجي الثابت لهذا الاحتلال الذي لن يرحل من دون تحويله إلى مشروع خاسر بالمعنى الشامل للكلمة. لقد تبدى فشل هذا الخيار العقيم والمدمر مبكراً، لكن مراجعة جادة له لم تحصل، بل ونجحت الضغوط الأميركية في نهاية تموز الماضي في إجبار المفاوض الفلسطيني على الدخول-بلا شروط أو مرجعية محددة- في جولة مفاوضات من تسعة شهور، حرصت الإدارة الأميركية على سرية مجرياتها، وعلى تخويل وزير خارجيتها كيري وحده بالإعلان الرسمي عنها.

بعيداً عن أوهام إدارة أوباما في إمكان التوصل إلى "اتفاق حل نهائي" للصراع وفقا للمطالب الصهيونية، وبعيداً عن خداع محاولتها فرض "اتفاق إطار للتفاوض على أساس هذه المطالب، فإن تمديد المفاوضات الثنائية المباشرة برعاية أميركية، أي بلا شروط وخارج مرجعية القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع، هو الهدف الفعلي المباشر لإدارة أوباما وما تمارسه من ضغوط وتهديدات وابتزازات على المفاوض الفلسطيني في ظل وضعية وطنية فلسطينية يسودها الضعف والانقسام والالتباس، ويزيدها ضعفاً على ضعف انشغال مراكز القوة العربية بهموم داخلية وتحديات مصيرية هي الأخطر منذ عقود. ضغوط وتهديدات وابتزازات هائلة وثقيلة تدعو إلى اتخاذ "قرارات صعبة" والإقدام على "مجازفات" "من أجل السلام". هكذا لخص الأمر وكثفه الرئيس الأميركي أوباما في الأسبوع الماضي خلال لقائه الرئيس أبو مازن في البيت الأبيض.

والسؤال: ما هي "القرارات الصعبة" المطلوب من المفاوض الفلسطيني التجرؤ على اتخاذها بعد كل ما قدمه من تنازلات مجانية على أمل تليين مواقف أكثر حكومات إسرائيل عدوانية وتوسعية وتطرفاً سياسياً وتشدداً أيديولوجياً، ذلك حتى من وجهة نظر جهات سياسية وحزبية وإعلامية إسرائيلية صهيونية؟!

بإيجاز وتكثيف شديديْن إنها الدعوة إلى تمديد المفاوضات من أجل المفاوضات في ظل استمرار، بل تصعيد، سياسة مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد والحصار والعدوان والاغتيال والاعتقال والاعتداء على المقدسات واستباحة كل ما هو فلسطيني. لكن لعل من المفيد التشديد على:

إن تمديداً للمفاوضات في ظل التصعيد الميداني الإسرائيلي غير المسبوق إنما يعني الاعتقاد بإمكان الفصل إلى ما لا نهاية بين سياسة المفاوضات العقيمة المدمرة وسياسة التصعيد الميداني الإسرائيلي بما يحول الأولى إلى مجرد غطاء للثانية، بل الاعتقاد بأن تصعيد جرائم الحرب الموصوفة يردع الفلسطينيين و"يكوي وعيهم" المقاوم. وهذه فرضية صهيونية قديمة ثبت بطلانها حتى أن أوساطا سياسية وعسكرية وأمنية وإعلامية إسرائيلية ما انفكت تحذر نتنياهو من مغبة التعلق بأهداب هذه الفرضية الواهمة التي أورثت حكومات إسرائيل السابقة مفاجآت الهبات والانتفاضات الشعبية الفلسطينية، بدءاً بالانتفاضة الشعبية الكبرى العام 1987، مروراً بـ"هبة النفق" المسلحة العام 1996، وصولاً إلى"انتفاضة الأقصى" العام 2000. ولعل كل مقاربة لا ترى هذه الحقائق في راهن الصراع إن هي إلا مقاربة ذاتية قاصرة تتجاهل- سيان بوعي أو بجهالة- أن الحالة الشعبية الفلسطينية السائدة في الأراضي المحتلة العام 1967 تغلي كبركان يوشك على الانفجار، وأن سياسات الاحتلال واستباحاته الميدانية المتصاعدة هي في نهاية المطاف- تقدم الأمر أو تأخر- ما يحدد توقيت الهبات والانتفاضات الشعبية الفلسطينية وطبيعتها ومداها.

التعليقات