13/04/2014 - 10:52

عزمي بشارة: "خذوا ديمقراطيتكم وأعيدوا لنا فلسطين"/ موسى ذياب

قدم عزمي بشارة خلال وجوده في الوطن نموذجاً جديداً من النضال ضد دولة اسرائيل، فقد رفض الانصياع لقواعد اللعبة الاسرائيلية وصولاً إلى تحطيم القالب الذي أرادت اسرائيل أن تحصر عرب الداخل بين جدرانه.

عزمي بشارة:

قدم عزمي بشارة خلال وجوده في الوطن نموذجاً جديداً من النضال ضد دولة اسرائيل، فقد رفض الانصياع لقواعد اللعبة الاسرائيلية وصولاً إلى تحطيم القالب الذي أرادت اسرائيل أن تحصر عرب الداخل بين جدرانه. تفاجأت المؤسسة الإسرائيلية أنها أمام نموذج جديد من العربي الفلسطيني الذي يحمل بطاقة الهوية الإسرائيلية، لكنه يحتفظ بكرامته القومية والوطنية ويقدم خطابًا ديمقراطيًا ليبراليًا معادياً للصهيونية زعزع بنية النظام الاسرائيلي "الديمقراطي" وأظهر تناقضاته الداخلية وتنقاضه مع أسس النظام الديمقراطي الحقيقي، ويتحرك بموجب بوصلة عربية واضحة لا تلتفت إلى "المتوقع منها إسرائيليًا" لرد الجميل على "المواطنة" والهوية "الزرقاء".  وحتى العضوية في البرلمان، اعتبرها بشارة تنازلاً أكثر مما هي مكسب، وهذا ما صرح به عدة مرات على المنبر. لهذا رفض دومًا وبشكل مثابر ألا يهاجم من منصة الكنيست الاسرائيلي ووسائل الإعلام الإسرائيلية الأنظمة العربية، وعندما عايره الإسرائيليون بديمقراطيتهم مقارنة بأنظمة الدول العربية قال لهم عبارته الشهيرة : "خذوا ديمقراطيتكم وأعيدوا لنا فلسطين".

شكل بشارة تحدياً صعباً للمؤسسة الإسرائيلية بفرضه واقعاً جديداً متمثلاً بالعربي صاحب الكبرياء والكرامة وعزة النفس، وخلط  أوراقهم وأوراق العرب الذين كانوا يهادنون المؤسسة ويرقصون وفق ايقاعها ويتملقون رجالاتها. شكل بشارة "وجع راس" أيضاً لقادة الأحزاب العربية المتنافسة ووضع سقفاً جديداً من التعامل مع المؤسسة الإسرائيلية وطوَّع العمل البرلماني لفضح العنصرية. لم يكن أمام هؤلاء بعد ذلك إلا أن يكرسوا انفصام خطابهم الإسرائيلي. رددوا خطاب التجمع في الفضائيات العربية، وحافظوا على  خطاب متأسرل في الاعلام العبري.

شارك بعض هؤلاء في التحريض على بشارة والتجمع في إسرائيل وأمام الصهانية لكونه "متطرفاً"، وشنوا حملات التحريض بعد خروج بشارة إلى المنفى القسري في العالم العربي، فأمام العالم العربي يتسترون وراء تحريضهم ويخفون تحت لباس السياسي حقيقة كونهم رجال أعمال يجمعون الأموال على حساب القضية الفلسطينية. وكان هناك من وشى به بلا توقف للمؤسسة الحاكمة في إسرائيل.

شكل فكر عزمي بشارة نبراساً لجموع الشباب في الداخل وفي العالم العربي. منهم من حالفه الحظ والتقى به في فلسطين ومنهم من ترعرع على خطابه وفكره بعد خروجه إلى المنفى، ولكن الملفت للنظر أن أجيالاً تتبعها أجيال تؤمن بأن التضحية التي قدمها بشارة تفوق كل التضحيات، وأن فكره والطريق التي شقها من شأنها أن تشكل الرافعة للفكر القومي الديمقراطي في وقتنا هذا.

وعندما طرح وطور فكرة "دولة المواطنين" لتفكيك البنية والطبيعة العنصرية للصهيونية، أثار ردود فعل كثيرة على الساحة الإسرائيلية. كان التحدي الذي يطرحه جديداً، مغايراً وجوهريًا، ليطرح تعريفًا بديلاً ليهودية الدولة. لم يقف الأمر عند التحدي الفكري والنظري، فقد قدم عشرات الاقتراحات من القوانين التي تلغي الطابع اليهودي لدولة اسرائيل وهو يعلم تماماً أن هذه القوانين لن تقبل لكنها كانت رسالة للمؤسسة الإسرائيلية بأن هناك لاعبًا جديداً على الساحة الإسرائيلية هو العربي صاحب الانتماء للهوية العربية ، الذي يحمل كبرياء أصحاب البلاد والأرض الاصليين، والذي يجيد الخطاب السياسي الديمقراطي عن معرفة وعقيدة، وليس شعاراتيًا.

وصلت رسالته سريعًا وجاء الرد عليها سريعًا أيضًا. فكان بشارة أول من يقدم للمحاكمة وتنزع عنه الحصانة البرلمانية بسبب خطاباته: الأول في سوريا والآخر في أم الفحم، مدح فيها المقاومة الفلسطينية واللبنانية بعد انسحاب اسرائيل من الجنوب اللبناني. وكان رده  بأن أعلن أن محاكمته هي محاكمة سياسية لأفكار سياسية تعتبر مقاومة الاحتلال أمراً مشروعاً. لم يقف الأمر إسرائيليًا عند هذا الحد، فقد تم اتهامه أيضاً بتحريض الشباب في الخروج في مظاهرات هبة القدس والأقصى (أكتوبر)، التي قتلت فيها اسرائيل 13 شاباً فلسطينيا في الداخل عام 2000 الذين خرجوا للتعبير عن غضبهم لتدنيس المسجد الاقصى من قبل اريئيل شارون وزمرته، ووجهت لجنة  أور الرسمية كتب إنذار له وللشيخ رائد صلاح وللنائب السابق عبد المالك دهامشة. 

لم يكن خطابه قوميًا رومانسيًا أو شعاراتيًا بل عمليًا ومتحديًا للمؤسسة. فقد كانت معركته، معركة الدفاع عن الهوية القومية للعرب الفلسطينيين داخل اسرائيل وحقهم في التواصل مع أبناء قوميتهم في سوريا والدول العربية. من هنا كانت التهمة الثانية ، وهي تنظيم وفود لم الشمل ولقاء الاخوة والأخوات من عرب الداخل وأخواتهم في مخيمات الشتات في سوريا.

وفي حين لعب بعض  الساسة العرب داخل اسرائيل دور الوسيط للتطبيع بينها وبين الدول العربية، رفض بشارة هذا الدور، ورفض أن يكون جسراً للتطبيع والسلام. بل وثق وبنى علاقاته مع الدول العربية من أجل مد جسور التواصل بين أبناء الأمة الواحدة لكسر العزلة التي فرضتها اسرائيل عليهم.
لم يكن نضاله تقليدياً. خرج دائمًا عن المألوف وكانت تزعجه " قلة الحيلة" والنضال غير المؤسس على قواعد مدروسة. أذهله صمت العالم إزاء بناء جدار الفصل العنصري، فخاض في تموز 2004 اضراباً عن الطعام احتجاجاً على بناء هذا الجدار للفت أنظار العالم والرأي العام العربي ضد نظام الفصل العنصري الذي بدأ يظهر علانية في اسرائيل. والتف حوله العشرات من رجال دين وسياسيين فلسطينيين ووصلت حملته هذه إلى كل مكان، فيما اغلقت الصحف الاسرائيلية صفحاتها أمام هذا الحدث وصمت اذانها بعد أن فاجأها وأقلقها هذا الرجل بجرأة أفكاره القومية والديمقراطية المعادية للصهيونية، والتي لا تنضب من أجل فضح ممارسات اسرائيل. ولكن المثير أن بعض العرب أيضا انزعجوا من هذا الأسلوب الجديد، لأنه أحرجهم في تخاذلهم أمام المؤسسة الاسرائيلية.

عزمي بشارة، الذي كان لي شرف العمل بجانبه لسبع سنوات متتالية، هو ظاهرة فريدة في العمل الوطني والسياسي، فقد جمع ما بين مزايا القائد الكاريزماتي الذين يعيش بين الناس، وبين مزايا المثقف الملتزم والمجدد وغزير الانتاج الفلسفي - الفكري والثقافي رغم انشغاله الكبير بالعمل الوطني والحزبي اليومي، فليس صدفةً أن أصبحت صفة المفكر صفة ملازمة لاسمه.

اضطرعزمي بشارة إلى الخروج قسراً إلى المنفى بعدما حاكت ضده مخابرات الدولة العبرية ملفاً محكماً أُعد في الأقبية المظلمة من أجل التخلص منه وزجه وراء القضبان. لكنه، كعادته وبحنكته غير المعهودة، أدرك أن الأمر لن ينتهي بسجنه بل ربما يتعدى ذلك،  فغادر فلسطين إلى رحاب الوطن العربي، وكان اعتباره للإقامة في أي بلد أن لا يتدخل أحد في عمله ومواقفه، ليستأنف مشواره الفكري من هناك نحو أمة عربية واحدة تجمعها الهموم والمصلحة، وقضية فلسطين. 

التعليقات