21/07/2014 - 17:04

بين المهادنة والمواجهة: عبر من نضال السود../ نمر سلطاني

سيبقى البعض من اتباع بوكر واشنطون بيننا. ومثل المهدي المنتظر عند فرانز كافكا: سيأتون عندما لا تكون هناك حاجة إليهم. أما الباقون من بيننا فعلينا تطوير العبر الأساسية من فكر أمثال دو بويس وتطويرها. فمواجهة الظلم أفضل من مهادنته

بين المهادنة والمواجهة: عبر من نضال السود../ نمر سلطاني

تتكاثر في هذه الأيام، على خلفية الدم المسفوح في غزة، صرخات خيبات الأمل من بعض المواطنين العرب في إسرائيل على صفحات "هآرتس". ويمكن تلخيص هذه الصرخات بكونها خيبة الأمل من عدم توفير المجتمع الإسرائيلي لمساحة للاندماج بعد أن حاول هؤلاء شتى الطرق من قبيل النجاح الفردي وإجادة اللغة واللهجة وما إلى ذلك.

وليس غريبا أن هذه الصرخات تأتي في هذا الوقت بالذات. الكثيرون مشغولون بعقدة النقص وبأزمة هويتهم أو بمنفعتهم الشخصية. هذه الأزمة وهذه العقدة ليستا وليدتي اللحظة. بل عمرهما كعمر إنشاء النظام الاستعماري على أنقاض شعبهم. لكن لحظات الأزمات هي اللحظات التي تصعب فيها ممارسة طقوس الاحتيال على الذات وبهلوانيات السير على الحبال للتوفيق بين المستحيلات. وتزداد صرخة الخيبة حدة مع ازدياد الجهد للاندماج وطول ممارسته، وبالتالي عظمة النكران من الطرف القوي الذي لا يقدّر هذا الجهد ولا يقدّر صعوبته أمام أبناء شعبهم (وهؤلاء منقسمون ما بين حاسد أو معجب بهم لأنهم حققوا النجاح أمام الأكثرية، وبين كاره لهم لأنهم يسعون إلى الاندماج الفردي).

وليس هذا النقاش جديدا فهو يتكرر في كل جيل. وليس هذا النقاش بخاص بالأقلية الفلسطينية في إسرائيل. فعلى الساحة الفلسطينية عموما هناك الكثير من الممثلين لمنطق الاقتصاد أولا بمعزل عن السياق السياسي للاحتلال (ومنهم رجال أعمال ورئيس حكومة سابق). بل أكثر من ذلك، هذا نقاش يواجهه المضطهدون في كل مكان. فمن المعروف أن أحد النقاشات المهمة بين السود في أمريكا هُوَ النقاش بين "بوكر تي واشنطون" و"دبليو اي بي دو بويس". كان الأول يرى أن الحل لمعضلة السود هو ليس التحدي المباشر للتمييز والعنصرية، وإنما قبول التمييز بشكل مؤقت والتركيز على النجاح الشخصي والمادي عن طريق إتقان الصنعة والتركيز على التعليم واتخاذ روح المبادرة الاقتصادية. وكان واشنطون يرى أن هذا سيؤدي إلى اكتساب احترام البيض. وسيتبع هذا الاحترام الاعتراف بالسود كمواطنين كاملي الحقوق مثلهم مثل البيض. ومن المهم الإشارة هنا أن واشنطون لم يكن داعما للتمييز بل كان ناقدا له. ولكنه أراد مهادنته وعدم مواجهته مباشرة.

ساد هذا الموقف لفترة طويلة في أوساط السود في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وحظي واشنطون بمكانة جيدة عند بعض البيض، وأصبح وسيطا بينهم وبين السود. حتى أنه حظي بشرف مشاركة الرئيس الأمريكي روزفلت الطعام. وما زال الكثير من النخب السوداء في أمريكا يتبعون هذا المنطق.

لكن دو بويس عارض هذا الموقف ودحضه بالحجة والتجربة. وكان قد ادعى في بداية مسيرته أن أفضل السبل للنهوض بالسود هو تطوير طبقة من النابغين الذين بإمكانهم أن يقودوا الجموع إلى التنوير. ولكنه اكتشف سريعا قصور هذا الموقف، وسرعان ما ألهمت بعض أفكاره ممارسي العصيان المدني وحركة الحقوق المدنية التي أسقطت نظام الاضطهاد، على الأقل بشكله الرسمي وبصورته القانونية. وثبت أن طريق النضال كانت الوحيدة الكفيلة بتحسين وضع السود.

لقد رأى دو بويس أن موقف واشنطون وأتباعه يعيد إنتاج الاضطهاد بدل أن يتحداه. لم يعترض دو بويس بطبيعة الحال على النجاح الذاتي والتثقيف وما إلى ذلك. ولكنه أشار إلى ازدياد التمييز والعنصرية في نفس الوقت الذي ساد فيه موقف واشنطون. وأشار إلى إهمال هذا الموقف للعوامل البنيوية التي تحط من قدر السود، وقيامه بإلقاء اللائمة عليهم كأن وضعهم نابع من نهجهم وحسب، وسيتغير بمجرد تغيير النهج. وبالتالي لا يتعدى هذا الموقف كونه استسلاما لأنه يتأقلم مع ازدياد منظومة الاضطهاد شراسة ويتنازل عن الصراع السياسي وعن المطالبة بالحرية الكاملة والمواطنة الكاملة تحت مسميات مختلفة. من وجهة نظر دو بويس لن يحظى بالاحترام من يهادن مع انحطاطه.

وفي كل عقدين من الزمن يطل على الفلسطينيين في إسرائيل بوكر تي واشنطون جديد ويفشل. وهذا التكرار متوقع لأن الوضعية البنيوية تعيد إنتاج أنماط التدجين للناس الواقعين تحت الاضطهاد. لكن من الأحرى بهؤلاء أن ينشغلوا بوقف الدم المسفوح في غزة بدلا من انشغالهم بعقدة النقص أو بمنفعتهم المادية. لو كان كل من عنده أزمة نفسية أو معرفة ناقصة أو حاجة خاصة قد انشغل بها لما تغير في هذا العالم شيء. وإذ تنتشر المعاناة حولنا لا نستطيع انتظار الخروج من كهف أفلاطون إلى التنوير. هناك حاجة إلى العمل حتى لو انعدمت المعرفة الكاملة. وجواب السؤال "ما العمل" ليس في نهج المهادنة (على نسق "اخفض رأسك حتى تمر العاصفة") ولا في تأجيل مواجهة الظلم ولا بالتظاهر بعدم وجوده أو بإمكانية التحايل عليه.

سيبقى البعض من اتباع بوكر واشنطون بيننا. ومثل المسيح المنتظر عند فرانز كافكا: سيأتون عندما لا تكون هناك حاجة إليهم. أما الباقون من بيننا فعلينا تطوير العبر الأساسية من فكر أمثال دو بويس وتطويرها. فمواجهة الظلم أفضل من مهادنته.
 

التعليقات