27/09/2014 - 10:48

إستراتيجية الصراع بين أمريكا ودولة الخلافة الإسلامية../ د. مخلص الصيادي

صراع طويل الأمد، يصعب حسمه، مدمر للحياة العامة في أقاليم الصراع، يمتد تدريجيا ليغطي مساحة أكبر، خسائره البشرية كبيرة جدا ومعظمها من المدنيين، يعمق الانقسام الطائفي، ويقضي على فرصة بناء مجتمع قائم على مفهوم المواطنة، يقهر افراده، ويتغول على حقوق الإنسان، يفجر حالة نزوح غير محدودة، ويعطي صورة دموية صراعية ذات بعد واحد للإسلام، يعمق العداء الغربي له، ويعيق امتداده إلى مواقع ومجتمعات جديدة، يُحًمل المسلمين في العديد من الدول والمجتمعات نتائج هذه الروح العدائية، يمنع ويعيق تحقيق أي إصلاحات في البنية والفكر الاجتماعي والديني في البلاد الإسلامية، ليقربها أكثر من دينها وتاريخها وحضارتها، على نحو ما حدث في تركيا علي يد حزب العدالة والتنمية

إستراتيجية الصراع بين أمريكا ودولة الخلافة الإسلامية../ د. مخلص الصيادي

مدخل تمهيدي

حينما تحدثنا عن الجغرافيا الحيوية لدولة الخلافة الإسلامية كنا نريد أن نبسط وضع هذه الدولة / التنظيم على حقيقته، دون تهويل أو تهوين:
الفكر، الروحية، الأساس المادي، والبعد البشري.
فبدون معرفة كهذه لا يمكن فهم ما يجري، وسنجد أنفسنا مع كل تطور يظهر على هذه الدولة وحركتها في حالة مباغتة لايحسد عليها صاحبها.

ولا نظن أن ما أتينا عليه بوجوهه المختلفة كان غائبا عن المتابعين الجادين الذين حرروا أنفسهم من ضحالة الإعلام والفكر الإعلامي الذي يتابع هذا الملف أو يتعامل معه من زاوية العداء أو التعاطف، وإذا كان الشك يراودنا في أن حقائق تلك الجغرافيا كانت حاضرة عند هذا النظام العربي أو ذاك، فإنها بالحتم لم تكن غائبة عن أصحاب القرار في واشنطن وفي العواصم الغربية.

لذلك فكل حديث عن افتقاد واشنطن، لرؤية إستراتيجية في مواجهة ملف دولة الخلافة الإسلامية وتطوراتها يعتبر حديثا غير جاد، أو أنه حديث وظيفي يراد من خلاله تحقيق غاية معينة، أو توفير ظرف محدد، وبالتالي فإن علينا أن ننظر إلى كل تصريح من هذا النوع من هذه الزاوية، ولو أن الذي يتحدث عن افتقاد الإستراتيجية تجاه دولة الخلافة الإسلامية هو هذا النظام الإقليمي أو ذاك لكان يمكن أن يكون حديثا صادقا ومفهوما، لكن أن يأتي الحديث من رئيس الولايات المتحدة فهذا مما لا يعقل.

إن الولايات المتحدة "دولة عالمية وقائدة"، والجغرافيا الحيوية للدولة ال‘سلامية تُظهر أن هذه الدولة / التنظيم ممثلة لوجود عالمي، وبالتالي فلابد أن يكون لدى الطرفين رؤية شاملة للصراع تغطي المساحة كلها.

ومن هذه الزاوية ننظر إلى ما قاله الرئيس الأمريكي باراك أوباما ابتداء من أنه لا يملك إستراتيجية واضحة المعالم لمواجهة هذه الدولة، وهو حديث كان من نتائجه دعم من الكونغرس الأمريكي بدائرتيه، ومن مجلس الأمن الدولي للتحرك الأمريكي ضد هذه الدولة، ودعم مباشر من دول عديدة وصلت حسب تصريح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الى أربعين دولة.

لذلك فإن علينا أن نضع هذه التصريحات جانبا وندقق النظر في الصورة لنتبين الإستراتيجية الأمريكية في هذا الصراع.

كذلك فإن الموقف الأمريكي، وبالتالي الدولي المتولد عنه، من دولة الخلافة الإسلامية لاعلاقة عضوية بينه وبين الملف السوري والثورة السورية، وكل حديث يخالف هذه الحقيقة لا يعدو أن يكون حديث أماني لا يغني عن الحق شيئا.

إن الموقف الأمريكي لا يهتم بما فعله ويفعله النظام السوري بالشعب السوري، إلا بقدر تأثيره وصلته بملف دولة الخلافة الاسلامية. لذلك فإن التصريحات المؤيدة للتحالف وللضربات الموجهة ضد هذه الدولة والصادرة من جهات سورية معارضة تبدو تصريحات بائسة لا تدرك حقيقة ودوافع ما تقوم به واشنطن، أو أنها لا تملك حرية التعبير عن هذه الحقائق.

ما نقوله هنا ليس من قبيل التحليل، وإنما يستند إلى تصريحات قادة النظام الأمريكي أمام لجان الكونغرس الأمريكي، وما أعلنه قادة العالم الغربي...... وما يمكن أن يطلبه هؤلاء من الساحة السورية هو بالتحديد ما يساعدهم على التعامل مع ملف الدولة الاسلامية، وليس ما تحتاجه هذه الساحة التي مضى عليها ثلاثة أعوام ونصف العام وهي تعاني من حالة مأساوية قد لا تجد نظيرا لها في هذا العصر.

وكل التصريحات التي يطالعنا بها هذا المسؤول العربي أو ذاك عن مكانة وأهمية المسألة السورية في الصراع الدائر تحت راية مواجهة الدولة الإسلامية ومواجهة الإرهاب، وما سيعطيه من خير لصالح الثورة السورية، وما هو متوقع منه لمستقبل سوريا، لا يعدو أن يكون إيهاما مقصودا قد يراد به ستر عورة الاشتراك في صراع مفتوح المدى تحقيقا لأهداف النظام الدولي، دون النظر إلى متطلبات هذه الشعوب واحتياجاتها.

استراتيجية الصراع: الصورة من الجانب الأمريكي

تقوم إستراتيجية الولايات المتحدة وبالتالي النظام الدولي في مواجهة دولة الخلافة الإسلامية على عناصر محددة باتت اليوم أكثر وضوحا:

1ـ أن هدف هذا الصراع ـ إن صدقوا ـ هو إنهاء وجود دولة الخلافة الإسلامية، والقاعدة وكل التنظيمات التي تعتبر رديفة لهذه الدولة والتي رسمنا بعض أفقها ونحن نتحدث عن الجغرافيا البشرية لدولة الخلافة.

وقولنا إن صدقوا مبني على التجربة التي تؤكد أن قادة الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة لا يتورعون عن الكذب على شعوبهم وعلى العالم تحقيقا لمصالهم ومطامح القوى والشركات التي يمثلونها.

ولا يغيب عن ذاكرتنا ووعينا هنا كيف أن الدول الثلاثة التي تصدرت تبرير غزو العراق وقيادة عملية الغزو، وهي الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأستراليا، كانت تكذب في ادعاء أن نظام الرئيس الراحل صدام حسين كان يصنع أسلحة دمار شامل، ـ وهو ما اعتبر سببا مشروعا للغزو ـ وقد اعترف بهذه الكذبة الكبرى وزير خارجية الولايات المتحدة حينها كولن باول الذي تولى خداع العالم حينما عرض في مجلس الأمن الدولى صورا زعم أنها لمختبرات تصنيع أسلحة الدمار الشامل في العراق، واستقال الرجل من منصبه بعد قليل من غزو العراق، وعبر عن أسفه لمشاركته في هذه الخديعة، وبعد سنوات اعترف بهذه الخديعة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وقبل أيام عبر جون هاوارد رئيس الوزراء الأسترالي آنذاك عن حرجه من تأكد أن المعلومات التي قدمتها المخابرات المركزية الأمريكية عن احتمال امتلاك صدام لأسلحة نووية كانت ملفقة.

نحن نستحضر هذه الواقعة هنا ليس فقط لأنها نموذج عن الكذب الذي يمارسه قادة الدول الكبرى وأجهزتها على العالم كله تحقيقيا لمصالح محددة، وإنما أيضا لأنه كان من نتائج جريمة احتلال العراق وتدمير هذا البلد العربي التسارع الكبير في ولادة هذا النوع من التنظيمات الإسلامية القائم على مفهوم مواجهة الآخر مواجهة صفرية: إما نحن أو هم. وبأساليب مواجهة صفرية: لا توفر أي سلاح، ولا تقيم وزنا لأي شيء ولا لأي قيمة، إلا تحقيق النصر أو تحقيق هزيمة العدو.
وقد يتساءل البعض: إذا ما هي الأهداف الأخرى التي يمكن أن تكون الاستهداف الحقيقي لهذا الصراع؟!، وهنا التوقع يبدو مفتوحا، لكن ما يضبطه، ويحدد ملامحه، سيتوضح لنا من خلال رصدنا النتائج شبه المؤكدة لهذه الحرب والتي سنأتي عليه لاحقا؛

2 ـ أن أمد الصراع طويل، يمتد في التقدير الأولي إلى ثلاث سنوات. وإذا أخذنا خبرة الماضي في الحسبان، حيث أن واشنطن ـ وتحالفها الأطلسي الدولي والدولي"ايساف"ـ حينما ذهبت إلى أفغانستان لم يكن تقديرها المعلن أن تستمر في حربها عشر سنوات، وبذلك فإن ما هو مؤكدا أن أمد الصراع أمد طويل أما التحديد الزمني فهذا مفتوح.

وإذا كانت واشنطن قد خبرت نتائج الصراع طويل الأمد: التكلفة المادية، الخسائر بالأرواح، خسائر الإعاقة والأمراض النفسية، الآثار الاقتصادية والسياسية، والبعد الفكري والروحي، فإنها في هذا الصراع باتت تريد غطاء من دول الإقليم، ومن الحلفاء الغربيين، بل ومن دول العالم الكبرى كلها، ومنها بالطبع روسيا والصين، باعتبار أن " جرثومة الإرهاب الإسلامي" تضرب في هذين البلدين وتهدد أمنهما واستقرارهما.

إن أهمية هذا الغطاء تزداد كلما طال أمد هذا الصراع ـ وهو طويل ـ، لذلك لم يكن غريبا أن يعتبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما في أول كلمة له بعد القيام بأول ضربة لمواقع هذه الدولة في سوريا أن مشاركة دول عربية في هذا التحالف يؤكد أن هذه ليست حربا أمريكية.

ومهم هنا أن نستذكر أنه منذ سقوط وتحلل الاتحاد السوفييتي، وانتهاء حقبة الحرب الباردة، تصاعد الحديث عن ضرورة وجود عدو على المستوى العالمي تجتمع على مواجهته منظومة حلف شمال الأطلسي، ودول العالم الأخرى، وتكون مواجهته بمثابة العِقد الذي ينتظم فيه شأن العالم.

وقد برز لدى قادة الرأي والفكر في النظام الغربي الإسلامُ باعتباره العدو العالمي الجديد، ويرصد المفكر الدكتور محمد عابد الجابري هذا التوجه بدءا من "باري بوزان Barry Buzan" أستاذ الدراسات الدولية في جامعة وورويك الذي كان من الأوائل الذين طرحوا فكرة الصدام "الحضاري" مع الإسلام، وذلك في مقال نشره في يوليو عام 1991 بعنوان "السياسة الواقعية في العالم الجديد: أنماط جديدة للأمن العالمي في القرن الواحد والعشرين". والذي خلص فيه إلى القول بأن الصدام الحضاري سيكون في القرن الواحد والعشرين بين الغرب والإسلام، مرجعا ذلك إلى عوامل عدة ثقافية وتاريخية ونفسية وكذلك جغرافية تتصل بالهجرة إلى الغرب، يقول الكاتب: "فإذا اجتمع خطر الهجرة وخطر تصادم الثقافات أصبح من السهل وضع تصور لنوع من الحرب الباردة الاجتماعية بين المركز وجزء من الأطراف على الأقل، ولا سيما بين الغرب والإسلام". ثم يضيف "الحضارة الهندية" كوجهة صراع أخرى، الأطروحة نفسها بشأن صراع الحضارات وبتعديل يخص الهند تبناها صمويل هنتغتون وزميله برنار لويس قطبي مفكري "المحافظين الجدد" الذين بدأت ملامحهم وآثارهم تظهر في مراكز الأبحاث وفي طاقم الادارة الأمريكية منذ زمن الرئيس رونالد ريغان، (محمد عابد الجابري: الإسلام هو "العدو الأول للإمبراطورية الأمريكية"؟! كيف ولماذا)

ثم تناقل قادة الغرب هذه الرؤى وهم يتحدثون عن مستقبل الصراع، وصاغت الإدارة الأمريكية بشكل مبكر واستنادا إلى هذه الأفكار رؤيتها للشرق الأوسط الجديد، القائم على تفكيك الدول القائمة، وإعادة تركيب المنطقة على أساس طائفي وعرقي وقبلي ومناطقي، ـ وكل أشكال وصيغ التقسيم ـ بحيث تفقد دول هذه المنطقة تماسكها الداخلي، ووحدتها الوطنية، وتصبح رهينة القوى الخارجية التي وفرت لهذه الجماعات المتفتته وجودها ومصالحها، وقد طبق هذا الأمر أول ما طبق في العراق عقب احتلاله؛

3ـ وفي إستراتيجية هذا الصراع فإن من المهم جدا الالتزام بالهدف المرجو تحقيقه وعدم السماح بإضاعة الوقت والجهد في أهداف جانبية، أو لمراعاة حساسيات أو احتياجات غير أساسية.

ومن هنا فإن الادارة الأمريكية كانت واضحة وهي تبدأ مرحلة الحرب والقتال أن على جميع الحلفاء المحليين أن يعلنوا بوضوح ودون أي حذر مشاركتهم في كل الأعمال القتالية منذ اللحظة الأولى، وليس مهما هنا حجم المشاركة ولا نوعيتها، فكل مشاركة بالقياس الى قوة المشاركة الأمريكية لا تعني الكثير، إذ الأهمية هنا لا تعطي للمشاركة نفسها وإنما تعطي لمبدأ إعلان المشاركة.

كذلك فإن مكانة الملف السوري في هذه الحرب واضحة لا يُقبل فيه أي وهم أو ادعاء أو توقعات غير حقيقية، وقد قالت الإدارة الأمريكية بوضوح إنها لا تسعى إلى تغيير النظام السوري بالقوة، ولن تعطي المعارضة المسلحة القوة الكافية لتحقيق ذلك، وأن تطلعها في أن تدفع التطورات الميدانية على الأرض نظام الأسد إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، والقبول بمرحلة انتقالية تسمح بالانتقال إلى نظام جديد أهم ما يتوفر فيه أنه "حام للأقليات" وينال قبول المعارضة، ويتلاءم مع البيئة الإقليمية الجديدة، أي أن بقاء أو رحيل الرئيس السوري بشار الأسد ليس هو الموضوع على طاولة البحث.

والأمر بشأن النظام الحامي للأقليات لا يقتصر على النظام السوري المرتقب، وإنما هو واحد من أسس التفكير الأمريكي للمنطقة كما سبق أن اشرنا، لذلك فإنها حريصة وهي تدير هذه الحرب على أن تضمن وجود هذا النظام في العراق، وهي في هذا البلد تريد أن توفر للسنة "من المنظور الطائفي" دورا ومصالح ووجودا في النظام العراقي يشجعهم على الارتباط بالولايات المتحدة ارتباط مصير، كما ارتبط النظام الكردي في شمال العراق بالسيد الأمريكي.


أي أن وجود نظام وطني في سوريا أو في العراق أو في اليمن أو في ليبيا أو ... الخ، نظام قائم على مبدأ المواطنة، يجعل حكومته وأجهزة مجتمعه مسؤولة عن المواطنين كل المواطنين بشكل متساو، ومسؤولة أمام المواطنين كل المواطنين وفق قواعد العمل الديموقراطي، ليس هدفا للولايات المتحدة، فالمواطنة متعارضة تعارضا جوهريا مع مفهوم الأغلبية والأقلية، أي مع المفهوم الذي يبني المجتمع وسلطاته على أساس طائفي أو عرقي. والإدارة الأمريكية في هذا تطبق تماما المقولة التي خلص إليها هينتغتون بشكل مبكر 1993 والتي تقول: إن إقامة نظم ديموقراطية حقيقية في" الشرق الأوسط" ليس من مصلحة الولايات المتحدة، بل إن من شأن ذلك تعزيز القوى السياسية المناهضة للغرب؛

4ـ وفي إستراتيجية الصراع فإن الإدارة الأمريكية حريصة على أن لا تستجر إلى إرسال قوات برية إلى منطقة الصراع، وهي تشعر أن في ذلك مقتلا لها، قد يفوق بكثير ما خبرته وأصيبت به في أفغانستان، أو في العراق بعد ذلك.

إنها حريصة على الاكتفاء قدر الإمكان بدور قيادة الصراع وإدارته والمشاركة فيه اعتمادا على القدرة العسكرية والتكنولوجية الضاربة التي تتمتع بها، وذلك من خلال القصف بالطائرات، وبالصواريخ الموجهة عن بعد، وبالطائرات بدون طيار، وهذا يعني أيضا تكثيف دور الاستخبارات والعملاء على الأرض، وتكثيف الترابط الأمني بين الولايات المتحدة ودول المنطقة.

إنها تريد من دول المنطقة أن ترسل قواتها البرية لتقاتل في أرض الصراع، وكذلك أن تقوم قوات المعارضة السورية، والقوات العراقية وقوات البيشمركة بهذا القتال، الذي من شأنه لا أن يمنع سقوط قتلى من القوات الأمريكية فحسب ـ وهذا هدف أمريكي جوهري ـ ، وإنما أيضا من شأنه أن يعمق الشرخ والتناقضات داخل جسد هذه المجتمعات وبين مكوناتها المختلفة، ويبني احقادا إضافية بين هذه المكونات، تعيق أي فرصة محتملة لاعادة اللحمة بينها، إن قرار الكونغرس بتوفير خمسمائة مليون دولار للملف السوري، والحديث عن تدريب خمسة الاف مقاتل معارض يأتي كله في هذا المجال المحسوب بعناية، والمضبوط بدقة.

إن الاكتفاء بالضربات عن بعد يسمح للولايات المتحدة وبشكل أكثر كفاءة أن تتحكم بمجريات الصراع، شدة وضعفا، قتالا وتفاوضا، فما دامت قوات الولايات المتحدة ليست على الأرض فإن عناصر الضغط المتولدة عن حركة قوى الصراع تكون أكثر بعدا عنها، وتكون أخف وطأة عليها.

وإضافة إلى إدارة الصراع والمشاركة المحسوبة فيه، فإن واشنطن حريصة على ضبط الصراع حتى لا يتجاوز في أي مرحلة الحدود التي تريدها، لذلك هي لن تسلح المعارضة السورية إلا بالقدر الذي تراه مناسبا لأهدافها، ولذلك أيضا فإنها تقنن بشكل ملفت للنظر تسليح القوات العراقية، بينما يتدفق التسليح على قوات البيشمركة الكردية؛

5ـ العمل على تحميل الدول العربية المشاركة في هذا الصراع تكاليف الصراع سواء كان بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر.

وهذا يعني تحميلها تكاليف قواتها المشاركة، وتكاليف إعادة التسليح، وتكاليف الدعم المادي المباشر للعمليات الحربية التي تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وتكاليف مختلف أشكال العمل المشترك تحت ذريعة أن في هذه الحرب دعم وحماية مباشرة لهذه النظم، وكذلك تكاليف الأنظمة الأمنية المكثفة التي على هذه النظم الأخذ بها دفعا لردود الفعل التي قد تستهدفها من جهات داخلية وخارجية عديدة، وبحيث لا تتحمل الميزانية الأمريكية ما لا تستطيع ولا تريد تحمله، أي أن على دول المنطقة أن تفتح خزائنها للولايات المتحدة وشركاتها، وهو ما يعني استنزافا مباشرا طويل الأمد للثروة الوطنية في مختلف هذه البلدان؛

6ـ تشديد إجراءات الرقابة والمتابعة والرصد لكل المسلمين في الغرب، ولثرواتهم، ومؤسساتهم واعتبارهم جميعا وخصوصا الشباب من الجنسين، مشبوهين، ومشاريع إرهابيين.

والطلب من الدول الغربية تشديد إجراءاتها لمنع تدفق مسلمي هذه الدول للقتال الى جانب تنظيم الدولة الإسلامية، إلى جانب الالتزام الصارم في إجراءات مراقبة حركة التحويلات وانتقال الأموال، وقد اتخذت هذه الدول خلال السنوات القليلة الماضية إجراءات عديدة في هذا الشأن، منها تشديد الرقابة على حركة الشاب المسلم، ومراقبة مراكز العبادة والجمعيات الإسلامية، مراقبة التحول في أزياء شباب وشابات المسلمين، وبناء روابط من الجيل الأكبر سنا من المسلمين لتحويلهم إلى مرشدين وأدلاء للسلطات لمنع أبنائهم من الالتحاق بمراكز الصراع، وضع كل عائد من مناطق الصراع على قائمة المشبوهين، ومراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، اللجوء إلى إجراء سحب الجنسية، واعتبار هذا الإجراء بمثابة السيف المسلط على رقاب جميع الشباب المسلم في المتمعات الغربية يستوي في ذلك من كان من المهاجرين أو من الأوروبيين الأصليين، ... الخ؛

7ـ تعميم شعار "مكافحة الإرهاب" وجعله الهدف الجامع لحركة المجتمع الدولي ومؤسساته، ولحركة دول المنطقة.

وجعل هذا الشعار هو "الشعار الأول" في كل تحرك دولي ولكل المؤسسات الإقليمية والدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، وحلف الناتو، والتجمعات القارية المختلفة، وأن تكون محاربة الإرهاب بندا ثابتا في مختلف الاتفاقات الأمنية الثنائية ومتعددة الأطراف، كل ذلك في ظل غياب حقيقي لتحديد دولي متفق عليه لمعنى الإرهاب، ولأن الولايات المتحدة هي صاحب التأثير الأول في صوغ هذا الهدف فإنه سيغيب نهائيا كل شعار أو هدف تراه واشنطن يتعارض مع مفهوم محاربة الإرهاب.

وبالنسبة لنا نحن العرب، فإن هذا المسعى الأمريكي يصيبنا بمقتل في قضيتين رئيسيتين:

الأولى:

أنه ينحي جانبا قضية العرب الأولى وهي فلسطين، التي لم تستطع كل التغيرات التي تمت في المنطقة ابتداء من اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة وما تبعها أن يغير من مكانتها ـ على الأقل المعلنة ـ في أجندة العرب شعوبا ودولا، روحا وفكرا وضميرا.

ووفق مستلزمات هذا الشعار "مكافحة الإرهاب"، لا يعود لقضية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني الأولوية في تفكير وعمل وتطلع هذه الأمة؛

الثانية:

أن من شأن هذه الإستراتيجية أن تضع منظمات المقاومة في خانة المنظمات الإرهابية، والحديث هنا بالتحديد عن حماس والجهاد الإسلامي، ومختلف المنظمات الجهادية في فلسطين عموما وفي غزة، وبالتالي تحولها إلى عدو على العالم بمختلف نظمه وتشكيلاته أن يواجهها، ويحاصرها، ويفكك ويجرم تحالفاتها، ويحرم دعمها، ويعمل على اجتثاثها.

والقضية هنا لا تخص الموقف الأمريكي إذ أن هذا الموقف من قوى المقاومة كان دائما موقف الإدارة الأمريكية، وإنما تخص جعله موقفا عاما ملزما لكل الدول والمؤسسات ومن ضمنها بل في مقدمتها النظم العربية ومؤسساتها.

وهذا أقصى ما كان يتطلع إليه الكيان الصهيوني، ويحقق له مصالح لم تحققها كل الحروب والاعتداءات التي قام بها حتى الآن، كما لم تحققها بهذا الشكل كل اتفاق التسوية التي عقدها مع هذا النظام العربي أو ذاك.


النتائج العملية لهذه الإستراتيجية

صراع طويل الأمد وشامل، يصعب ضبطه أو حصره، ومن العسير انهاؤه، وهو صراع شديد الدموية، ليس فقط بين الأطراف المتقاتلة، ولأن ساحات القتال ليست ساحات خارجية منعزلة، وإنما هي داخل المدن وتجمعات السكان، فإننا سنشهد سقوط عدد كبير من القتلى المدنيين، وخصوصا من الأطفال والنساء، كما سنشهد مزيدا من التدمير في البنية التحتية لهذه البلدان، وفي هذا الوضع فإن حركة النزوح السكاني ستتطور بسرعة، وسنشهد تدفق لاجئين حدود له، وستجر بلداننا ودولنا إلى مرحلة من الانهيار الاقتصادي والفقر العام.

وسيكون للصراع الطائفي الكثير من المظاهر، وخصوصا بين السنة والشيعة، وستقع انقسامات اجتماعية ودينية لا حدود لها، خصوصا وأن النظم الطائفية في المنطقة تعتبر نفسها مجندة في هذا الصراع، وحتى النظام السوري الذي تتحفظ الولايات المتحدة على مشاركته مراعاة لحلفائها "السنة" يلح ويكاد يتوسل للمشاركة في هذه المعركة تحت لواء الولايات المتحدة، وكذلك إيران.

وبالتالي ستزداد النقمة على النظم القائمة في المنطقة، وعلى الولايات المتحدة، وعلى الغرب عموما، مما يعني أن روح الصراع ستتأصل أكثر، وسيتحقق ما قال به ودعا إليه قادة اليمين الأمريكي المتصهين مبكرا من صراع الحضارات، وسيبرز الإسلام أكثر فأكثر باعتباره عدو الغرب رقم واحد، أو لنقل بشكل أكثر دقة سيظهر بشكل أكثر وضوحا وحسما أن النظام الغربي هو عدو الإسلام رقم واحد.

ومن حقنا أن نعتبر هذه النتائج العملية للإستراتيجية الأمريكية هي الهدف الأول أو الرئيس غير المعلن لها، أي أنها ليست نتائج تظهر بحكم تفاعلات الصراع، وإنما هي استهداف أصيل وواع له.

إستراتيجية دولة الخلافة الإسلامية

هذه الإستراتيجية الأمريكية التي ستضبط حركة الولايات المتحدة وتحركها على مدى زمني قد يمتد لعشر سنوات على الأقل هي بطبيعتها ومكوناتها إستراتيجية معقدة، متعددة المستويات، والساحات، والأسلحة، وتحتاج منها إلى متابعة وضبط وتنازلات بما يضمن لها استمرار التقدم في تطبيقها.

وهي أيضا إستراتيجية مكلفة بغض النظر عن الجهة التي يمكن أن تتحمل هذه التكلفة، وأخيرا هي إستراتيجية خطرة لأنه ما من شيء يضمن أن تبقى القوى العسكرية الأمريكية خارج أرض المعركة، كما أنه ما من شيء يضمن أن تبقى الأرض الأمريكية خارج أرض المعركة.

ومقابل هذه الإستراتيجية تبدو أمامنا إستراتيجية دولة الخلافة الإسلامية إستراتيجية هجوم: بسيطة، مرنة، شاملة، وغير مكلفة أو محدودة، وكثير من عناصرهذه الإستراتيجية تستند وتتغذى من عناصر الإستراتيجية الأمريكية والفرص التي تتيحها.

1ـ إذ رغم إعلان قيام "دولة الخلافة الإسلامية"، واعتبار الرقة والموصل مركزيها الأساسيين، فإن جغرافية هذه الدولة مرنة جدا، والحديث عن ارتباطها بأرض معينة أو مدينة معينة، حديث فيه مبالغة، ويحتاج إلى ضبط.

العراق وسوريا موقع التحرك الرئيس لهذه الدولة، لكن قد نراها وهي تعلن عن مركز لها في سيناء، أو في صحراء الجزائر، أو في اليمن، أو حتى في نيجيريا أو أفغانستان.

القضية جغرافياً مفتوحة، وكما أن ارتباطها بالمكان ارتباط نسبي، كذلك ارتباطها بقيادة محددة ارتباط ظرفي، إذ يعلم القائمون على هذه "الدولة / التنظيم" أن رأس خليفتهم مطلوب للإدارة الأمريكية، كما كان رأس الشيخ أسامة بن لادن مطلوبا، وأن تحقيق هذا الهدف قضية مهمة لإدارة أوباما، وقد يستطيع الوصول إليه وتحقيقه في أي وقت، لذلك فإن لدى هذه الدولة القدرة على توفير خليفة جديد في كل مرة يتم الاحتياج إلى ذلك.

إن التحرك من مكان إلى آخر، وتوفير قائد بديل المرة تلو الأخرى، يجعل رمزية المكان والقيادة وإن كانت رمزية حيوية لكنها تحت السيطرة دائما؛

2ـ وتقوم هذه الإستراتيجية على استجرار الولايات المتحدة إلى إرسال قواتها البرية إلى ساحة المعركة، وعدم الاكتفاء بإرسال مستشارين وخبراء يعملون في الصفوف الخلفية.

إن جر الولايات المتحدة إلى أرض المعركة هدف رئيس سوف تسعى إليه دولة الخلافة بكل السبل، وهي على يقين أن دخول الحرب شيء، والقدرة على تحديد آفاقها وتطوراتها شيء آخر، لا يتحكم في ذلك سير المعارك فقط، وإنما أيضا صراعات القوى والأحزاب داخل هذه الدول، وهي صراعات من شأنها أن تغير تكتيكات الصراع، وكذلك إستراتيجياته.

وهنا فإن فشل الإدارة الأمريكية في تحقيق أهدافها من هذه الحرب خلال العامين المقبلين من شأنه أن يوفر فرصة لليمين في الولايات المتحدة وفي أوروبا لكي يصعد ثانية ويتسلم السلطة، وهو بطبيعته أكثر اندفاعا للحرب، وأكثر استهتارا بالدم وقدرة على المغامرة فيه.

وسيكون من أساليب هذا الاستجرار أخذ الرهائن، وإظهار مزيد من العنف في قتلهم، والقيام بعمليات تصفية ومذابح ضد كل الأعداء: أعداء الداخل والخارج، وضد الأقليات، وضد الأكثرية، وضد كل من يخالفهم الرأي، ونقل عمليات القتل والخطف والتفجير الى داخل المجتمعات الغربية، بما يخلق حالة من الهلع لدى واشنطن وحلفائها تولد اقتناعا بأن إستراتيجيتها بإبقاء قواتها البرية خارج منطقة الصراع غير مجدية، وغير قابلة للاستمرار؛

3ـ وتقوم فلسفة هذه الدولة على مبدأ الهجوم، وعلى اعتبار ساحة الصراع هو العالم كله، وعلى اعتبار أن هذه معركة صفرية، لا تفسح مجالا للقاء في منتصف الطريق مع أي كان، ولا تتيح فرصة لمثل ذلك، لذلك فهي تعمل ومنذ اللحظة الأولى على الزج بكل القوى المؤيدة لدولة الخلافة في أتون هذه المعركة.

ولذلك رأينا التوجيه الصادر من قيادة هذا الدولة إلى كل أنصارها في العالم ـ عقب بدء الضربات الجوية ـ ، أن يهاجموا في كل مكان، وأن يهاجموا أيا كان، المدنيون والعسكريون سواء في الاستهداف، المقاتلون والمسالمون، وكذلك الرجال والنساء، وأن يهاجموا دون انتظار أوامر أو تعليمات، ودون التدقيق في تبريرات أو تكييفات فقهية، فكل هذه الأهداف سواء، لها الحكم نفسه، ويقع عليها الوزر نفسه، وقاعدتهم في ذلك "اقتلوهم حيث ثقفتموهم .... وشرد بهم من خلفهم".

إن هذا الخط الإستراتيجي لا يعني أننا أمام قيادة لا تفهم التكتيك، ولا تعمل على التفريق بين قوى تحالف الأعداء، لكن ذلك حين يتم ـ وقد رأينا بعض مظاهره ـ إنما يكون في إطار مرحلي فحسب، وهو مفهوم من قبل الآخرين، لذلك فإن نجاحه على المدى المنظور مشكوك فيه؛

4ـ وفي عمق الإستراتيجية التي تتبناها دولة الخلافة تدمير الدول القائمة وهيئاتها وأجهزتها وأنظمتها، ومؤسساتها الدولية والاقليمية، باعتبار كل ذلك من أعمدة الكفر المادية والمعنوية، يستوي في ذلك نظم بلداننا، أو النظم الغربية، ويستوي في ذلك مؤسساتنا الإقليمية والقومية، والمؤسسات الدولية.

واستنادا الى هذا الخط الإستراتيجي فإن دولة الخلافة تستبيح كل ما اختزنته وراكمته هذه النظم من معلومات وأموال وبنى قضائية وتعليمية وأمنية وعسكرية، وتعتبر الاستيلاء عليها أولا أو تدميرها واحدة من مهمام الجهاد التي تتطلع إلى إنجازه.

إنها لا تريد أن تصلح القضاء أو التعليم أو الجيش أو النظم المالية والمصرفية، أو النظام العقاري، أو جامعة الدول العربية .... أو غير ذلك ، إنها تريد أن تدمر كل ذلك، لأنه جميعا يقع تحت طائلة حكم شرعي واحد.

إن هذا يسهل عملية الاستيلاء على البنوك، وعلى العقارات، وعلى الأموال العامة، ويقدم التفسير لذلك، المسألة هنا لا تأتي تلبية لحاجة الدولة / التنظيم إلى المال، ـ رغم وجود هذه الحاجة ـ، ولا لأن هذه النظم نخرها الفساد ـ وهي بالتأكيد كذلك ـ ، وإنما لأن الشرعية لا تتوفر في أصل وجودها.

ولأن الصراع هنا بين كفر وإيمان فإن استحلال مال الآخر واعتباره جزءا من غنيمة الحرب يصبح أمرا مشروعا بل ومطلوبا، وهذا يوفر أقوى غطاء أخلاقي لمثل هذه العمليات لأنه غطاء يتدثر بالشرع؛

5ـ ثم إن أحد خطوط إستراتيجية دولة الخلافة يستند إلى توفر تدفق دائم بشري ومادي وبئية حاضنه لهذه الدولة، كلما أمعنت الولايات المتحدة وحلفاؤها في المضي قدما في هذه المعركة، وترجع هذا التدفق إلى التداعيات السلبية المستمرة للإستراتيجية الأمريكية على المسلمين في المنطقة والعالم.

ولعل دولة الخلافة تنظر إلى هذا الخط الإستراتيجي باعتباره من أكثر الخطوط فاعلية، ونمو، إذ هي على يقين أن الولايات المتحدة فيما تقوم به ستكون في نظر المسلمين المسؤولة عن نتائج كل هذه الحرب: عن الدمار والخراب والقتلى والانهيار الاقتصادي ..... الخ، وعن التلاعب بالقضايا الدينية، وعن التضييق والملاحقة التي ستصيب المسلمين في أوربا والعالم...الخ.

لقد قصفت طائرات التحالف وصواريخه في هجومها الأول مواقع للدولة الإسلامية، وكذلك لجبهة النصرة، ولحركة أحرار الشام، وهذه أطراف متصارعة، وهناك قدر من الاختلاف بينها ـ يمكن النظر في تقديره وأهميته ـ ، لكن الولايات المتحدة وضعتها جميعا ومنذ اللحظة الأولى في سلة واحدة، فقدمت بذلك الدافع والبرهان على وجوب أن تتحد هذه الأطراف، وأن تدع خلافاتها جانبا.

ولأن صراعا من هذا النوع مصبوغا بالصبغة الطائفية سيعزز التفاف الأقليات حول هذه النظم، وحول هذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، ـ وهو أمر بات مشاهدا في سوريا وفي العراق وفي اليمن ـ ، فإن من شأن ذلك كله أن يوفر لمنطقها الطائفي في الصراع ما تؤمن بإمكانية الدفاع عنه بالشواهد الحاضرة، وما يوفر تدفقا لعناصر: المال والخبرة التقنية والمتطوعين القتاليين، يمكنها من تعويض الخسائر التي تمنى بها، وكذلك يمكنها من توفير مستلزمات توسيع ساحة الصراع؛

6ـ وفي إستراتيجيتها العامة في هذا الصراع تقدم دولة الخلافة الإسلامية نفسها باعتبارها ممثلة السنة والمدافعة عنهم، أي أنها تمثل بهذا المعيار الطائفي السنة، أي انها قاعدتها الشعبية المفترضة تغطي ساحة الإسلام كله أو معظمه.

وفي هذا المنظور فإنها تعتبر السنة خارج إطار الحكم في المنطقة كلها، إما لأن الحكم طائفي/ كافر كما في العراق وسوريا، وإما لأن نصيب الإسلام في الحكم مغيب كما في الدول الإسلامية الأخرى.

وإذا كانت السنة في المقاييس المذهبية تمثل الأغلبية العظمى من الجسم الإسلامي أي نحو ثمانين في المئة من مسلمي العالم، فإنها عند دولة الخلافة هي الجسم الإسلامي ولا أحد غيرها، وكل من خرج عن هذا الجسم فليس من الإسلام في شيء.

إن كل من هو خارج هذا الجسم " السنة" عدو تجب محاربته، وكل من هو داخل هذا الجسم فإن عليه أن يتبع دولة الخلافة ويلتزم فهمها وسياستها، وحين لا يفعل فهو مرتد تجب محاربته.

والحكم بالارتداد أو الكفر حكم على النفس والمال والعرض، والأمر في كل ذلك ليس محل اجتهاد أو مراجعة، وإنما هو حكم الله الذي لا يقبل أي مراجعة، أو تهاون، أو استثناء؛

7ـ الكر والفر، الانسحاب والتقدم، القتل والقتال جزء من إستراتيجية هذه الدولة وعقيدتها في الصراع، بل هي تعتقد أنه جزء من سنن الله في بناء دولة المسلمين، أو "الخلافة الراشدة الجديدة".

لذلك لا استعجال في تحقيق النصر ولا ركون له، ولا خوف من وقوع الهزيمة ولا استسلام لها، القضية هنا إيمان بأن هذا وهذا سيقع، وبأن في كل ذلك امتحان وتجلية واختبار، وأن النصر آت بعد ذلك لا محال.

إن مقاتلي الدولة الإسلامية لا يرومون أن يعودوا إلى أوطانهم التي جاؤوا منها، ولا إلى زوجاتهم اللائي خلفوهن وراء ظهورهم، كما هو حال الجنود الأمريكيين أوغيرهم، وإنما هم جاؤوا ليبقوا فهذا وطنهم، وإذا عادوا فلسبب ومهمة، وزوجاتهم معهم أو هم في انتظار وصولهم، هنا على الأرض أو في الجنة.

المعايير مختلفة بين طرفي الصراع، والدوافع والتوقعات، لذلك فإن الأداء مختلف، والتجارب تقدم مرة أخرى الدليل تلو الدليل، لم نسمع أو نقرأ أو نلتقي، مرضى نفسيين عادوا من معارك المجاهدين في أفغانستان، أو في العراق ، أو في أي مكان آخر، لكن هؤلاء في جنود الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا وغيرها كثر، بل إنهم تحولوا إلى مشكلة اجتماعية في هذه البلدان، لذلك فإن طول أمد الصراع لا يشكل ضاغطا على مقاتلي دولة الخلافة الإسلامية في حين يمثل ضغطا هائلا على جنود وضباط وقيادات الجيوش والقادة السياسيين في هذه البلدان.

النتائج الواقعية لهذه الإستراتيجية

هذه هي ملامح إستراتيجية الصراع عند دولة الخلافة الإسلامية، وهي كما قلنا في البداية إستراتيجية بسيطة مرنة شاملة وحيوية وغير مكلفة، أما نتائجها على الأرض فشديدة الشبه بنتائج الإستراتيجية الأمريكية.

صراع طويل الأمد، يصعب حسمه، مدمر للحياة العامة في أقاليم الصراع، يمتد تدريجيا ليغطي مساحة أكبر، خسائره البشرية كبيرة جدا ومعظمها من المدنيين، يعمق الانقسام الطائفي، ويقضي على فرصة بناء مجتمع قائم على مفهوم المواطنة، يقهر افراده، ويتغول على حقوق الإنسان، يفجر حالة نزوح غير محدودة، ويعطي صورة دموية صراعية ذات بعد واحد للإسلام، يعمق العداء الغربي له، ويعيق امتداده إلى مواقع ومجتمعات جديدة، يُحًمل المسلمين في العديد من الدول والمجتمعات نتائج هذه الروح العدائية، يمنع ويعيق تحقيق أي إصلاحات في البنية والفكر الاجتماعي والديني في البلاد الإسلامية، ليقربها أكثر من دينها وتاريخها وحضارتها، على نحو ما حدث في تركيا علي يد حزب العدالة والتنمية.

أخيرا

** مطلوب أن ندقق في إستراتيجية الصراع على الجانبين، وفي نتائجهما؛

** مطلوب أن نفهم على نحو صحيح ما يجري، فلا نضع رؤسنا بين الرؤوس، نمضي حيث تمضي، وأن نسترشد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تكونوا إمعة..." ، ونحذر أن نكون ممن وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "...حتى لو دخلوا جُحرَ ضبٍّ لدَخلْتمْوه..."؛

** مطلوب أن نسترجع أولويات التجربة التاريخية والمعاصرة لأمتنا للتعرف على عدونا، ومقاصده تجاهنا وتجاه ما نمثل وما نملك وما يمكن أن يتحقق على أيدينا، فلا يعمينا ضجيج الصراع فنضع أقدامنا في غير مكانها الصحيح؛

** مطلوب أن نمحص ما تطرحه وتفعله "دولة الخلافة الإسلامية"، فلا ترهبنا التسمية عن رؤية حقيقة ما يجري وما تقوم به وتطرحه من مفاهيم، وحظه من الإسلام، وما يمكن أن يجره عمل هذه الدولة على الأمة العربية والاسلامية: حاضرها ومستقبلها؛

** مطلوب أن نكون موجودين، لنا كياننا، ورؤيتنا، ومشروعنا، وأن نكون قادرين على جعل ذلك كله منتظم في إطار عمل واحد مثمر.

فهل هذا ممكن؟!....... للحديث صلة.

التعليقات