19/05/2015 - 09:07

باقولّك أيام سودا/ بلال فضل

المشكلة في أوقات بائسة كهذه، أنك كلما جئت لتكتب شيئاً تتذكر أنك قلته قبل ذلك، لأننا لم نعد نكرر تاريخنا من دون أن نتعلم من أخطائه، بل أصبحنا نكرر حاضرنا نفسه، بكل بواخته وسخفه وغباوته.

باقولّك أيام سودا/ بلال فضل

 المشكلة في أوقات بائسة كهذه، أنك كلما جئت لتكتب شيئاً تتذكر أنك قلته قبل ذلك، لأننا لم نعد نكرر تاريخنا من دون أن نتعلم من أخطائه، بل أصبحنا نكرر حاضرنا نفسه، بكل بواخته وسخفه وغباوته.

للأسف، في هذه الظروف الخنيقة التي تمر بها البلاد، لن تجد ما هو أثقل وطأة على النفس من شخصٍ يلهج لسانه بجملة 'مش قلت لكو'، ولأنك تعرف ذلك جيداً، فأنت ستحرم نفسك من حقك في التذكير بأشياء كتبتها، أولاً لأنها مش ناقصاك، وثانياً لأنه عندما تدخل الشعوب دائرة الدم، تفقد الكلمة الطيبة معناها، لأن القتلة سيكونون مشغولين بمواصلة القتل، أما الضحايا فسيكونون موزعين ما بين حزنهم ورغبتهم في الانتقام. وعندها ستصبح الكلمات الوحيدة التي تحب الأغلبية الساحقة الاستماع إليها، هي الكلمات الخبيثة التي تحض الناس على الانتقام والقتل والبطش، وسيكون عندها من السخف أن تطلب من أحد أن يهدأ ليتذكر بماذا أفادنا القمع والقتل، لكي نواصله، وندعو إلى المزيد منه؟.

'آفة حارتنا النسيان'، قالها نجيب محفوظ من قبل، فأوجز وأنجز، ولم يدع لنا شيئا نكتبه بعده. للدقة ليس النسيان آفتنا دونا عن كل العالمين، قالها من قبل شاعر قديم: 'وما سُمِّي الإنسان إلا لنسيه'. ولذلك، تداوم الشعوب المتقدمة على التخلص من آفة النسيان بإنعاش ذاكرتها بوسائل، منها قراءة التاريخ وزيارة المتاحف، أما نحن فعلاقتنا بالتاريخ تنتهي بعد 'طرش' ما حفظناه من مناهجه المحرفة السقيمة على ورقة الامتحان، في حين لا نتذكر المتاحف، إلا عند تدميرها في حادث إرهابي، أو احتراقها ونهبها في لحظات الفوضى المنظمة.

النسيان، لن تجد سبباً لمصائبنا سوى النسيان. ولذلك، ستجد بين أنصار جماعة الإخوان من يتهم جهات مخابراتية بتدبير العمليات الإرهابية، ناسيا أنه كان يطرب لكل ما يطلقه قادته من تهديدات بإسالة الدماء وتفجير البلاد لو عُزل مرسي. ستجد أيضا بين أنصار الإخوان من يطالب بالتثبت قبل اتهام جماعته ناسيا أنه كان يبادر إلى اتهام خصومه، كلما وقعت مصيبة ناتجة عن إهمال أو فساد، ستجد، أيضاً، بين أعداء جماعة الإخوان من يطالب بإعدام قادة الإخوان وأنصارهم، انتقاما وثأرا، ناسيا أننا، منذ لحظة التفويض المشؤومة، لا نشكو إطلاقا من نقص في أعداد القتلى في الشوارع. ومع ذلك، ما زالت أحوالنا الأمنية تتدهور من سيئ إلى أسوأ، وستجد ملايين يظنون أن خلاصنا الوحيد سيكون في العودة إلى حكم الفرد القادر على الشكم والقمع، ناسين أن ما أوصلنا إلى ما نحن فيه، الآن، من بلاء وبلاوي لم يكن سوى حكم الفرد المستبد.

ما العمل، إذن؟ هل علينا أن نجتهد في تذكير الناس بأن قمع تنظيم الإخوان في 1954 كان سبباً في إنتاج أفكار سيد قطب الإرهابية في كتاب (معالم في الطريق)، وأن إعدام سيد قطب في 1965 هو الذي جعل أفكاره تنتج شكري مصطفى وأيمن الظواهري وغيرهم من الإرهابيين الذين يمنحهم الفقر والتخلف وقوداً مجانيا لأفكارهم الدموية، وأن منطق التضحية بالحرية من أجل الأمان لم يجلب لنا إلا الذل والخوف والهزيمة، وأن سيادة الأصوات الغوغائية المنفلتة التي لا تؤمن بالحلول السياسية لن تنتج إلا المزيد من الدم والأحقاد، وأن هناك قانوناً جربناه أكثر من ستين سنة، يقول إن 'السلطة المطلقة مفسدة مطلقة'. لذلك، علينا أن نتوقف فورا عن منح صلاحيات مطلقة لمسؤولين فشلة من دون أن نحاسبهم ونراقبهم، لكي لا نجر الوطن إلى مزيد من الفشل والخراب.

هل سيكون مجديا أن نذكّر الناس بأي من هذه الحقائق؟ بالطبع لا، فالذكرى لا تنفع إلا المؤمنين بقيم العدالة والحرية والمساواة التي فطر الله الناس عليها، أما الذين لا يؤمنون إلا بالقوة الباطشة، فهم لن يستمعوا إلا إلى مثقفي السلطة الذين يزينون للناس أن خلاصهم سيكون بأن يسلموا أنفسهم من دون قيد ولا شرط، لمن سيحميهم من الإرهاب، من دون حتى أن يتأكدوا من قدرته على حمايتهم، أو يرفضوا كيف تواصل قراراته العشوائية صناعة الإرهاب كل يوم.

سيتعلم الناس، بالتجربة وحدها، أن تكرار أخطاء الماضي لا يمكنه أن يصنع مستقبلاً أفضل. لكن، هل نحيا، أنا وأنت، حتى يحدث ذلك أم لا؟ علم ذلك عند الله، وحتى تعبر هذه الأيام السوداء، وتجيب دائرة الدم آخرها، أو يجيب الناس آخرهم منها، فيتوقفوا عن إكمالها، ليس لنا إلا أن نرجو الرحمن الرحيم رجاء أجدادنا الأثير في النوائب والملمات: 'يا خفي الألطاف، نجنا مما نخاف'.

(مقتطفات من مقال بالعنوان نفسه، نشر في 26 يناير/كانون ثاني 2014. وللأسف، لم تأت دائرة الدم بآخرها بعد)

(عن العربي الجديد)

التعليقات