24/01/2017 - 10:54

فلسطينيو الـ48... جردة حساب والدين المعلق

ليست المرة الأولى التي نجد أنفسنا في ظرفٍ مشحون وقابل للانفجار على نطاق أوسع. لا أقصد المواجهات المحدودة التي تجري بين الحين والآخر مع نظام القهر العنصري، إنما حالات الغضب الأوسع والأشمل. إننا الآن نعيش إرهاصات ومقدمات لمشهد مؤلم جديد،

فلسطينيو الـ48... جردة حساب والدين المعلق

عوض عبد الفتاح

ليست المرة الأولى التي نجد أنفسنا في ظرفٍ مشحون وقابل للانفجار على نطاق أوسع. لا أقصد المواجهات المحدودة التي تجري بين الحين والآخر مع نظام القهر العنصري، إنما حالات الغضب الأوسع والأشمل. إننا الآن نعيش إرهاصات ومقدمات لمشهد مؤلم جديد، ولكنه يحمل لنا في طياته إمكانيات وفرصا لجعل مسار القمع يسير باتجاه معاكس، أو على الأقل إجباره على التوقف. بات الكثيرون منا مقتنعين بأنه لا بد من تدفيع القاهر ثمنا، وأن نردعه عن المضي في غيه ووحشيته. هذا هو الأمل الذي يتجمع أمام أعيننا ويُنتظر تحويله إلى برنامج عمل إستراتيجي، ولكن لهذا التحول شروطا لا بد من إيفائها، وذهنية جديدة تقرأ جيدا نقاط قوتنا، وتعرف كيفية إخراجها من الكمون إلى ساحة الفعل والتأثير والوصول إلى نتائج عملية تحفز الناس على الالتفاف حولها، وحول من يقودها.

في أواخر عام 2013، أو خاصة في النصف الثاني تمكنت جماهير شعبنا في الداخل، والحراك الشبابي في القلب منه، توجيه ضربة شبه قاضية لمشروع برافر الاستعماري، الاقتلاعي الذي استهدف أهلنا في النقب. وكان ذلك حصيلة حشد وتعبئة وتجهيز على مدار الأعوام 2011، 2012، 2013 تحت مظلة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، ولجنة التوجيه الوطني لعرب النقب وبمواز إلى ذلك الحراك الشبابي. بدأت المظاهرات والاعتصامات في النقب، بترخيص رسمي، ثم انتهت بنوع من العصيان المدني، أي دعوة الناس والسياسيين للنزول إلى الشوارع والتظاهر بدون طلب ترخيص. وكنا ننادي علنا، إلى إغلاق الشوارع، وهو الأمر الذي رفع المواجهة إلى مستوى متقدم، مؤثر وفاعل. لم تحصل هذه النقلة النوعية من تلقاء نفسها، ولا بدون نقاش ومعارضة من قوى تقليدية متوجسة اعتادت على النضال الناعم. كما لم يكن سهلا أو سريعا تذويت الحاجة إلى التضامن في أوساط شعبنا في المثلث والجليل. واحتاج الأمر إلى عمل مكثف، والذي أنتج في مرحلة متأخرة تحركا صداميا في العديد من مفارق الطرق الرئيسية. في الجنوب قادت التحركات لجنة التوجيه الوطني لعرب النقب والتي شكل إقامتها آنذاك خطوة نوعية في مستوى التنظيم.

في الجليل تطورت إدارة المواجهات، من مواجهات بلا قيادة ميدانية إلى تشكيل قيادات ميدانية قوامها الشباب الذين بدأوا يراكمون الخبرة من المواجهات السابقة. كانت نقطة التحول الكبرى في تشرين الثاني، حين اشتعلت عدة مواجهات في الجليل (حيفا – البطوف) والمثلث والنقب. وكان أشدها المواجهة في قرية حورة القريبة من قرية ام الحيران، والتي انتهت بجرحى واعتقالات كثيرة.

هنا فقط قرأت المؤسسة الإسرائيلية أبعاد هذه المواجهات وباتت متأكدة أن هذه المواجهات أيلة للتوسع والانتشار والتحول إلى نمط جديد من الصدام مع الفلسطينيين في إسرائيل، فسارعت، ومن خلال الوزير المكلف بمتابعة قضية مخطط الاقتلاع، بيني بيغن، إلى الإعلان في جلسة حكومية عن فشل المخطط. واتهم الحركات السياسية، وخص قيادات التجمع، مستحضرا بينات، بالمسؤولية عن التحريض على المواجهات وإغلاق الشوارع. وأضاف أيضا أن عرب النقب رفضوا التعامل مع المخطط، ولكن بالتأكيد هذا الرفض على أهميته، ما كان ليؤدي وحده إلى إلغاء المخطط لولا المواجهات العنيفة التي اندلعت على مدار النصف الثاني من عام 2013، وكان أشدها في مسيرة حورة.

كان الخطأ الفادح، عندما اعتبرنا هذا التراجع الإسرائيلي انتصارا مؤزرا وليس بداية انتصار في معركة، نحتاج إلى حشد المزيد من القوى البشرية والمادية، والأهم إلى مستوى أعلى من التنظيم الذي يضمن استمرارية النضال وصولا إلى القضاء التام على المشروع الذي تجدد بعد أشهر من خلال الهدم بالتنقيط.

لو كانت لدينا قراءة سليمة لنتائج تلك المعركة، وأسسنا على بناء على هذه القراءة، تنظيمات شعبية، ومأسسنا لجنة المتابعة، ووضعنا خطة عمل إستراتجية متماسكة لما واصلت حكومة الأبرتهايد الكولونيالي هدم البيوت ولما تجرأت المرور من قلب مدينة قلنسوة لترتكب مجزره المنازل (11 بيتا) دون أن تكون مقاومة، أثناء عملية الهدم.

هل بتنا مؤهلين لأداء مختلف؟

هل لدينا نحن قيادات ومركبات الهيئات التمثيلية العربية، الاستعداد الذهني والعملي للتوقف هنيهة وأحداث نقلة ذهنية وعملية، من حالة ردود الفعل إلى المبادرة والتخطيط ليس لأسابيع قادمة أو لأشهر قادمة، بل لمرحلة قادمة بأكملها.

بالكاد تجد مسؤولا من لجنة المتابعة، أو من الأحزاب ينكر أهمية النضال الشعبي، أهمية أن ينخرط الناس في الدفاع عن بيوتهم وأرضهم، أهمية أن يشارك الناس في تقرير مصيرهم، في تقرير حياتهم. ولكن هذا الاعتراف لم يؤد إلى بلورة هيئات قوية دائمة تخطط وتقود النضال الشعبي، وتنظم الناس بصورة أفضل.

لا شك أن تاريخ النضال الفلسطيني داخل الخط الأخضر حافل بالمبادرات وليس فقط بردود الفعل، مثل بناء الحركات والأحزاب السياسية، ولجان الدفاع عن الأرض، والحركات الطلابية، والمؤسسات المهنية، والجمعيات. ولولا ذلك لما تمكنا من التحول إلى مجموعة قومية ذات وعي بوجودها كجزء من شعب مقهور. ولولا ذلك لما تضاعف هذا التحريض الدموي علينا، ولما أقدمت إسرائيل على سن هذا العدد الهائل من القوانين العنصرية، بل لكانت إسرائيل اكتفت بترسانة القوانين والمخططات (وهي شديدة) التي وضعتها منذ السنين الأولى بعد النكبة. ولكن حين تمكن الفلسطينيون من تحدي هذه المنظومة القمعية، وتجلى هذا التحدي بمستوى متقدم منذ يوم الأرض. وتجدد هذا التحدي في المستوى الفكري وفي المستوى الميداني منذ أواسط التسعينات. ففي العقود التي تلت يوم الأرض، ازداد عدد التنظيمات العربية السياسية المستقلة. هذه التنظيمات التي اقتحمت ساحة الدفاع عن الهوية والأرض، بالإضافة إلى الحزب الشيوعي، الذي لعب الدور المركزي في الحياة السياسية حتى تلك الفترة. فقد برزت حركة أبناء البلد، في الجامعات كقوة مركزية، والحركة الإسلامية، والحركة التقدمية، ولتكون القفزة الكبرى في أوائل التسعينات المتجلية في حزب التجمع الذي هو بمثابة إعادة بناء التيار القومي، (المتضمن في برنامجه البعد الوطني الفلسطيني، والقومي العربي، بعده الديمقراطي المتمثل بشعار إلغاء الطابع اليهودي والكولونيالي لإسرائيل، ودولة المواطنين والحكم الذاتي الثقافي).

كان الأخير، أي حزب التجمع، نقلة نوعية في الفكر السياسي في مواجهة إيديولوجية الكيان الإسرائيلي، ومواجهة تبعات اتفاق أوسلو الخطيرة بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل.

هذا التنوع الكبير زود المشهد السياسي الفلسطيني داخل 48، بمصادر قوة جديدة، وأغنى وعمق التجربة الفلسطينية داخل الخط الأخضر بصورة لافتة. كان لهذا التنوع، الذي تجلى في تجديد الفكر السياسي، وتطوير المواجهة الميدانية. كل ذلك نقل فلسطيني الداخل من حالة التجاهل والنسيان إلى وعي المجتمع الغربي، الذي أوجد إسرائيل، وروجها كواحة ديمقراطية في مواجهة عربي متخلف.

لم تنتظر إسرائيل استكمال بناء تجربتنا الوطنية، وتحويل رؤيتنا البنائية (تنظم فلسطينيي الداخل) إلى مشروع وطني متكامل، يقوم على إعادة بناء أعمدة هذا المشروع المتمثل في إعادة بناء لجنة المتابعة، وتأطير الأحزاب والسلطات المحلية والهيئات الشعبية والمهنية في إطارها، تمهيدا للانتقال إلى الانتخاب المباشر ليكون بمثابة ترجمة للقوانين الدولية التي تمنح الحق لكل أقلية قومية في ممارسة حق تقرير مصيرها. إن بناء هذه المؤسسات القومية شرط ضروري لحماية وجودنا كمجموعة قومية، وتحصينها من طغيان الأكثرية الحاكمة (العرقية والكولونيالية في حالة إسرائيل)، التي جعلت تفتيت مجتمعنا الفلسطيني وطمس تاريخه، وتدمير هويته، هدفا إستراتيجيا. والحقيقة هو أننا تأخرنا في مأسسة تجربتنا، لأسباب كثيرة منها أنماط التفكير التقليدية.

لقد أقدمت إسرائيل على هجوم مضاد على مواطنيها العرب، ولسان حالها يقول إن هؤلاء المواطنين العرب، هم جزء من 'العدو الفلسطيني' في كل مكان ولا بد من التعامل معهم وفقا لهذا التصنيف. لقد استغلت، وتستغل إسرائيل الفجوة الهائلة في ميزان القوى القائمة مستفيدة من تأخرنا في تنظيم صفوفنا وتوحيد مؤسساتها التمثيلية العليا، وتقويتها وتوحيدنا، أو عجزنا عن خوض نضال شعبي حقيقي.

ومع موجات التصعيد ضدنا أصيب البعض بالارتباك والخوف، وراح ينشد الحذر الزائد، ويستجدي المؤسسة الإسرائيلية باعتقاده أن ذلك ضروري في تفادي ضربات أقوى، أو ظنا منه أنه بذلك، وعبر التركيز على التواصل مع المؤسسات الإسرائيلية، يمكن أن نحصل على مكاسب أكثر الأمر الذي دفع إسرائيل إلى الاطمئنان وإلى المضي قدما في مشروعها العدواني، الكولونيالي ضدنا. فهذا بالضبط ما نراه في ساحة الضفة الغربية، حيث تغيب المواجهة الشعبية، لأن السلطة الفلسطينية تعول على الخارج فقط.

وهناك في الحقيقة، خيط قوي يمتد بين رام الله مع بعض القوى في الداخل، ويقوم على هذا المفهوم الاختزالي للنضال.

والسبب الآخر وراء سلوك البعض الاستجدائي واعتماد خطاب ناعم، هو جهل قوانين الصراع وأبجديات المواجهة مع الخصم، التي رسمتها شعوب وحركاتها الوطنية والثورية في التاريخ الحديث. وأحيانا يكون أيضا كامن في البنية الشخصية للقيادي ولممثل الجمهور. أي ليس دائما نابعا من الحكمة والتدبر. والآن، وفِي ظل تعرضنا لهجمة جديدة، فإن الأمل معقود على سقوط هذا النهج، لحساب النضال الشعبي ومبدأ التخطيط.

هل من توجه جديد؟!

ليس لدي ذرة شك أنه إذا لم نباشر فورا في تأطير الغضب الشعبي المتنامي، واستثمار عودة الحياة إلى الحراك الشبابي، فإننا سنبدد فرصة ثمينة أخرى، وبهذا سيعادل قصورنا الخطيئة وليس الخطأ.

من المعروف أن الضحية أيضا مسؤولة عن قمعها أو عن استمرار اضطهادها، لأنه إذا لم تقاوم اضطهادها، فإنها تتحمل المسؤولية عن ذلك. وإذا كان الناس بكافة شرائحهم، مستعدين للنضال والتمرد ولا يجدون القيادة المؤهلة التي تقود نضالهم، بأفضل السبل والإستراتيجيات، ستعود ثقة الناس بالقيادة إلى التراجع، وهي التي تكتسب مجددا ثقة أكبر بفضل ردها القوي على هدم البيوت والاعتداء على قرية أم الحيران وقتل أحد مواطنيها، الشهيد يعقوب أبو القيعان.

ونحن الآن على عتبة مناخ جديد. المزاج العام بدأ يتغير ومُرشح للتسارع نحو روح كفاحية جديدة، ولكن كل ذلك مرهون بقدرتنا على تأطير مظاهر الغضب الذي لم يتحول بعد إلى حالة عامة. إذا كنا لا نملك الاستعداد، والمعرفة، والنفسية، والإرادة لوضع الأسس القوية، التنظيمية والمؤسساتية، فإن موجة الغضب هذه ستنحسر كما الموجات السابقة، وسننتظر جريمة أو جرائم إسرائيلية كبير (هدم أحياء أو قتل عرب) حتى نستيقظ. وفي فترة الانتظار هذه تكون إسرائيل قد هدمت بيوتنا أخرى بالتنقيط، واستوطنت أكثر في محيط بلداتنا، ونهبت ما تبقى من أرض، وزاد عدد العاطلين عن العمل، وازداد الفقر، وتضاعف العنف عدة مرات، وانسد الأفق تماما أمام أبنائنا وبناتنا.

كما يكون قد زاد عدد المتعاونين مع المؤسسة الإسرائيلية، وانخراط المزيد من الشباب في ما يسمى 'الخدمة المدنية' مستغلة أوضاعهم الصعبة. وهكذا تعيدنا إسرائيل إلى الوراء وتؤخر تقدمنا وتطورنا. لذلك لا بد من وضع تصورات طرحناها نحن، في إطار لجنة المتابعة، وطرحها عدد من الأكاديميين والباحثين (وثائق التصور المستقبلي).

ولا بد من أن تكون هذه التصورات مستندة إلى نقاط قوتنا، سواء الكامنة (الوجود، الهوية، التاريخ، القضية العادلة) أو تلك التي راكمناها على مدار عقود من المواجهة في الوطن في مجال الوعي السياسي، والمعرفة التنظيمية، التعليم، الثقافة). إن إسرائيل لا تتصرف بهذا القدر من القمع والعدوان والاحتواء، وهذا المستوى من التحريض الدموي الهستيري، بسبب أن العنصرية كامنة في مشروعها الاستعماري فحسب، بل لأنها اكتشفت مجددا قوة الفلسطينيين داخل الخط والكامن في الخطر في التحدي الذي يشكلونه لجوهر مشروعها السياسي الاستعماري، فهي في أزمة وحيرة إزاء كيفية التعامل مع هذا الجزء من شعب فلسطين، إذ فُرضت عليه المواطنة الإسرائيلية، لتكون وسيلة لتبييض وجه إسرائيل في الغرب وبعد أن تأكدت من أن مخططات الطرد أبقتنا أقلية صغيرة لا تشكل تهديدا ليهودية الدولة وما يسمى بدمقراطيتها، ولتكون مدخلا لتذويبه في الكيان الإسرائيلي، وشل فاعليته وطمس ارتباطه التاريخي وما ينطوي على هذا الارتباط من حقوق قومية، وواجبات وطنية تجاه بقية الشعب الفلسطيني، في الضفة والقطاع وفي الشتات. ومن ناحية ثانية، اعتمد الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، توجها نضاليا، شعبيا مدنيا، سياسيا وقانونيا وكذلك برلمانيا، ويطرحون رؤية ديمقراطية ليبرالية إنسانية تشكل الأساس الدستوري والأخلاقي لحياة مشتركة مستقبلية، القائمة على أنقاض الطابع اليهودي والكولونيالي لإسرائيل. إن اعتماد المواطنة بهذا التوجه وهذا المضمون واعتماد النضال السياسي والشعبي حيد القوة الإسرائيلية القمعية ومكن الحركات السياسية العربية الوطنية من إدارة صراع إيديولوجي ضد طابع الدولة، وتنظيم نضال شعبي ضد سياساتها اليومية ومخططاتها العنصرية. غير أن تفاقم العداء ضدنا بات يفرض علينا الارتقاء بمستوى تنظيمنا، وقد حان الوقت للقيام بذلك دون تردد أو مماطلة، أو دون التذرع بالأولويات. إن التأطير والمأسسة هما الأولوية الأولى والعليا لحركة نضالنا السياسي والشعبي، والضمان لوصولنا إلى أهدافنا.

إن أي تأخير بهذه المهمة هو تبديد فرصة كبيرة وثمينة أخرى. كما أنه باعتقادي، بل هذا ما يجب أن يكون، ستتحرك قوى وأوساط أكثر حيوية وأكثر دينامية وأكثر إقداما ومعرفة لملء الفراغ، والدفع باتجاه التحول الجذري نحو تنمية تبلور قيادات جديدة.

البنية المطلوبة:

تنفيذ مطلب تحديث لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل. لكل شعب أو لكل أقلية قومية قيادة وطنية موحدة. في ظروف وقوع شعب تحت الاحتلال، أو تحت حكم دولة تقودها أغلبية عرقية/ إثنية وتمارس تمييزا وإقصاء ضد أقلية إثنية أو قومية، أصلانية، تعيش في نفس حدود الدولة، يحق للشعب أو المجموعة القومية، وفقا للقوانين الدولية، حق تقرير المصير، الذي يأخذ أشكالا مختلفة أهمها: الانفصال وإقامة دولة مستقلة، الحكم الذاتي الجغرافي، الحكم الذاتي السكاني، الحكم الذاتي الثقافي (والأشكال الثلاثة الأخيرة تكون في إطار دولة ديمقراطية مدنية). في حالتنا نحن الفلسطينيين في الجليل، المثلث والنقب والساحل، أصحاب الأرض الأصليين، أصبحنا بعد تطبيق المشروع الكولونيالي الصهيوني عام  48 وتنفيذ جرائم التطهير العرقي، أقلية قومية في الدولة اليهودية.

ففي غياب حل إستراتيجي في الأفق المنظور والمتوسط ينهي الصراع ويحقق العدالة لشعبنا، يصبح لزاما علينا تقديم أجوبة واقعية- على حالة كل تجمع فلسطيني، سواء في الـ48، أو في 67، أو في الشتات، واجبا وطنيا وضرورة وجودية، بشرط ألا تشكّل هذه الخصوصية ذريعة، أو مسوغاً لتكريس التجزئة وطمس العلاقة التاريخية والمصيرية بين كافة هذه التجمعات باعتبارها، كلها، خاضعة لمنظومة قهر استعماري وفصل عنصري. والجواب الذي تتفق عليه ولو نظريا، غالبية القوى السياسية، والأوساط الأكاديمية والمثقفين، هو تبني الحكم الذاتي الثقافي. وعلى مدار مسيرتنا كفلسطينيين داخل الخط الأخضر، أسسنا أدوات ومؤسسات مهمة تشكل جزءا من القاعدة الثقافية التعليمية لهذا المشروع. ولكن غياب الحسم وعدم تبلور إجماع حول هذه الرؤية السياسية– الثقافية الجامعة حال حتى الآن ويؤخر الوصول إلى هذا الهدف.

إن العنصر الغائب عن مجمل الإنجازات السياسية والثقافية والتعليمية الكبيرة التي تحققت خاصة منذ أواسط السبعينيات، هو المظلة الوطنية الجامعة المتمثلة في مؤسسة عليا تؤطر تحت أجنحتها الأحزاب السياسية، رؤساء السلطات المحلية، ومؤسسات قانونية ومهنية ونقابية قائمة ليس كهيئة تنسيق بل كهيئة وطنية عليا تتأسس وتترسخ بموجب عقد اجتماعي أو ميثاق وطني يكون بمثابة المرجعية الدستورية والأخلاقية للقيادة الوطنية الموحدة أي لجنة المتابعة العليا المطلوب إعادة بنائها.

يعود تاريخ المطالبة بإعادة بناء لجنة المتابعة منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي (قبل حوالي عشرين عاما) وقد عطل تنفيذ هذا المشروع حتى الآن الصراع بين توجهين: توجه يتوجس من تحويلها إلى هيئة قومية منفصلة، تكون على حساب التعاون اليهودي العربي، ويكتفي بتحسين بنيتها بحيث لا تتجاوز كثيرا وضعها الحالي كلجنة تنسيق بين الأحزاب ورؤساء السلطات المحلية. ومؤخرا، وبسبب دينامية النقاش بين التوجهين، وبسبب متغيرات الواقع السياسي والحزبي، طرأ تباين بين مواقف أصحاب هذا التوجه. ولاحظنا في السنوات القليلة الأخيرة زحزحة أو بداية انفتاح على مطلب تطوير لجنة المتابعة لكن دون أن يصل حتى الآن إلى القناعة أو الجاهزية، بتنفيذ المأسسة الحقيقية والإقرار بمبدأ الانتخاب المباشر لقيادات لجنة المتابعة. وقد أدى النقاش داخل أصحاب هذا التوجه إلى تغلب التيار الذي بات أقل تشددا في تحفظه من وجود هيئات قومية عليا، ترجم ذلك في قبول فكرة القائمة الانتخابية المشتركة التي كانت مرفوضة مطلقا. وقبول الفكرة، بعد سنوات طويلة من الرفض، يعتبر خطوة هامة نحو تنظيم المجتمع الفلسطيني على أساس قومي.

أما التوجه الآخر، فهو يرفع راية تنظيم فلسطينيي الـ48 على أساس قومي، والذي لا يتم إلا بتنظيم انتخابات مباشرة بين الأحزاب العربية الوطنية، على تمثيلها في لجنة المتابعة (كبرلمان للعرب)، كبديل عن انتخابات الكنيست أو بموازاة ذلك. وهذا يتطلب تخصيص الوقت والتفرغ لمهمة تحويل لجنة المتابعة من لجنة تنسيق إلى مؤسسة قومية حقيقية.

ماذا  تعني المأسسة؟

الوضع الحالي للمتابعة هو نتاج تفاهم الأحزاب بالأساس، وقد جاء حصيلة مداولات وحوارات امتدت لسنوات، حيث تم التوصل، وبصعوبة شديدة، إلى هيكلية تكرس وضع اللجنة القديم مع تعديلات بسيطة، منها بند فصل لجنة رؤساء المجالس البلدية والقروية والتنافس على رئاسة المتابعة داخل اللجنة نفسها (داخل المجلس المركزي المكون من 54 عضوا) . ويعني هذا أن منصب رئيس لجنة المتابعة العليا لم يعد مقصورا على رئيس سلطة محلية كما كان في السابق (الفائز بأكثرية أصوات الرؤساء أعضاء اللجنة القطرية). ولكن وبعد مرور 15 شهرا على الوضع الجديد وانتخاب رئيس جديد للجنة، السيد محمد بركة، لا تزال على بنيتها رغم الدور النشط الذي يؤديه في الملفات الحارقة الكثيرة. إذا ما الذي ينقل اللجنة، وينقلنا جميعا إلى مرحلة جديدة؟

هو جعل اللجنة مؤسسة قيادية عصرية وحديثة، وهذا يتم من خلال: تصميم هيكلية تتشكل من دوائر مختصة تحت قيادة رئيس اللجنة مثل دائرة الأرض والمسكن، دائرة العمل الشعبي، دائرة التعليم، دائرة العمل البلدي، دائرة العمل الثقافي، دائرة العلاقات الخارجية، دائرة الشباب، دائرة المرأة، وأن يكون لكل دائرة مركّزا أو رئيسا متفرغا، وأن تكون كل دائرة مكونة من سياسيين ومهنيين أو مختصين. ولكل دائرة رؤية وخطة عمل لدورها. بهذه البنية، يصبح ممكنا إدارة اللجنة وفق خطة سنوية، وخمسية، في إطار رؤية وطنية بعيدة المدى: نضالية، وبنائية. وتحدد العلاقة الواضحة مع الدولة العبرية، ومع شعبنا الفلسطيني وبالمشروع الوطني الفلسطيني الإستراتيجي.
صندوق مالي موارده من شعبنا، ومن الأخوة الأصدقاء في الخارج، عربا وأجانب. أما آلية توفير الموارد  كالتالي: تقوم اللجان الشعبية القائمة بحملة تبرعات محلية منتظمة تتحوّل مع الوقت إلى أشبه بالضريبة. والمورد الثاني رجال الأعمال، والثالث صناديق خارجية.

أما من حيث تطبيق ذلك، فالأمر يحتاج إلى مجموعة قليلة من رجال الأعمال، لتشارك في يوم دراسي مع قيادة المتابعة لوضع تصور وخطة لإقامة هذا الصندوق والأهم وضع أهداف واضحة بعيدة المدى.

هذا الصندوق الوطني هو الركيزة الأساسية لتنظيم لجنة المتابعة ولتمكين الرئيس ودوائر اللجنة المختلفة بأن يعملوا بصورة طبيعية وبانتظام، وبدونه لن يحصل أي تقدّم حقيقي، لا في مأسسة اللجنة ولا في تغيير أدائنا النضالي أو في ضمان استمرارية هذا النضال. في ظل استمرار غياب صندوق قومي، سيظل نضالنا موسميا، وستتسع الفجوه بين اللجنة وبين الناس.

التعجيل في بناء وإقامة هيئة نضال شعبي ذات بنية قوية، وعلاقات سليمة مع كافة اللجان الشعبية القائمة التي تحتاج إلى إعادة تطوير وبناء وتوسيع قاعدتها الشعبية. كل ذلك مرهون بإرادة قيادات لجنة المتابعة ولإقرارها رسميا بضرورة المباشرة والبدء في تنفيذ هذا المشروع.

كيف يجري الشروع بالتنفيذ مباشرة، وقبل أن ينحسر الزخم الشعبي الحالي ويختفي، بعقد عدة أيام دراسية مغلقة، مهنية، لوضع تصور مفصل لهيكلية اللجنة ولدوائرها، ووضع الآليات لتنفيذها. هذا يحتاج بالضرورة إلى طاقم مهني مختص ببناء المؤسسات.

المناخ الشعبي الحالي، المتمثل بارتفاع منسوب الغضب، وبالشعور العام بالحاجة إلى القوه والحصانة والقدرة على فرملة الهجوم الإسرائيلي علينا، ومنع هدم قادم، أو سلب أرض أخرى، أو قتل قادم، لا يطرأ إلا بين فترات متباعدة، ومحظور علينا تبديده. 

التعليقات