07/03/2023 - 16:38

التجاهل الواعي أداةً لمكافحة المعلومات المُضللة

للمعلومات المضللة ومنخفضة الجودة القدرة على اختراق انتباه الناس على الإنترنت عبر استفزاز غرائزهم للفضول أو الغضب، وليتمكن الناس من مقاومة هذا النوع من المعلومات، يتوجب عليهم تبني عادات ذهنية جديدة تساعدهم على عدم الوقوع في شرك المحتويات الخاطفة للانتباه

التجاهل الواعي أداةً لمكافحة المعلومات المُضللة

(Getty)

يحاول صُنَّاع المُحتوى على الإنترنت الفوز بأكبر قدرٍ من انتباه الناس. عيون مشدوهة تُتابع الفيديوهات الجديدة، والأخبار غير المُنتهية. يُقلب الناس انتباههم بين التطبيقات بسرعةٍ عالية. كيف يفوز صانع المحتوى بأكبر وقتٍ ممكنٍ من وقت القُراء؟ كيف يضع أكبر كمية ممُكنة من المعلومات في سطرين؟ يُعرض انتباه الناس في عالمنا اليوم في مناقصة علنية أمام آلاف من الشركات والناس، ويُباع دون توقفٍ من منفذٍ إلى آخر.

والنتيجة؟ فيض معلوماتي هادر. أشارت آن بلاير (مؤرخّة أميركية) إلى وجودٍ معلوماتٍ أعلى من قدرة الناس على الاستيعاب. وما يصل إلى قرنيتيك من هذه المعلومات يُحدده أناس آخرون: ما يشاركه أصدقاءك وما تختار خوارزمية المنصات أن تعرضه عليك. وبالنظر إلى هذا الجنون، لا نحتاج فقط إلى التفكير النقدي، وإنما إلى التجاهل النقدي أيضًا: أن تعرف ما لا يجب أن تصرف انتباهك إليه مع مرور الوقت. أن تعثر على الإبرة في كومة القش يبدو جهدًا جهيدًا، ولكن المهم أن تحدد كم الوقت الذي تريد إنفاقهِ في فرز القش يوميًا.

كانت الحجة أعلاه إحدى أهم مخرجات البحث المنشور في مجلة الاتجاهات الحالية في العلوم النفسية من جامعة هارفارد: «التجاهل النقدي بوصفهِ مهارةً أساسية لدى المواطنين الرقميين»، من كتابة أناستاسيا كوزيريفا، وسام واينبورغ (ستانفورد)، وستيفان ليفاندوفسكي (جامعة بريستول)، ورالف هيرتويغ. (لقد تخطيت مؤسسة كوزيريفا وهيرتويغ لأنها تستحق سطرًا لوحدها: مركز العقلانية التكيفية في معهد ماكس بلانك للتنمية البشرية في برلين.

للمعلومات المضللة ومنخفضة الجودة القدرة على اختراق انتباه الناس على الإنترنت عبر استفزاز غرائزهم للفضول أو الغضب، وليتمكن الناس من مقاومة هذا النوع من المعلومات، يتوجب عليهم تبني عادات ذهنية جديدة تساعدهم على عدم الوقوع في شرك المحتويات الخاطفة للانتباه والضارة. نحاجّ في ورقتنا البحثية بأن تعلم مهارات المعرفة الرقمية يجب أن يتضمن التجاهل النقدي: اختيار ما يستحق التجاهل واختيار مواطن استثمار قدرات الشخص وانتباهه المحدودين.

راجعنا في ورقتنا ثلاثة أنواعٍ من الاستراتيجيات الإدراكية لتطبيق التجاهل النقدي، أولاها، التنبيه الذاتي: أن يتجاهل المرء الإغراءات عبر إزالتها من محيطه الرقمي. وثانيها، القراءة الجانبية، والتي يعمل القارئ فيها على التحقق من المعلومات عبر ترك المصدر الحالي والبحث عن مصادر أخرى تؤكد الخبر/الأخبار المنشورة. وثالثها، استراتيجية عدم تغذية المتصيدين/الترولز Trolls: والتي تدعو القارئ إلى عدم مكافأة الصفحات ذات المحتوى المشبوه. ونرى بوجوب وضع هذه الاستراتيجية الثلاثة المُساعدة في عملية التجاهل النقدي في المنهاج المدرسي لحصص محو الأمية الرقمية.

يتطلب تعليم مهارة التجاهل النقدي إحداث نقلة نوعية في طريقة تفكير المُعلّمين، بدلًا من التركيز الوحيد على قوة الاهتمام إلى التركيز الإضافي على قوة التجاهل، وقد يؤدي تشجيع الطلاب وغيرهم من المستخدمين على الإنترنت إلى تبني التجاهل النقدي إلى تمكينهم من حماية أنفسهم من التجاوزات وأفخاخ المحتوى واضطراب المعلومات المنتشر في عالم اليوم القائم على اقتصاد الانتباه.

صار التجاهل (اسم)، «قصور في المعرفة، أو الفهم، أو المعلومات حول موضوع مُعين»، حقل علمي مزدهر عابر للتخصصات. ثمة اشتراك واضح بين سوسيولوجيا المعرفة وسوسيولوجيا الجهل، وظهر في القرن الماضي علم اسمه علم التجهيل[1]، بوجود علماء متخصصين بهِ، وبدلًا من رؤية الأمر على أنه أمر سلبي للغاية، أفادت العديد من الدراسات بضرورة الجهل الإستراتيجي. يوجد الكثير من المعلومات حولنا، واختيارك لتعلم المعلومة (أ)، يعني اختيارك لتجاهل المعلومة (ب) و(جـ). وعليك أن تزيد من مهاراتك في اختيار المعلومة (أ).

ركزت الكثير من الجهود في الميدان البحثي على التفكير النقدي، «التفكير العقلاني والهادف»، سواء في التعليم أو على الإنترنت، وعلى سبيل المثال، قال زوكر (2019) مُخاطبًا الرابطة الوطنية لمُعلمي العُلوم إنه وبسبب فيضان المعلومات المضللة «صار من الضروري لمعلمي العلوم مُساعدة الطلاب على استخدام التفكير النقدي لاختبار الادعاءات التي يرونها ويسمعونها ويقرؤونها، وليتأكدوا ما إذا كانت علمية أو لا».

وعلى الرغم من أهمية القدرة على التفكير النقدي، فإننا نحاج بأنه ليس كافيًا توظيف مهارات العالم الفيزيائي المحسوس في العالم الرقمي، لأن المعلومات في العالم الرقمي تأتي للناس مفروزة في أجهزة رقمية، ولا أهمية لاتخاذ قرار حول المعلومة التي يبحث عنها المرء، بل يتبدى أمامه فيضان معلوماتي هادر حوّل من انتباه الإنسان إلى سلعة نادرة يمكن للمُعلنين وصناع المحتوى اقتناصها واستغلالها.

إن استغلال جهود التفكير النقدي الواعي على مصادر معلوماتية كان يجب تجاهلها بالمقام الأول يعني أن انتباه المرء قد اُخترق مُسبقًا، وعليهِ يجب أن يحتوي التعليم الرقمي والتفكير النقدي على مهارة التجاهل النقدي لتعليم الناس سُبل مقاومة المعلومات المضللة التي تبدو شيقة، وسبل استثمار انتباه الإنسان المحدود.

يستخدم العلماء مصطلح «التجاهل الواعي» للإشارة إلى «الاختيار الواعي لتجاهل المعلومات، حتى لو كانت تكلفة اكتسابها ضئيلة»، ويعرف مؤلفو الورقة البحثية مصطلح «التجاهل النقدي» على أنه:

نوع من أنواع التجاهل الواعي يختار فيه المرء فرز وتجاهل المعلومات للتحكم في بيئة البيانات من حولهِ ولخفض تعرضه للمعلومات الخائطة والسيئة. تأتي هذه المهارة مكملة لمهارة التفكير النقدي ومهارات التعلم الرقمي، مثل العثور على المعلومات على الإنترنت، عبر تعليم الناس سُبل تجنب المعلومات المضللة والمشتتة، والمعلومات التي قد تحمل لقارئها ضررًا ما.

لا يمكن للناس التركيز على تبني مهارات التفكير النقدي إلا باستخدام القدرة على تجاهل فيض المعلومات المنتشر في الفضاء الرقمي، حيث يمكنهم تركيز قدراتهم البحثية النقدية على المعلومات المتبقية والمُحتملة ذات الصلة لما يبحثون عنه. ومثل مثل باقي أنواع التجاهل الواعي، يتطلب التجاهل النقدي موارد إدراكية وتحفيزية (التحكم في الانفعالات مثلًا)، وبعض المعرفة، على سبيل المفارقة: لتكون قادرًا على تحديد ما يجب تجاهله، على المرء أن يعرف وأن يفهم أولًا العلامات التحذيرية لانخفاض موثوقية المصادر الرقمية.

كيف يمكن تحقيق ذلك؟ يسرد المؤلفون في الجدول أدناه مجموعة من التكتيكات التي تستهدف 3 تصنيفات للأخبار المُضللة والخائطة والكاذبة: مُشتتة ومنخفضة الجودة/خاطئة ومُضللة/تصيدية:

تنبني الإستراتيجية الأولى «التنبيه الذاتي» على التحكم بالانفعالات، كأن يكون لديك كتاب حميات غذائية يُخبرك بألّا تترك كيس الشيبس أمامك في البيت كيلا يغريك لأكله. يُمكن النظر لهذه المهارة على أنها وعيٌ بالمعلومات والوسائط.

عبر استخدام دينامية مدروسة بعناية لأنماط التدخل، يمكن للأثار الموضعية (مثل جعل الأكل الصحية أكثر قربًا وأسهل وصولًا في السوبرماركت ومحلات البقالة) أن تغير الطبيعي (مثل جعل خصوصية البيانات ضمن الإعدادات التلقائية) أو أن تغير المُتعارف عليهِ، وبهذه الطريقة يعيد التنبيه الذاتي تصميم مِعمار رحلة الاختيار لتدفع نحو التغير السلوكي. ولكن وعلى خلاف التدخلات العلنية، يدفع التنبيه الذاتي بالناس لتغيير بيئاتهم، وهو ما يسمح لهم بتصميم بيئاتهم الرقمية بحيث يمحنهم إرادتهم الواعية في اختيار ما يتعرضون وما لا يتعرضون له.

وللتعامل مع المحتوى الجذَّاب على الإنترنت، يمكن للناس تطبيق مبادئ التنبيه الذاتي لتنظيم بيئة المعلومات من حولهم لتقليل أثرها الإغرائي. مثلًا، يمكن تطبيق التنبيه الذاتي رقميًا عبر تحديد الوقت المسموح لتصفح مواقع التواصل الاجتماعي (عبر تطبيق وقت الشاشة على جهاز الآيفون)، أو عبر عرض الشاشة بتدرج رمادي بدلًا من الألوان، والتي أثبتت قدرتها في مساعدة الناس على قضاء وقتٍ أقل على هواتفهم.

ولتحقيق أثرًا أكثرًا راديكالية بالتنبيه الذاتي، يجب حذف أكثر تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي تشتيتًا (لفترة محددة من الوقت على الأقل). في دراسة لألكوت وآخرين (2020)، تسنى للمشاركين، الذين حُفزوا لحذف تطبيق الفيسبوك، 60 دقيقة بالحد الأدنى ليقضونها في نشاطات على أرض الواقع، وكانت هذه الدقائق مصحوبة بتحسن في الصحة العامة للمشاركين. يؤدي التقليل المباشر من النشاط الرقمي إلى التعرض الأقل المُباشر للأخبار السياسية (وليست المشاركة السياسة)، والاستقطاب السياسي (وليس الاستقطاب العاطفي).

وكما تظهر هذه الدراسة، ثمة مقايضات بين المكاسب المُحتملة (مثلًا، وقت فراغ للنشاطات الجسدية) والمخاسر المُحتملة (مثلًا، أقل تعرضًا للمعلومات عما يحصل) لهذه الحلول. لا يتمثل الهدف الأساسي من التنبيه الذاتي في تحسين استهلاك المعلومات، وإنما في تقديم طرق قياس وتقييم المعلومات بما يسمح للناس باستعادة التحكم في بيئتاهم المعلوماتية ولمواءمة هذه البيئات مع أهدافهم، بما يشمل أهدافهم حول تقسم الوقت والانتباه بين مصادر المعلومات المتنافسة (مثل الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي والعائلة الأصدقاء على الأرض).

ويعرِف قُراء واينبورغ السابقين مفهوم «القراءة الجانبية»، وهي استعارة فضائية/مكانية: عند تعرضك لمعلومة تشك في مصداقيتها، لا تركز على التدقيق في المصدر نفسه الذي يمنحك المعلومة، بل أن تتحرك إلى مصادر جانبية أخرى إما تؤكد المعلومة أو تكذبها، وهو ما يمنحك القدرة على الاطلاع على أكثر من مصدر، أي أكثر من وجهة نظر، وهو ما يعتبر إيجابيًا للتخلص من الانحياز التأكيدي، أو التحكم فيه.

تبدأ القراءة الجانبية بمعلومة أساسية: لا يمكن للمرء على الإطلاق معرفة مدى موثوقية أي موقع أو منشور على مواقع التوصل الاجتماعي عبر التفاعل مع محتوياته فقط. دون وجود معرفة مسبقة أو مؤشرات يمكن الاعتماد عليها في تحديد مدى موثوقية الموقع/المنشور، تكون أفضل استراتيجية في البحث عن معلومات حول المؤلف أو المنظمة أو الادعاءات المنشورة في مواقع وأماكن أخرى (مثل الذهاب لمحركات البحث أو ويكيبيديا للبحث عن مصادر موثوق حول الموضوع تحت النقاش).

توصَّل الباحثون إلى إستراتيجية القراءة الجانبية عبر دراسة ما يجعل متقصي الحقائق أكثر احترافية ونجاحًا في التحقق من المعلومات أكثر من أي بالغ مُتعلم (طالب يدرس في الجامعة أو لأشخاص يحملون درجة الدكتوراه في التاريخ من خمس جامعات مختلفة) على الإنترنت. بدلًا من البحث في التجول في موقع لا يعرفونه (البحث العامودي)، يختار متقصو الحقائق تجاهل الموقع المصدر إستراتيجيًا إلى حين فتحهم صفحات أخرى للتحقق من المؤسسة الناشرة للموقع أو الكاتب للمقالة المنشورة، وإذا أظهرت القراءة الجانبية أن الموقع غير جدير بالثقة، فإن تفحص المقالة نفسها واختبارها داخليًا يُعتبر مضيعة للوقت والجهد.

تُعتبر هذه الإستراتيجية، على الرغم من حاجتها إلى الحافز والوقت للتعلم، موفرة للوقت والجهد على المدى الطويل، حيث أفادت الدراسة أعلاه إلى احتياج متقصي الحقائق إلى عدة ثوانٍ فقط لاستكشاف موثوقية أي موقع.

ونصل الآن إلى الإستراتيجية الأخيرة، وهي عدم تغذية المتصيدين:

لا تكون المشكلة أحيانًا في المعلومة، إنما فيمن ينتجونها، وهم من يستحقون التجاهل. يمكن تتبع بعض السلوكيات الإشكالية على الإنترنت، مثل نشر المعلومات الخاطئة والتعديات اللفظية، إلى بشرٍ حقيقيين، وفي حالات كثيرة، يكون هؤلاء البشر هم نفسهم الفاعلين في نشر مثل هذه المعلومات. أوضحت الدراسات أن 12 شخصًا كانوا مسؤولين عن 65% من المحتوى المنشور على الفيسبوك وتويتر والمضاد للقاحات في شهري فبراير ومارس 2021.

وعلى الرغم من أنهم أقلية، فإن المروجين لنظريات المؤامرة والمكذبين للعلم يملكون صوتًا أعلى بما فيه الكفاية لتحقيق الضرر المطلوب، إذ تعمل إستراتيجيتهم على انتزاع انتباه الناس عن طريق إظهار محتواهم في شكل مناظرة أو نقاش غير حقيقيين، وأفضلٍ ردٍ عليهم يكون عبر تجنب التفاعل معهم أو مع ادعاءاتهم بتجاهلهم.

وحريّ بنا أن نذكر أنه لا يمكن لأي شخصٍ، ولا يجب عليهِ، تحمل عبء سوء استغلال الإنترنت وتلقي المعلومات الخاطئة لوحده. تنبني إستراتيجية عم تغذية المتصيدين على قيام مجموعة من الأفراد بالإبلاغ على الفاعلين السيئين إلى المنصات التي يتفاعلون عليها، وعلى المنصات حينها أن تفعّل سياسات الإشراف على المحتوى. وينبغي للمنصات وسياسات الإشراف لديها أن تكون خط الدفاع الأول ضد المحتوى والسلوكيات الضارة على الإنترنت. ولا يجب أن تعتبر إستراتيجيات التدخل الهادفة إلى تفعيل ملكات التفكير والتجاهل النقديين لدى مستخدمي الإنترنت أن تكون بديلة لتطوير وتنفيذ حلول منهجية وذات أساسيات قوية في المنصات وفي لوائحها لمحاربة المعلومات الخاطئة.

قد لا تعتبر الوصفات الثلاثة ثورية لمستخدمي الإنترنت أصحاب الخبرة (سمعت عن إستراتيجية عدم تغذية المتصيدين أول مرة في مجموعة إخبارية في عام 1995)، إلا أن التذكير بها لا يضر، وتعريف مستخدمي الإنترنت غير الخبراء بها، قد يكون مفيدًا. لدى كل واحد فينا مسؤولية تجاه المعلومات التي يتلقاها من خافته. يمكننا جميعًا مقاومة جاذبية نظريات المؤامرة. ويمكنك كل واحد فينا أن يُعلم نفسه كي لا يكون فريسة سهلة للمتصيدين الكِبار. الصحفيون هم أداة إنشاء المعرفة فيما يتعلق بالأخبار، ونشر المزيد من الحقائق يوميًا وكل ساعة يعتبر عملًا بناءً! علينا مواجهة الأخبار الخاطئة والمُضللة بتجاهلها، وفي عالمٍ يُتاجر بانتباهنا، يكون عدم الذهاب إلى سوقهِ، فعل تُحرر مطلوب.


إحالات:

[1] علم التجهيل (أغنوتلوجي): دراسة الجهل أو الشك المتعمد والذي يُستخدم عبر نشر معلومات مُضللة أو خاطئة بهدف بيع منتجات أو خدمات أو لتحقيق مكسبٍ معروف.

التعليقات