09/02/2016 - 16:00

معين بسيسو... المجاز الثّوريّ الحالم

نتعرّف في قصائد الدّيوان على الشّعر حين يرتدي جبّة الثّورة، على الإيقاع الشّعريّ حين تمشي الكلمات خلف المتاريس. باستطاعتك، قارئًا، أن تتفاعل مع أشياء الحرب تخرج من كتاب الشّاعر وتصرخ في وجهك: أنا الحقيقة!

معين بسيسو... المجاز الثّوريّ الحالم

يقول الفيلسوف الفرنسيّ ألان باديو: 'ثمّة حلقة وصلٍ أساسيّةٌ بين الشّعر والشّيوعيّة، تتمثّل في شغف الشّعر بالتّماهي بين أشياء الحياة اليوميّة من جهةٍ، والسّماء والأرض والمحيطات وحرائق الغابات من جهةٍ أخرى. بمعنًى ما، التّماهي مع كلّ ما يمتلكه العالم'. في حالة الشّاعر الفلسطينيّ الشّيوعيّ الرّاحل، معين بسيسو، الشّعر حالة حبٍّ عنيفةٌ، يقوم فيها الشّاعر بعمليّة بعثٍ جديدةٍ للّغة حتّى تستطيع حمل العالم (وتمثيلاته؛ بما فيها فلسطين الضّائعة)، والدّفاع عن ذلك العالم أمام الّذين يريدون سرقته.         

في المجموعة الشّعريّة 'الآن خذي جسدي كيسًا من رمل'، ثمّة معالمُ شعريّةٌ تخصّ الشّاعر الفلسطينيّ معين بسيسو؛ بمعنى أنّ القارئ عندما يتصفّح قصائده، تتأطّر في رأسه عناوينُ جماليّةٌ ورؤيويّةٌ هي أشياء بسيسو؛ منها  الشّعر الملتزم والمجاز الثّوريّ، وجماليّات المسرح والموسيقى، وثنائيّات الموت/ البعث والخيال/ الواقع.

الشّعر الملتزم والمجاز الثّوريّ

نتعرّف في قصائد الدّيوان على الشّعر حين يرتدي جبّة الثّورة، على الإيقاع الشّعريّ حين تمشي الكلمات خلف المتاريس. باستطاعتك، قارئًا، أن تتفاعل مع أشياء الحرب تخرج من كتاب الشّاعر وتصرخ في وجهك: أنا الحقيقة!

المجاز هنا صاخبٌ بالصّوت والصّورة، هو صاخبٌ لكنّه ملتزمٌ برسالةٍ هادئةٍ محدّدةٍ، هي استنطاق كلّ شيءٍ عبر نظرة الشّاعر وصوته وعقله الفاعل والعادل.

في قصيدة 'أكتب جسدي كي تقرأ جسدك' يقول الشّاعر:

يا أوّل كيسٍ من رمل

يا أوّل متراس

أنا أعطي صوتي لك

أكتب لك   

تتعدّد الرّموز وتتدافع الأقنعة لحمل أفكار الشّاعر في كامل المجموعة الشّعريّة، حيث الجملة الفعليّة الغاضبة تسيطر على الدّيناميك الشعريّ:

اعجني بيروت

اعجني الشّظايا

هذه هدايا 'حافظ الأسد'.

هنا الصّورة الشّعريّة المؤلمة في فعل عجن شظايا الحرب، حيث - ومن باب السّخرية السّوداء - بيروت المرأة تتلقّى الهدايا في شكل شظايا تعجنها وتخبزها ثمّ تأكلها. بالطّبع، هذه ليست صورةً شعريّةً جديدةً حتّى بتوقيت قصيدة 'وثدي كلّ أمٍّ قنبلة(1976) '، لكنّ فيها أصالةً تنبع من كونها صورةً في مجازٍ ثوريٍّ ملتزمٍ يفصح عن أسلوب بسيسو الشّعريّ الغاضب بنبلٍ وأناقة. ينادي الشاعر الأمّ - المدينة - الضّحيّة فيصنع سياقًا جمعيًّا عامًّا، ثمّ يشير إلى الآخر – الرّجل - القاتل، ثمّ يسرد سيرة البطل الفرد في مشاهدَ شخصيّةٍ تتفاعل فيها الأعضاء كأنّها ماكينةٌ ثوريّةٌ واحدةٌ في وجه المعتدي، ماكينةٌ عادلةٌ تشارك فيها الطّيور، والأشجار، واليابسة برفقة الإنسان الضّحيّة.       

جماليّات المسرح والموسيقى

قصائد المجموعة من الشّعر الحرّ الّذي يتّسم بنسبٍ نغميّةٍ ولحنيّةٍ مبنيّةٍ على إيقاع الشّعر العموديّ القديم. في قصائد المجموعة، يحافظ بسيسو على الإيقاع الدّاخليّ والخارجيّ دون المسّ بقوّة الرّؤية والرّؤيا، فأدوات الشّاعر الجماليّة متوازنةٌ مع البناء الفلسفيّ والصّياغة التّعبيريّة لتلك القصائد؛ ففي قصيدة 'غزال صنّين'، يبدأ الشّاعر بالجوقة وينتهي بالجوقة، وخلال القصيدة يمارس لعبةً مسرحيّةً ذكيّةً فيها صورة الشّهيد في المطبعة، ثمّ على الحائط، ثمّ سيرة الشّهيد الّتي تنتهي بالجوقة معلنةً الموت والبعث معًا:

الكورس:

استشهد الماء ولم يزل يقاتل النّدى

استشهد الصّوت ولم يزل يقاتل الصّدى

..

يذهب للخندق

يترك دمه

ويعود إلى الحائط ملصق

في رثاء الفرد (غزال صنّين)، أو رثاء مدينةٍ كبيروتَ أو مخيّمٍ كتلّ الزعتر (وثدي كلّ أمٍّ قنبلةٌ، ومجنون تلّ الزّعتر)، يقف الشّاعر وكاتب المسرح بسيسو كمغنٍّ نبيلٍ في جوقةٍ من التّروبادور الثّوريّ، يغنّي بحزنٍ مجنونٍ على مذهب الشّعراء الّذين ليس لهم سوى اللّغة والمجاز، لكنّه يضيف لغةً مسرحيّةً تسند بنية القصائد، وموسيقى غنائيّةً فيها طابعٌ فروسيٌّ في داخل المفردة وخارجها، حيث (يا) المنادى تطلّ برأسها العنيدة تباعًا في قصيدة 'الآن خذي جسدي كيسًا من رمل':

صيدا . .

يا شجرة تفّاحٍ قد صارت امرأة،

تلد على الدّبابات المحترقة صيدا

تلد على أرصفة الشّارع صخره

يا كيسًا من رمل،

يا شجره

ثنائيّات

يقول محمود درويش ناعيًا بسيسو: 'كان معين يطرد فكرة الموت كما يطرد ذبابةً، وكان يمازحنا ويهدّدنا جميعًا بالرّثاء، كان يكره الرّثاء ويمقت المشهد الفلسطينيّ اليوميّ في طابور الموت'.

ثنائيّة الموت/ البعث راسخةٌ في قصائد المجموعة وتراث بسيسو الشّعريّ بشكلٍ عميق. يستخدم الشّاعر في ذلك أدواتٍ جماليّةً كثيرةً، منها ميثولوجيا المسيح والصّلب، 'سنسمّرك بأقلام الأطفال'، الشّهيد وعودته في الصّورة على الحائط، 'غزال صنّين'، واستمراريّة الكتابة والحياة في برقيّات القتلى في 'أكتب جسدي كي تقرأ جسدك'. ومع ثنائيّة الموت/ البعث، تظهر ثنائيّة الخيال/ الواقع، فالشّاعر يبني مشاهدَ متزاحمةً فيها شيءٌ من السّورياليّة لأعضاء جسد المقاتل الحيّة رغم كلّ شيء، تقاتل، وتكتب، وتحيا بزخمٍ أكبرَ من الحياة ذاتها؛ كأنّ القارئ أمام عالمٍ متخيّلٍ يشبه عالمنا في البيولوجيا، لكنّ الفيزياء خاصّته تتبع فضاءً كونيًّا آخر.

أشياء معين بسيسو تظلّ حاضرةً في الشّعر الفلسطينيّ؛ في جسد القصيدة الفلسطينيّة وفي شغفها النّبيل نحو حرّيّة الوطن والإنسان. شعراءُ كثيرون استفادوا من تجربة الشّاعر بسيسو، ونقّادٌ كثيرون كتبوا عنه، لكنّه لا يزال حقلًا غنيًّا بالجماليّات والأفكار والمجاز الثّوريّ الحالم بغدٍ أفضل: ما بعد بيروت وما بعد الغرف البعيدة في المنفى.     

 

التعليقات