14/06/2016 - 11:30

بين رضوى عاشور وندى عبد القادر

ربّما يكون هذا مجرّد انطباع تملّكني لأنّ ندى عبد القادر عمومًا، لم تول نفسها قدرًا كبيرًا من الحديث، واكتفت برواية سيرتها من خلال سِير الآخرين حولها، فهي لم تتكلّم كثيرًا عن الصّبيّة الّتي تساءلت في نفسها عن جدوى أحد شعارات ثورة عام 1968

بين رضوى عاشور وندى عبد القادر

رضوى عاشور

لم تكن آثار عيد الميلاد قد رحلت بعدُ عن الشّوارع والسّاحات ومحطّات السّكك الحديديّة، وكانت أصوات جوقات المنشدين لا تزال تعبق كرائحة المطر في الأسواق والميادين العامّة. وكان أسبوعي الأوّل في البيت الّذي انتقلتُ إليه حديثًا، والّذي سأتركه قريبًا. عائدًا من عملي، فتحت الباب الّذي لم أكن قد اعتدت على شكله بعد. تعسّر فتحُه بسبب الرّسالة الّتي انحشرت تحته، تناولتها، فارتسمت على وجهي ابتسامة عندما رأيت طابع بريد غريب، وحروفًا لاتينيّة لم أفهم ما تعنيه.

كانت رسالة من فلورنسا، مكتوبة باللّغة الإنجليزيّة بخطّ بديع دلّني فورًا على صاحبته، الّتي تقول بين ما تقول: لقد تذكرتُكَ  في مواضع كثيرة أثناء قراءتي هذه الرّواية، فلم أجد سببًا يمنعني عن إرسالها لك.

كانت الرّواية لرضوى عاشور، 'فرج'. ولم يكن اختيار أحد أعمال رضوى عاشور بالذّات أمرًا عابرًا، ففي إحدى المرّات، وحين كنّا في الجامعة، هي في سنتها الأولى، وأنا في سنتي الأخيرة، قرأتُ لها الجزء الأخير من 'الطّنطوريّة' في أحد المطاعم المجاورة لمحطّة الحافلات الرّئيسة في أكسفورد. لم أتمالك نفسي عن أن أعيش تمامًا الحالة الّتي أرادتها رضوى عاشور لقرّائها، بكيت...

بدأت رضوى روايتها باستدراجي إلى التّعلّق بطفلة ترتدي فستانًا أحمر، وتجلس إلى جوار أمّها الفرنسيّة في القطار، نِدًّا لا يقبل المهادنة، ثمّ تكبر لتجلس إلى جوار أبيها الّذي كان يردّد على مسامعها الشّعر ويلعب معها بالقوافي، وحين يستعصي عليها الفهم، تقول له اشرح، فيشرح.

قضت قبل ذلك سنينًا لا ترى صورته أو تسمع صوته وهو في المعتقل، تتشرّد ذاكرتها بين ما يتبقّى لها من زياراتها القليلة له في السّجن، وبين صور جمال عبد النّاصر وصوته اللَّذَيْن كانا يشكّلان وعيها جبرًا، في أسوأ طبائع الاستبداد، تلك الّتي تحتلّ دون إذن حيّزنا الحميم وتتطفّل دون أدنى تردّد على أفكارنا و حواسّنا.

تحكي ندى عبد القادر عن تجارب السّجن الّتي عاشتها مع غياب أبيها خلال طفولتها، مرورًا بتجربتها الشّخصيّة وهي في الجامعة، وانتهاءً باعتقال أخيها الصّغير. لكنّها بطريقة ما تتعامل مع الأمر كأنّه قضاء لا مفرّ منه، كالمرض الّذي علينا أن نعرف كيف نتعامل معه، دون أن نقضي وقتًا طويلًا في الإنكار والصّراخ والرّفض، أي أنّها، وبطريقة غير مباشرة، وحتّى عند حديثها عن تجربتها الشّخصيّة في مواجهة السّلطة، تتجنّب تصوير الأمر على أنّه خصومة شخصيّة بين المستَبِدِّ والمستَبَدِّ به. تحتفي بفعل الثّورة على الاستبداد، لكنّها لا تنتشي بالانتصار على السّلطة انتشاء الّذي يتشفّى بخصمه. بدا لي هذا في حديثها عن زيارتها لفرنسا عام ألف وتسعمائة و ثمانية وستّين، والّتي تزامنت مع أحداث مايو الّتي عصفت بالجمعيّة الوطنيّة وأدّت إلى عقد انتخابات برلمانيّة مبكرة، حيث أولت جزيل اهتماتها لجيرار ورفاقه، وللثّورة الّتي كانت تشتعل في قلوب الّذين كانوا يسعون إلى المستحيل المتمثّل في رسم واقعهم كما يشاؤون، لا في الانتقام من ماضيهم. كما بدا لي ذلك وهي تتحدّث عن جيلها الّذي لم تكسره عصا الدّكتاتوريّة الغليظة الّتي تسلّطت على أبيها فيما مضى، بل قرّعته عصا الدّيمقراطيّة الّتي لها أنياب أشرس من الدّكتاتوريّة، كما وصفها أنور السّادات، فترسم بذلك التّحوّل من الاستبداد بالنّاس باعتقالهم و تعذيبهم، إلى استعمار أفكارهم وقلوبهم، حتّى يصير الجميع معتقلين، خاضعين للسّجّان حتّى وهم خارج أسوار السّجن. كلّ هذا وهي تعزل خصومتها الشّخصيّة مع السّلطة الّتي لاحقتها منذ طفولتها حتّى شبابها، وهي ترى نفسها ورفاقها الّذين خرجوا بكلّ عزم لتحقيق حلم نبيل، وانتهى بهم الأمر 'كمومياومات أُخْرِجَتْ إلى الشّمس فجأة فتهاوت ترابًا.'

أو ربّما يكون هذا مجرّد انطباع تملّكني لأنّ ندى عبد القادر، عمومًا، لم تولِ نفسها قدرًا كبيرًا من الحديث،  واكتفت برواية سيرتها من خلال سِيَرِ الآخرين حولها، فهي لم تتكلّم كثيرًا عن الصّبيّة الّتي تساءلت في نفسها عن جدوى أحد شعارات ثورة عام 1968، 'لا شيء ممنوع، المنع هو الممنوع،' حين تعلّق الأمر بصداقتها لجيرار الّتي ما كان لها أن تحصل بطريقة مختلفة، ولم تتحدّث إلّا بإيجاز عن علاقتها بشاذلي، الّتي بدأت وانتهت على نحو سريع لا يخبر إلّا أنّ كثيرًا لم يقولاه لبعضهما، أو أنّ كثيرًا لم تخبرنا ندى عنه.

بين ندى عبد القادر ورضوى عاشور، تُثارُ فيَّ شجون لا أعرف متى تبدأ ومتى تنتهي. يوم وفاة رضوى عاشور قبل عامين، كم تمنيت أن أمدّ يدي إلى السّماء وأمسك بيدها وأشدّها إلينا، ليس لشعوري العميق بالحزن لوفاتها، فأنا لا أعرفها ولم ألتقيها من قبل، ولو صدفة عابرة. لكنّني أتمنّى لو أنّها لم تمت، على غير حالي مع كثيرٍ من الأدباء والشّخصيات العامّة؛ لم أكن لأنادي أيًّا منهم أو منهنّ وأطلب منه أو منها البقاء معنا لوقت أطول< لكنّني بكلّ صدق أتمنّى لو أن تُرَدَّ إلينا رضوى عاشور، لا لتكتب رواية جديدة، ولا لتحكي لنا أخبارًا خبّأتها عنا، إنّما لتعيش وحسب.

أنا أحبّ هذه السّيّدة. لكن لماذا؟ فكّرتُ مليًّا في هذا السّؤال وأنا محمول على قَضيبَيْ حديدٍ إلى لندن بريدج يوم الاثنين التّالي لوفاتها. ألأنّها كتبت أشياء رافقتني في طرق طويلة؟ أم لأنّها أسالت دموعي أكثر من مرّة وأنا أتقمّص إحدى شخصيّاتها؟ أم لأنّني بدأت قراءة سيرتها الذّاتيّة قبل ساعات قليلة من وفاتها؟ لا أحسب أنّ السّبب يكمن في هذا أو ذاك، فأنا معتاد ألّا أعتق نفسي ممّا أقرأ، وأنا أعرف جيّدًا أنّ دموعي ليست بحاجة للكثير من الألم أو الحنين حتّى تسيل. إنّ أكثر ما يشدّني إلى هذه السّيّدة أنّها امرأة عاديّة، روائيّة بارعة، لكنّها امرأة عاديّة، تصلح لأن تكون صديقة وزوجة وأمًّا. تصلح لأن تجلس مرتاحة ترى الأشياء بعينيها الحقيقيّتين وتعيش الأشياء كما هي.

التعليقات