15/06/2016 - 10:49

وديع البستانيّ: عروبيّ فرضت عليه الهاجاناه إقامة جبريّة

وكانت حكومة الانتداب قد أرسلت بقصيدة الرّصافي إلى كلّ الصّحف العربيّة في فلسطين، طالبة من محرّريها نشرها؛ لكنّ محرّر جريدة الكرمل الحيفاويّة، نجيب نصّار، الّذي استلم نسخة منها، أبى أن ينشرها إلّا بِرّدٍّ من فكر وقلم وديع البستاني.

وديع البستانيّ: عروبيّ فرضت عليه الهاجاناه إقامة جبريّة

وديع البستاني في بيته بحيفا

اتّخذ وديع البستاني، لبنانيّ المنشأ وفلسطينيّ الحياة والرّوح، من مدينة حيفا مستقرًّا له؛ فبنى بيته على الشّاطئ ليكون أمامه نحو الشّمال الغربيّ البحر الأبيض المتوسّط، وخلفه جبل الكرمل باتّجاه مقام الخضر ودير مار الياس للرّهبان الكرمليّين. بيت في أجمل موقع على طول السّاحل الفلسطينيّ، يجمع البحر والسّهل والجبل معًا.

حجم المؤامرة

يُعدّ وديع البستاني من أعمدة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في زمن الانتداب البريطانيّ، وهو المولود في بلدة الدّبيّة عام 1888 بلبنان؛ درس في الجامعة الأمريكيّة في بيروت ونال البكالوريوس في الآداب، وعمل في مهنة التّدريس زمنًا قصيرًا، ثمّ تولّى منصب التّرجمان في القنصليّة البريطانيّة في اليمن، وانتقل بعدها إلى مصر موظّفًا في وزارة الأشغال العامّة، واستفاد من وقت الفراغ بعد انتهاء الدّوام فترجم مؤلّفات اللّورد افبري المعروفة عن الإنجليزيّة، ثمّ ترجم رباعيّات عمر الخيّام. سافر بعدها إلى الهند فالتقى الشّاعر والفيلسوف رابندرانات طاغور وتأثّر بفكره. عُيّن خلال الحرب العالميّة الأولى موظّفًا في إدارة البلاد المحتلّة (فلسطين).

بلغ وديع البستانيّ يافا في نفس الشّهر الّذي صدر فيه تصريح بلفور عام 1917. وفي فلسطين بدأ يكتشف حجم المؤامرة الّتي حيكت ضدّ الشّعب الفلسطينيّ، فقدّم استقالته مباشرة والتحق بصفوف المدافعين عن فلسطين وشعبها، فدرس الحقوق وفتح مكتبًا للمحاماة في حيفا، حيث قدّم خدمات جليلة في الدّفاع عن قضايا الأراضي بوجه خاصّ، في وجه المطامع الصّهيونيّة ومن يقف خلفها من حكومة الانتداب وحكومة لندن.

إلى جانب عمله المهنيّ، شارك البستانيّ في معظم المؤتمرات والمؤسّسات والهيئات الوطنيّة الفلسطينيّة،  ووضع مجموعة كبيرة من المؤلّفات، أبرزها: الانتداب الفلسطينيّ باطل ومحال؛ رباعيّات عمر الخيّام؛ الرّامايانا؛ المهبراتا؛ ديوان الفلسطينيّات؛ ترجمة لكتاب فرنسيس إميلي نيوتن بعنوان: خمسون عامًا في فلسطين.

الخلافة العربيّة

ومن بين الجوانب المميّزة الّتي برز فيها، نقده اللّاذع والمباشر لكلّ ما هو مخالف للوطنيّة، وما هو منافٍ للحركة القوميّة العربية؛ وقد وقف جبلًا صامدًا ومنيعًا تجاه كلّ من وقع في كمائن الحركة الصّهيونيّة ومفاتنها، وعبّر عن عروبته الصّافية بأبيات وقصائد شعريّة مميّزة. كما حذّر البستانيّ من الارتماء في أحضان الحكومات الغربيّة لأنّها تعمل على ضمان مصالحها وليس مصالح العرب. ففي قصيدة تحمل عنوان 'الخلافة العربيّة' كتب:

عـلـى الأتـراكِ أعلنّـا جـهـادًا *** وبايعْنا الشّريفَ لـنـا خـلـيـفـة

أردْنـاهُ لملـكِ العـربِ قصـرًا *** مِـنَ الشُّـمِّ الممــرّدةِ المنيـفـة

ولمّا راحَ 'بيتُ الوعدِ' يُبنى *** نقضْنا حُجدةَ القـومِ السّخيفـة

وقـمْـنـا حـولَهـا وبِـنـا سـؤالٌ *** تُـردّدُهُ عقـيـدتُـنـا الضّعـيـفـة:

أقصرًا في الهوا أمْ بيتَ شعرٍ *** ستبني للشّريفِ يـدُ الحلـيـفـة!

أم كِذابٌ من الشّعرِ؟!

أمّا موقفُهُ الواضحُ من 'المطبّعين' مع قيادات الصّهيونيّة، فعبّر عنه في قصيدة ردّ فيها على قصيدة لمعروف الرّصافيّ، شاعر العراق الكبير، الّذي حضر حفلًا فيه المندوب السّامي البريطانيّ، هربرت صموئيل، ورئيس بلديّة القدس، راغب النّشاشيبيّ، وزعماء من الحركة الصّهيونيّة. وكانت حكومة الانتداب قد أرسلت بقصيدة الرّصافي إلى كلّ الصّحف العربيّة في فلسطين، طالبة من محرّريها نشرها؛ لكنّ محرّر جريدة الكرمل الحيفاويّة، نجيب نصّار، الّذي استلم نسخة منها، أبى أن ينشرها إلّا بِرّدٍّ من فكر وقلم وديع البستاني؛ وقد هزّ الرّدّ ليس فقط فلسطين، بل عدّة أقطار في الوطن العربيّ.

وديع البستاني وزوجته وابنته وكلبته وكناره في بيته بحيفا

جاء في مطلع قصيدة الرّصافي:

خطـابُ يـهــودا قـدْ دعـانـا إلـى الفـكـرِ *** وذِكْـرُنــا مــا نـحــنُ مـنْــهُ عـلـى ذِكْـرِ

حَــنــانَــيْــكَ يـــا هربـــرُ صـمـوئـيـــلُ *** على الدّهرِ مِنْ حقٍّ مُضـاعٍ ومـنْ وِتْـرِ

ولـسْـنــا كـمـا قــالَ الأُلـى يتّـهـمــونَـنـا *** نعادي 'بني إِسْرالَ' في السّرِّ والجهـرِ

وكـيـفَ وهـم أبـنـاءُ أعمـامِـنـا وإلـيـهِـم *** يـمُـتُّ بـإسـمـاعـيـلَ قـدمًـا بـنـو فِــهْــرِ

وإنّـي أرى العـربـيَّ للعـربِ ينــتــمــي *** قريبًا مِنَ العبـريِّ ينـمـي إلـى الـعُــبْــرِ

وها أنـا قـبـلَ القـومِ قـدْ جـئـتُ مُـعْـلِـنًـا *** لكَ الشّكرَ حتّـى أمـلأَ الأرضَ بالشّـكـرِ

أمّا ردّ البستانيّ فكان:

خطابُ 'يهودا' أمْ عُجابٌ مِنَ السّحرِ! *** وقولُ الرّصافيِّ أمْ كِذابٌ مِنَ الشّعـرِ؟!

قـريـضُــكَ مِـــنْ درِّ الـكــلامِ فــرائـــدٌ *** وأنــتَ بـبـحـرِ الشّـعـرِ أعـلــمُ بـالــدُّرِّ

ولكـنْ هـذا الـبـحــرُ بـحـــرُ سـيـاســـةٍ *** إذا مــدَّ فــيــهِ الـحــقُّ آذنَ بـالـجـــزرِ

أجلْ، عابرُ الأردنِّ كــانَ ابــنَ عـمِّـنــا *** ولكنّنـا نـرتــابُ فــي عـابـرِ البـحـــرِ

أيـهــجــــرُ أوروبّـــا لـيـبـنــي بـيـتَــــهُ *** على قبّةٍ ما بـيـنَ مـهـديَ والـقـبـــرِ؟!

ياسمينة ليلى

شهد البستانيّ معركة حيفا وسقوطها بيد الهاغاناه وما اقترفته من جرائم بحقّ فلسطين وشعبها، وهاله عظم المآسي الّتي حلّت بأبناء مدينته حيفا، وهو المدافع عنها وعن شعبها مدّة ثلاثين عامًا، فالتزم بيته ولم يغادره، ودخلته عناصر من الهاغاناه ووطّنت بعض أُسَرِ المستوطنين المهاجرين في شقق العمارة الّتي بناها بنفسه. وُضع أبو فؤاد (كنية البستانيّ) تحت الرّقابة ومُنِعَ من التّحرّك مدّة طويلة، أمّا أبناؤه، فكان قد أرسلهم إلى بيروت علّ الأحوال تهدأ، لكنّا لم تهدأ حتّى اليوم. لم يتأقلم البستانيّ مع الحالة السّياسيّة والإداريّة الجديدة الّتي حلّت على وطنه، فترك حيفا عائدًا إلى بيروت عام 1953، لكنّ الموت خطفه مطلع عام 1954، في القرية الّتي وُلِدَ فيها.

كانت حسرة النّكبة والمآسي الّتي شهدها، والظّلم والقمع الّذي لَحِقَ بشعبه في فلسطين، وخسارته لمحبوبته حيفا، ذات أثر كبير في نفسه، فقال مخاطبًا ياسمينة زرعتها ابنته ليلى في ساحة بيته بحيفا:

يا ياسـمـينـةَ لـيـلـى *** يا سلوتي فـي نـواهـا

نوّرتِ لـي بـسـمـاتٍ *** ضحّاكـةً فـي لمـاهـا 

هـذي جـنـايـةُ حـــرٍّ *** لم يدرِ كيفَ جنـاهـا

أبـاكِ يـرى ثـراهــا *** دمعًا دمًا لا مـيـاهـا

غنّى العروبةَ عُمْرًا *** وعاشَ حتّى رثاها

التعليقات