31/05/2019 - 21:00

ليلة طويلة جدًّا

ليلة طويلة جدًّا

أليس رادينوفيك

 

"تصبحين على خير"، أجبتها بلغة عبريّة ساذجة، ثمّ أسرعتُ بتحريك جسدي إلى الناحية الأخرى لمحادثة نفسي بعد عناء سفر طويل.

ماذا أفعل هنا؟ هل يعقل أنّ الفتاة الّتي تنام على بُعد سنتمترات منّي إسرائيليّة؟ هل رميت مئة سنة من الاحتلال مقابل جولة تعليميّة في أوروبّا مدفوعة التكاليف من قِبَل الجامعة؟ هل أنا ممّن سوف يطلقون عليهم اسم "المطبّعين العرب"؟ هل سينشرون الصور لفتاة فلسطينيّة ذات حجاب بين جمع من الطلّاب الإسرائيليّين؟ لماذا لم أفكّر في ذلك حين كتبت رسالة طويلة لإقناع الجامعة بأسباب حماستي للسفر؟ لا أفكّر عادةً في السياسة، لكنّي لم أكن قطّ من أصدقاء الاحتلال. لطالما ردّدت هذه الكلمات سرًّا وعلانية، مقنعة نفسي إلى حدّ ما بمصداقيّتها.

وقعت عيناي بغتة على حذائي القابع بزاوية الغرفة. تذكّرت حينئذٍ كيف أنّني اشتريته من أحد المتاجر الإسرائيليّة الإلكترونيّة، بسعر أرخص من المحلّات التجاريّة في المدينة. كنت سعيدة لاقتنائه بهذا السعر الزهيد، هذا إضافة إلى إمكانيّة التوصيل المجّانيّ حتّى باب المنزل دون عناء الذهاب إلى السوق. حوّلت نظري إلى السترة الصوفيّة الملقاة على الكرسيّ. تذكّرت أنّني اشتريتها من "بسطة ملابس" داخل الحرم الجامعيّ. خلال ثوانٍ معدودة كانت العجوز العبريّة قد أقنعتني بصوتها العالي النبرة وبابتسامة. لم يكن لديّ وقت لأشكّ في صدقها، بجمال السترة وملاءمتها مع لون حجاب الرأس الّذي أضعه. ورغم عدم امتلاكي النقود، وجدت نفسي أُخرج بطاقة الاعتماد، موقّعة وصل الدفع، مكمّلة طريقي إلى محاضرة بعنوان "معاداة الساميّة".

أغمضت عينيّ مطرقةً السمع لصوت أنفاس الفتاة النائمة بجانبي، وسألت نفسي مجدّدًا:

أيُعقل أنّني غارقة في التطبيع إلى درجة سلبت منّي شعوري بالذنب؟ أخذت بتفحّص الغرفة، فإذا بسلسلة ذهبيّة، قد تعلّقت بآخرها النجمة السداسيّة المعهودة، ملقاة بإهمال على الطاولة الوحيدة في الغرفة. تملّكتني صدمة خفيفة ازداد أثرها بارتجاج هاتفي فجأة. مددت يدي تحت الوسادة لسحب هاتفي النقّال؛ فقد وصلتني رسالة صوتيّة من زميلي أليشع، الّذي يشاركني إحدى المحاضرات في الجامعة، يُطمئنني بأنّه قد أتمّ كتابة المناظرة القانونيّة، وليس عليّ سوى قراءة الادّعاءات يوم العرض.

ابتسمت لنفسي وقلت: كم هو لطيف أليشع! لقد أعفاني من مهمّة قراءة مقالات طويلة لقوانين صيغت بلغة جهنّميّة.

تقلّبت في السرير كثيرًا. عُدت أسأل نفسي: "يا ترى، أما زالت الفتاة بجانبي مستيقظة؟ هل تراودها نفس أفكاري، أو لربّما ورد بخاطرها محاولتي لاغتيالها؟". تذكّرت حينئذٍ كم كانت هذه الفتاة لطيفة معي، رغم عدم تبادلنا الحديث مطلقًا في أثناء المحاضرات. كانت دائمة التبسّم في وجهي لسبب أجهله، وكانت تهمس لي بكلمات الحظّ الجيّد، في كلّ مرّة أقف فيها أمام الطلّاب، لأعرض رأيي المرتبك بلغة عبريّة مرتبكة يفهمها معظمهم ما عداي.

مرّت في خاطري لمحات من سنوات ماضية عملت فيها جاهدةً على تعلّم هذه اللغة، لكن دائمًا ما كان ثمّة شعور خفيّ بالخيانة يطفو فورًا عند استمتاعي بالتطوّر في صياغة الكلمات، فما انفكّ يعيق كسر حاجز التوتّر. تذكّرت كم ساعدتني معلّمة اللغة شيرا بشكل جدّيّ في ممارسة اللغة، حين كنّا نلتقي في مقهى الجامعة، نتحدّث في أمور الحياة. يبدو أنّ نميمتي العفويّة عن هذا وذاك واهتمامها بالاختلافات الدينيّة والاجتماعيّة قد جذبا اهتمامها؛ فأصبحنا نلتقي بشكل منتظم حتّى نهاية السنة الدراسيّة.

ذكّرت نفسي بضرورة شكرها؛ فقد حصلتُ على منحة دراسيّة بفضل رسالة توصية منها. يا للمفارقة الحزينة! فقد طلبت هذه التوصية من أساتذتي في الجامعة الّتي حصلت منها على لقبي الأوّل، وعلى الرغم من تفوّقي الدراسيّ آنذاك، لكنّ الرفض كان حليفي بحجّة أنّهم لا يستطيعون مراسلة جامعات الاحتلال تحت شعار "لا للتطبيع".  

طبعًا، لم أخبر زميلي أحمد بحصولي على المنحة، فأنا متأكّدة من أنّه سوف يُحدث في رأسي صدعًا بأسئلته اللائمة عن كيفيّة الحصول على هذه المنحة، وسبب عدم إخباره بهذه الفرصة، لكنّي متأكّدة من أنّ تبريراتي لن تعجب ذوقه الخاصّ. يا له من سمج! رغم أنّه الطالب العربيّ الوحيد الّذي يشاركني مقاعد الدراسة. عندما التقيته أوّل مرّة عرّفني على نفسه، فوجدته هديّة الله في هذا العالم الّذي تضيق عليّ غرفه رغم اتّساعها، ورفيق هذا الصرح الّذي أشعر فيه بالغربة، رغم سماع أذان المسجد الأقصى من قلب ساحاته. لكن مع مرور الأيّام، شعرت بأنّه يستغلّ عاطفة العروبة الّتي بيننا لنسخ الأبحاث والامتحانات.

علا فجأة شخير الفتاة الّتي بجانبي، فأدركت عندئذٍ أنّها مستغرقة بالنوم، ولا شيء ممّا يدور في خاطري قد أرّق مُقلتَيها. تقلّبت في السرير ثمّ أغمضت عينيّ مسترجعة الأحداث الّتي رافقتني صباح هذا اليوم، بدءًا من احتجازي لمدّة ساعة كاملة في المطار، والتفتيش المهين من قِبَل موظّفة إسرائيليّة ذات لكنة فرنسيّة لا تخفي ملامحها الإفريقيّة، ومع كلّ محاولات إقناعها بأنّني طالبة مسافرة في رحلة تعليميّة مع جمع كبير من الطلّاب الإسرائيليّين، إلّا أنّ لكنتي العربيّة وحجابي الأبيض ووثيقة السفر المؤقّتة لم تجعل الأمر سهلًا قطّ. أخذت ألعنها وألعن دولتها في سرّي، خوفًا من أن يفضح صوتي سخطي. بالطبع لم ينسوا إلصاق رقم 6 على جواز سفري، الّذي يُشير إلى أقصى درجات التفتيش عند كلّ محطّة في المطار، حتّى أنّهم لاحقوني وأنا أخطو باتّجاه باب الطائرة. أحسست بنظرات الركّاب الحارقة متوجّهة إليّ متسائلة عن سبب إيقافي، فبدأت بالتعرّق من شدّة الإحراج. لمحت عددًا من زملائي المشفقين عليّ ينتظرونني عند مدخل الطائرة لحظة تحريري من أيدي الموظّفين. أخذ بعضهم بالتهوين عليّ بأنّ هذه إجراءات عاديّة ليس لها أيّ صلة بالعرق أو الدين أو القوميّة، بل بشركة الطيران. لم أدرِ إن كانوا يبرّرون لأنفسهم أو لي. بحثت عن مقعدي في الطائرة متمنّية أن أغمض عينيّ علّي أنسى السويعات السابقة.

تجوّلت في أرجاء الغرفة لأبحث عن بطّانيّة إضافيّة؛ فالطقس بارد ولا يوجد نظام تدفئة، فلم أجد شيئًا. عدت إلى سريري، ثمّ تناولت كتابًا كنت قد بدأت بقراءته في الطائرة، لكنّني لم أفلح إلّا بقراءة بضع صفحات، فقد استغرقت في الحديث مع زميلتي تمارا الّتي كانت جالسة بجانبي في الطائرة. أخبرتني بأنّها هاجرت أخيرًا إلى إسرائيل. أثار انتباهي وجهها الأسمر، الّذي يشبه ملامح الكثير من الفتيات العربيّات إلى حدّ لا يتناسب مع لكنتها الروسيّة الطاغية، فسألتها: "من أيّ البلاد أنت؟" فأجابتني: "من تركمانستان". رفعت حاجبيّ متفاجئة، ثمّ سألتها عن سبب هجرتها، فاعترفت بأنّ وضع عائلتها المادّيّ سيّئ ولا تستطيع دفع تكاليف التعليم، فتذكّرت أصولها اليهوديّة ودولتها إسرائيل الّتي تتكفّل بتأمين كلّ ما يحتاج إليه المهاجرون الجدد. دفعني الفضول إلى سؤالها إن كانت تمارس الطقوس اليهوديّة، فأومأت بالنفي؛ فلا وجود لمجتمع يهوديّ في بلدها المنشأ، فوالدها مسلم، وأمّها يهوديّة، أمّا هي فلا تؤمن بوجود الخالق!

تردّد حديثها في رأسي، هل فتاة تركمانستانيّة تتعثّر في تحدُّث العبريّة، حصلت على كامل حقوقها كمواطنة يهوديّة، خلال أسابيع معدودة من وصولها إلى "أرض الميعاد"، ونحن - أصحاب الأرض - ننتظر شهورًا غير معدودة لحجز موعد في وزارة الداخليّة، لتغيير وضع الحالة الشخصيّة أو تجديد وثيقة السفر أو حتّى إضافة عنوان الصندوق البريديّ؟ تذكّرت حينئذٍ أنّني حتّى الآن لم أغيّر حالتي الشخصيّة إلى متزوّجة!

أخفيت وجهي تحت البطّانيّة؛ فقد هبّت نسمات هواء باردة من نافذة الغرفة. أمسكت هاتفي مجدّدًا لتصفّح الفيسبوك، فلاحظت وجود رسالة نصّيّة معلّقة. فتحتها فإذا هي من شارون، إحدى زميلاتي المرافقات لي في الرحلة ترسل إليّ تحيّة، فأجبتها: "أهلًا".

ردّت عليّ فورًا وكأنّها تنتظر إجابتي: "أما زلت مستيقظة؟".

أجبتها: "نعم".

سألتني: "أنا في البهو السفليّ، أيمكننا شرب الشاي معًا؟".

لم أفكّر طويلًا، فأجبتها: "لا مانع، فأنا لا أستطيع النوم".

قابلتها في الطابق الأرضيّ، وقد كانت بالفعل قد حضّرت الشاي. كان برفقتها زميلة أخرى لنا اسمها رونيت. ألقتا عليّ التحيّة، ثمّ جلسنا نتحدّث عن الرحلة والجامعة والكثير من الأمور الحياتيّة.

أخبرتني رونيت بأنّها من أصول عربيّة؛ فوالدها من حلب وأمّها من طبريّا. سألتها إن كانت تجيد العربيّة، فهزّت رأسها بالنفي رغم إجادتها لأربع لغات أخرى. فكّرت لوهلة: "لماذا معظم الوافدين إلى إسرائيل من مختلف الدول يحافظون على عاداتهم ولغاتهم، ويحرصون على تعليمها لأبنائهم، عدا القادمين من دول عربيّة، وكأنّهم يحاولون دثر جنسيّاتهم العربيّة ويفضّلون إخفاءها؟ فالفتاة الّتي تشاركني الغرفة أيضًا من أصول مغربيّة، لكنّها لا تميّز بين الصاد والضاد".

سرحت بعيدًا عن حديث الفتاتين محدّثة نفسي مجدّدًا: "بالفعل، إلامَ يحتاج أبناء العمّ من العربيّة عدا الشتائم وكلمة ’والله‘؟".

شعرت بسكون غريب، فإذا بالفتاتين تنظران باتّجاهي، توجّهان إليّ سؤالًا لم أسمعه، فاعتذرت عن سرحاني ضاحكة.

أكملنا حديثًا روتينيًّا مليئًا بالتثاؤب، قطعته رونيت مستأذنة للذهاب للنوم، فبقيت وحدي مع شارون.

باشرتني بسؤال مباغت: "هل أنتِ متزوّجة؟".

أومأت برأسي بالإيجاب، فأضافت بتلقائيّة: "أبحث عن فتاة للزواج".

شعرت بثقل في رأسي، فلم أستطع التمييز إن كانت قالت "فتاة" أو "فتًى"، ففي اللغة العبريّة الفرق بين الكلمتين لا يزيد على حرف في نهاية كلمة "فتاة"، فلم أصدّق أذنيّ.

تابعت لتُؤكِّد شكوكي: "أخاف من الحياة الزوجيّة رغم أنّني أبحث عن فتاة مناسبة، حبّذا لو كانت عربيّة. أتعلمين؟ لم أقابل حتّى الآن فتاة فلسطينيّة مثليّة الميول. أتساءل إن كنت تستطيعين مساعدتي!".

ردّدت في ذهني: "اكتملت الصورة الآن!"، تحشرج صوتي فافتعلت سعالًا: "أنت تعرفين أنّ هذا الأمر غير مقبول دينيًّا ولا اجتماعيًّا لدينا؛ لذلك لا أعتقد أنّك سوف تقابلين فتاة فلسطينيّة تناسب ميولك، عدا الموقف السياسيّ، سوف يجعل الأمر مستبعدًا جدًّا".

صفعتني بقولها: "لا تقلقي، أنا متأكّدة من أنّها مسألة وقت، فسوف تصبح المثليّة مقبولة في كلّ مكان. أمّا الوضع السياسيّ فهو الداعم الأكبر لها، فقد جعلت منّا شعبًا واحدًا، أليس كذلك؟".

تجمّدت الحروف في فمي فلم أستطع الردّ. ابتسمت لها: "لا بدّ من أن نخلد في النوم، فغدًا ينتظرنا يوم شاقّ، ألم تلقي نظرة على مسار الرحلة؟"، وافقتني بنفثة دخان من سيجارتها.

صعدت إلى غرفتي مرهقة. ضبطت منبّه الهاتف على موعد الإفطار، فثمّة سويعات قليلة للنوم، لكنّ مفعول النسكافيه الّذي احتسيته مساء كان لا يزال ساريًا، فعدت أحادث نفسي مجدّدًا: "ماذا أفعل هنا؟". 

اهتزّ هاتفي النقّال مجدّدًا، فإذا به اتّصال من زوجي. أخذت نفسًا عميقًا وقلت: "ما أطول هذه الليلة!"، حاولت خفض صوتي حتّى لا أزعج شريكتي في الغرفة، فسألته بعد التحيّة: "لماذا ما زلت مستيقظًا؟"، أجابني بضيق: "بعوضة تحلّق حولي منذ أن وضعت رأسي على الوسادة. وأنتِ؟".

لم أدرِ بماذا أجيبه، فسكتّ.

تابع كلامه متحمّسًا: "هل تعلمين؟ توجد تنزيلات هائلة في محلّات فوكس. اشتريت الكثير من الجوارب والملابس الداخليّة لكلينا".

ابتسمت لنفسي ابتسامة واهنة، وطأطأت رأسي مجيبة: "حتّى ملابسي الداخليّة!"

 

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ بعنوان "حَبْكَة"، بالتعاون بين فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ومركز خليل السكاكينيّ.

 

مجدل الهندي

 

حاصلة على البكالوريوس في المحاسبة من "جامعة بير زيت"، والماجستير في الدراسات الأوروبّيّة من "الجامعة العبريّة" في القدس. بدأت الكتابة في المرحلة الإعداديّة من المدرسة، وشاركت مرّات عدّة في مسابقات للقصّة القصيرة. فازت قصّتها "سجن أزليّ" في "مسابقة جمعيّة الرازيّ" في عام 2007.

 

 

التعليقات