05/07/2019 - 14:37

مثل مونولوج طويل: أمجد ناصر في "حيث لا تسقط الأمطار"

مثل مونولوج طويل: أمجد ناصر في

Hannibal

 

الكاتب والأجناس

ما إن يبدأ المرء بقراءة رواية الكاتب الأردنيّ أمجد ناصر، "حيث لا تسقط الأمطار" (الآداب، 2016)، حتّى يثير الأسئلة الّتي يثيرها الكاتب.

يتوقّف ناصر أمام تجربته الشخصيّة في الكتابة، وهي تجربة عدد لا بأس به من الشعراء العرب، الّذين كتبوا لاحقًا في أجناس أدبيّة أخرى غير الشعر، وبخاصّة الرواية، وقد شكّل تحوُّل الشعراء إلى فنّ الرواية ظاهرة لافتة، لم تكن لتثير الانتباه في سبعينات القرن العشرين.

كانت الظاهرة اللافتة حتّى التاريخ المشار إليه، أن يكتب الشاعر سيرته أو تجربته، أو أن يتحوّل من كتابة القصّة القصيرة إلى كتابة الرواية أو العكس. اضطرّ نجيب محفوظ إلى أن يكتب القصّة القصيرة؛ لأنّه لم يجد في بداية حياته ناشرًا ينشر له رواياته، وعلى النقيض له كان جبرا إبراهيم جبرا؛ فقد تحوّل من كتابة القصّة القصيرة إلى كتابة الرواية، ولم يكتفِ بذلك؛ فقد حثّ الكتّاب على هجر القصّة القصيرة إلى الرواية، وطبّق ذلك؛ فلم ينشر بعد مجموعته القصصيّة الأولى "عرق وقصص أخرى" (1956)، أيّ مجموعة قصصيّة.

 

غلاف الرواية

 

يُعَدّ الشاعر الفلسطينيّ محمّد العدناني، أوّل مَنْ كتب الرواية إلى جانب الشعر، لكن الرواية الّتي كتبها كانت أقرب إلى سيرة ذاتيّة جزئيّة، بعنوان "في السرير" (1946)، كتب فيها عن مرضه ورحلة شفائه، كتب عن القدس، والقاهرة، وبرلين وحياته فيها. كان محمّد العدناني الكاتب والسارد والشخصيّة؛ فبطله طريف هو محمّد نفسه، ويمكن قول الشيء نفسه عن رواية أمجد ناصر "حيث لا تسقط الأمطار" (2010)، وما يختلف أنّ أمجد يقصّ عن حياته كلّها، لا عن فترة جزئيّة محدودة، وبأسلوب مختلف كلّيًّا يذكّرنا بأسلوب محمود درويش في "يوميّات الحزن العاديّ" (1973)، و"في حضرة الغياب" (2007)، وبأسلوب معين بسيسو أيضًا في "دفاتر فلسطينيّة" (1978).

 

كنتَ شاعرًا من قبل

في صفحات مبكّرة من الرواية يقف أمجد أمام تجربته؛ فيكتب: "كنت شاعرًا من قبل، لم تعد تعرف - على ما يبدو - ما الشعر، ولا كيف يُكتب. صرت كاتب مقالات وسِيَر، لم تقطع حبل السرّة مع حيرة الشعر وارتباكه حيال العالم. بعض ما تكتب شخصيّ، بعضه عامّ، رغم صعوبة فصلك بين الخاصّ والعامّ. لا تصنّف ما تكتب، لكنّك تعتقد أنّك تكتب إلى جانب السير مقالات شعريّة. هذه تسمية غير معروفة في الساحة الأدبيّة، ويصعب الاعتراف بغرابتها؛ لذلك لا تصرّح بها".

وما ورد في الفقرة السابقة الّتي نحن فيها أمام مخاطِب ومخاطَب معًا - أي اسم فاعل واسم مفعول - أمام أنا وأنت، هي في النهاية ذات منشطرة لشخص واحد، تتّخذ في نهاية الرواية شكلًا آخر في الأسلوب، هو السرد بضمير الغائب، حيث يقصّ أنا عن أناه في شبابها بضمير الـ "هو". ما ورد في الفقرة السابقة يلفت الانتباه إلى الآتي:

تحوّل الشاعر إلى كتابة أجناس أدبيّة أخرى، "كنت شاعرًا من قبل".

- إشكاليّة تجنيس الكتّاب لما يكتبون، وحيرتهم فيه، "لا تصنّف ما تكتب... الحقيقة أنّ التصنيف لا يعنيك"  .
- السعي إلى كتابة مختلفة، "هذه تسمية غير معروفة في الساحة الأدبيّة".

- عدم الفصل بين الشخصيّ والعامّ في الكتابة، "بعض ما تكتب شخصيّ، بعضه عامّ".

 

أماكن افتراضيّة

ولا شكّ في أنّ كلّ قارئ كان يتابع ما يكتبه أمجد ناصر، وكان يتابع في الوقت ذاته أخباره وحياته، ولو متابعة عابرة، لا يحتاج إلى كبير جهد ليتوصّل إلى أنّ أمجد ناصر في "حيث لا تسقط الأمطار" يكتب سيرته، وأنّ كلّ ما ورد في الكتاب، الّذي صنّفه على صفحة الغلاف على أنّه رواية، سيرة ذاتيّة روائيّة.

تخلو "حيث لا تسقط الأمطار" من تحديد بقعة جغرافيّة معيّنة لها ذكر على الخريطة، ونحن فيها نقرأ عن أماكن افتراضيّة، تلمح ولا تصرّح، ويبدو أنّ ذلك يعود إلى عودة الشخصيّة، بعد عشرين عامًا، إلى مكانها الأوّل "الحامية"؛ المكان الّذي غادرته هربًا وفرارًا لأنّها كانت على صلة بمحاولة اغتيال آمر الحامية، "الحفيد".

 

أمجد ناصر

 

تهرب الشخصيّة المخاطبة المسرود عنها من الحامية إلى "المدينة المطلّة على البحر"، وحين تحاصَر هذه، ويخرج منها، يذهب إلى "جزيرة الشمس"، وحين يشدّد عليه وعلى غيره من أصحابه فيها، يغادر إلى "المدينة الرماديّة والحمراء"، وأحيانًا يذهب إلى "مدينة السندباد"، ويتجوّل في هذا العالم كثيرًا، ويزور مدنًا عديدة.

إنّ رحلة الشخصيّة في هذه المدن وإقامتها فيها، تقول لمَنْ يعرف أمجد إنّه يكتب عن الأردنّ/ الحامية، وبيروت/ المدينة المطلّة على البحر، وقبرص/ جزيرة الشمس، ولندن/ المدينة الرماديّة والحمراء، وبغداد/ مدينة السندباد. ويستطيع المرء اكتشاف أسماء أماكن أخرى عديدة داخل "الحامية"، ولربّما تساءل المرء هنا عن جدوى الرمز السريع الحلّ والاكتشاف، والمُشير إلى أماكن معروفة لسكّان الحامية.

هل أراد ناصر في تلميحه وعدم تصريحه، ألّا يضع نفسه في موضع المساءلة، حال عودته إلى الحامية؟

في "حيث لا تسقط الأمطار" كتابة واضحة عن التغيّرات الّتي تلمّ بالحامية؛ فالكتب الّتي كانت تُمنع وتُصادَر ويُعاقَب مقتنوها، وهي الكتب الفكريّة والسياسيّة المناهضة للحفيد والحامية، غدت منتشرة وسُمِح لها بالتوزيع، وصار قرّاؤها مُرَحَّبًا بهم من الحفيد وأتباعه، بل إنّهم صاروا مطلوبين ليصبحوا مستشارين وأنصارًا، وأصدقاء الأمس الّذين كانوا أصدقاء للحفيد، وكانت كتبهم تُباع علنًا في المكتبات، صاروا أعداء اليوم، وغدوا يشكّلون خطرًا على الحفيد؛ كأنّك تقرأ عن موطن أمجد ناصر - أعني الأردنّ - وعن تجربته الشخصيّة تمامًا.

في روايته "شرق المتوسّط"، جعل عبد الرحمن منيف فضاء الشرق غير محدَّد؛ لقد كتب عن شرق المتوسّط دون أن يحدّد مكانًا، ودون أن يلمّح تلميحًا قابلًا للاكتشاف بسهولة، لكنّه حين كتب عن غرب المتوسّط كتب عن أماكن ومدن محدَّدة، فذكر باريس ومدنًا أخرى، واختلف ناصر اختلافًا بيّنًا عن منيف.

 

انشطار

كما لو أنّ الرواية الّتي مزجت بين غير ضمير واحد في السرد، هي في أكثرها مونولوج طويل كتبه أمجد في حالة انفعال، مسجِّلًا من خلاله ما يعتمل في نفسه، في لحظات صدق ومصارحة مع الذات، وأعتقد أنّ ما دونه لم يُعِد النظر فيه كثيرًا؛ ليضيف ويحذف ويهندس ما يتناسب وجنس الرواية. ويقرّ المخاطِب/ المخاطَب بشيء من هذا، ويصارح قرّاءه بموقفه من الكتابة والنشر: 

"مشكلتك أنّك كلّما كتبت شيئًا سارعت إلى نشره، وخاصّة في أثناء عملك في الصحف والمجلّات، وهذه - لمن لا يعرف - مطحنة لا تتوقّف عن الدوران، تطحن الغثّ والسمين على السواء، كما أنّك عجول؛ العجلة طبع متأصّل فيك".

 

 

عودة ابن الحامية إليها بعد عشرين عامًا، تجعل منه شخصين مختلفين: الشخص الّذي كان قبل عشرين عامًا، والشخص الّذي صار بعد عشرين عامًا. وهكذا ينشطر أدهم جابر/ أمجد ناصر إلى شخصين: الّذي كان والّذي صار، ويقصّ من خلال ضمير الـ "هو" عن الشخص الّذي كان، فتتغيّر طريقة السرد كلّيًّا، وهنا يتذكّر المرء تجربة محمود درويش، الّتي عبّر عنها في قصيدته "في بيت أمّي"، الّتي ظهرت في ديوانه "لا تعتذر عمّا فعلت".

يزور محمود درويش بيت أمّه بعد غياب ربع قرن؛ فيلحظ صورته وهو شابّ، معلّقةً على الجدار، ويخاطب مَنْ في الصورة الزائر الضيف:

" -أأنت يا ضيفي، أنا؟

فمَنْ منّا تجرّد من ملامحه؟".

و"حيث لا تسقط الأمطار" في قسمها الأخير، تسير على خطى القصيدة.

 

 

د. عادل الأسطة

 

 

أستاذ جامعيّ وباحث. حاصل على الدكتوراه من جامعة BAMBERG في ألمانيا عام 1991. يكتب المقالة في الصحافة الفلسطينيّة والعربيّة. أصدر العديد من الكتب، منها: 'جداريّة محمود درويش وصلتها بأشعاره'، و'الصوت والصدى: مظفّر النوّاب وحضوره في الأرض المحتلّة'. يكتب القصّة القصيرة والرواية ويهتمّ بدراستهما.

 

 

التعليقات