08/12/2019 - 16:52

لفتة إلى زمن حيوانيّ جميل

لفتة إلى زمن حيوانيّ جميل

 

كنت شاهدًا مرّة على موت واحد من الخيول، على حزن صاحبها تحديدًا. لطالما اعتقدت أنّ موت الحيوانات لا يعني شيئًا لأصحابها، إلى أن رأيت فجيعة مجسّمة في عينَي الرجل على حيوانه. جلس الرجل إلى جانب جثّة الحصان الممدّدة في الشارع، صامتًا ومصدومًا ويبكي، لم أفهم ما الّذي يحدث، لكنّي عرفت خطورة أن ينظر إليك حيوان بعَينين وادعتين أو هانئتين أو حتّى متسائلتين؛ لن تنجو منه ومن عواطفك تجاهه أبدًا، يصير منك، ويذوب فيك، في قلبك تحديدًا. في تلك النظرات شيء من الأطفال ومن قلوبهم ومن بلاهتهم اللذيذة، وقد بدأت أفهم ذلك حين صار لديّ أطفال ينظرون إليّ تلك النظرات. أخطر ما في الحيوانات أنّها تظلّ طفلة، لا تشيب روحها أبدًا، يتوقّف زمان روحها عند تلك النقطة الّتي يريد البشريّ من الأشياء أن تتوقّف عندها؛ لهذا السبب يكون موتها جارحًا بعمق، وحارقًا بقسوة.

بدأت علاقتي بالكلاب طفلًا، في حيّنا، في الانتفاضة الأولى تحديدًا، اقتنى أحد الجيران كلبًا كبيرًا وشرسًا وذكيًّا، لم يؤذِ أحدًا من الأطفال أو المارّة، لكنّه عندما كان جيش الاحتلال يوشك أن يقترب من الحيّ لاعتقال أحد المطلوبين، كان يملأ الدنيا نباحًا ونداءً؛ فاكتشف الجيش خطورة أن يكون ثمّة كلب بهذا الذكاء هنا، فقرّروا اغتياله!

عرفت خطورة أن ينظر إليك حيوان بعَينين وادعتين أو هانئتين أو حتّى متسائلتين؛ لن تنجو منه ومن عواطفك تجاهه أبدًا، يصير منك، ويذوب فيك، في قلبك تحديدًا

في ليلة الاغتيال، وبينما كان الجيش يتسلّل على رؤوس الأصابع مثل اللصوص والقتلة وقطّاع الطرق، كان الكلب مربوطًا كعادته على سطوح المنزل في الزقاق الغربيّ من المدينة، ولعلّها كانت تلك اللحظة هي الأولى الّتي يلعن الكلب فيها رباطه الوثيق، مدركًا أنْ لا مجال للهرب أو النجاة. نبح الكلب طويلًا، لم يعلم أحد ساعتئذٍ، أكان هذا النباح تحذيرًا اعتياديًّا من الجيش المتسلّل على رؤوس الأصابع، أم كان محض طلب يائس للنجدة، قبل أن تصله رصاصة في رأسه، وتسكته إلى الأبد.

أتذكّر أحاديث أهل الحيّ المفجوعة على الكلب وبطولاته العظيمة، وأتذكّر صاحبه مجروحًا ويائسًا، وأتذكّر أنّه لم يَقتنِ من بعده أيّ كلب. أخاف الرجل من نظرات تشبه نظرات الكلب البطل؛ فيطول حزنه أو يعود؟ أم أنّه خاف من بطولة جديدة وفجيعة أخرى تليها؟

لا أحد يعلم.

كان فيل حديقة الحيوانات، الّذي رأيته مرّة واحدة في حياتي عن قرب، كان ضخمًا وبريئًا بشكل غريب، ولا يشبه الفيل الّذي في التلفاز والصور، كانت ضخامته تحبس الأنفاس، وكأنّك تنظر إلى وادٍ عميق، أو إلى قمر قريب، أكبر من فيزياء الأحجام الّتي تألفها. بعد أسبوع من هذه الزيارة، ذهبت إلى الحديقة، وكنت أريد رؤية الفيل مرّة أخرى، الفيل بالذات بحثت عنه ولم أجده، قالوا إنّه مات فجأة قبل يومين، كانت فكرة موت الفيل فكرة صادمة، فيل يموت! كيف يموت كلّ هذا؟

لكنّه مات.

لم يشتكِ ألمًا، ولم يترنّح، لكنّه بكى بصمت، رأوا دموعًا تُحدث سوادًا عميقًا أسفل العينين، مال على السياج ومات هناك، نصف جسده ميّت في الخارج والنصف الآخر في الداخل. حاولوا إخراج جثّته الهائلة من الحظيرة ولم يستطيعوا، قالوا إنّ الرافعة تعطّلت يومذاك، أو أنّ الباب الّذي شيّده عمّال البناء بعد إدخال الفيل كان أصغر، اهتدوا إلى تقطيعه، كلّه، نزعوا خرطومه الطويل أوّلًا، وضعوه جانبًا، وعندما فتحوا بطنه أو بقروه، وجدوا أكياسًا وعبوّات من زجاج وبلاستيك، وجدوا طنًّا من المخلّفات في بطنه، ألقاها زائرو الحديقة إليه، فتح الفيل فمه ببراءة الأطفال، والتقط كلّ شيء، ابتسم الفيل ابتسامة قادمة من سفانا أفريقيا، ابتسامة صافية لم تعبث بها قاذورات الحضارة، لكنّه اكتشف شيئًا غريبًا صلبًا وحادًّا يتزحلق في مريئه باستمرار، تلبّكت المعدة بأشياء عصيّة على الهضم والفهم، ومات. قتله الناس ببلاهة الناس.

أحبّ السنونو في القصائد، مع أنّني لم أرَ سنونوة واحدة في حياتي.

اجتاح جيش اليهود المدينة في الانتفاضة الثانية، أطلقوا النار في الهواء، ولأنّ عنق الزرافة طويل، أطول من سور حديقة الحيوان؛ ماتت الزرافة برصاصة طائشة، ولعلّها لم تكن طائشة تمامًا، لكنّ الزرافة استشهدَت مثل المقاتلين والأطفال

رأيت الجمل 3 مرّات قبل أن ينهش يد صاحبه. قالوا إنّ غضب الجمال شديد، وذاكرتها أقوى من الأيّام، وتحفظ ذكرياتها الأليمة طويلًا، وحين تحين اللحظة تنتقم بقسوة. نهَرَها صاحبها بشدّة، استجاب الجمل خانعًا، وفي لحظة بعيدة أو قريبة لا أعرف، انفرد الجمل بالرجل، عضّ الجمل ذراع الرجل، لوّح به وكأنّه بسكويتة في سماء الحظيرة، وألقاه بعيدًا؛ أدماه تمامًا، ولولا ألطاف الرحمن لمات الرجل أو فقد ذراعه.

رأيت زرافة مرّة واحدة ثمّ استشهدَت، اجتاح جيش اليهود المدينة في الانتفاضة الثانية، أطلقوا النار في الهواء، ولأنّ عنق الزرافة طويل، أطول من سور حديقة الحيوان؛ ماتت الزرافة برصاصة طائشة، ولعلّها لم تكن طائشة تمامًا، لكنّ الزرافة استشهدَت مثل المقاتلين والأطفال، أخذت نفسًا عميقًا، ثمّ هوت أرضًا، تهاوى العنق الطويل أوّلًا، ثمّ ارتطم البطن الكبير بالأرض. صمتت الحيوانات في الحديقة ثلاثة أيّام، ظلّ الأسد يزأر بشكل غريب، ثمّ مات في اليوم الرابع، قطعوا جثّة الزرافة وألقوها أمام النمور والضباع، لكنّها امتنعت ولم تقترب منها، حتّى تعفّنت أمامها.

رأيت الكثير من القطط الجائعة والحمير والخيول. مرّة ركبت حمارًا من طرف المدينة إلى مركزها، لأوّل مرّة كنت خائفًا من لحظة يستعصي عليّ فهم ماذا يريد الحمار؛ أن يتوقّف في وسط الطريق ولا يتحرّك، أن يجنّ ببساطة، أن نفقد نقطة التواصل والتفاهم بيننا، كانت نقطة التفاهم صغيرة وبالكاد موجودة. كنت مرعوبًا من أفكار كهذه، وطوال الطريق كنت أتحسّس عنقه، وأقول له: "يا لك من حمار عظيم!"، وكان الحمار سعيدًا على ما يبدو من همساتي، كافأني بالوصول الآمن والسريع، وكافأته بعدم ركوب الحمير وحيدًا بعد ذلك أبدًا، أوصلت الحمار إلى صاحبه، وعندما اكتملت مهمّتي بنجاح، أحسست بفخر شديد، وكأنّني حصلت على رخصة قيادة سيّارات.

ولأنّ الخيول تفهم أو تحسّ إحساسًا ماورائيًّا عميقًا، انتفض الحصان وكاد يقتلني. الخيول دون كلّ الحيوانات تريد راكبًا واثقًا وقويًّا، الخيول تكره المتردّدين والمتلعثمين

ظلّت الخيول في ذهني شيئًا جميلًا، إلى أن حاولت مرّة أن أمتطي حصانًا. استشعر الحصان جسدًا خائفًا ومرتبكًا قادمًا إليه، ولأنّ الخيول تفهم أو تحسّ إحساسًا ماورائيًّا عميقًا، انتفض الحصان وكاد يقتلني. الخيول دون كلّ الحيوانات تريد راكبًا واثقًا وقويًّا، الخيول تكره المتردّدين والمتلعثمين. تَولّد عندي رهاب الخيول من بعدها، صرت أحسّها تنظر إليّ بتوجّس غريب أو ريبة أو غضب عميق، مثل غضب الجمال الّتي لا تنسى، أو أنّها لم تكن تنظر إليّ أصلًا.

 لعلّني صرت جزءًا من ذاكرة الحيوانات كلّها، أو أنّها لا تعرفني، ولعلّني لا أعلم ماذا يحدث في هذا العالم الجميل.

 

 

أمير داود

 

 

كاتب وباحث في الشأن الثقافيّ من فلسطين. يكتب في منابر عربيّة وفلسطينيّة، صدرت له مجموعة نصوص سيريّة بعنوان "صديق نقطة الصفر".

 

 

التعليقات