03/06/2020 - 13:01

"الردّ بالكتابة"... أن يُروى الجانب المهمّش من الحكاية

من لوحة غلاف رواية "بحر سرجاسو الواسع"

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"مَنْ يكتبْ حكايته يرثْ
أرض الكلام، ويملُكِ المعنى تمامًا".

- محمود درويش -

 

إنّ أخطر ما سلبه الاستعمار من المستعمَر حقّه في تمثيل تجربته بنفسه؛ فقد قدّم المستعمِر حكاية مجتزأة تعزّز هيمنته، عن طريق خلق صور نمطيّة لا تمنحه الفوقيّة فحسب، بل تؤكّد دونيّة الآخر. وقد بيّن إدوارد سعيد هذه العلاقة في طرحه الّذي أسّس لمدرسة ما بعد الاستعمار، حين وجّه الأنظار إلى تصوير الأدب الأوروبّيّ للآخر في فترة الاستعمار، على أنّه كائن غير عقلانيّ يحتاج إلى مَنْ يمثّله؛ لذا كانت الدعوة إلى "الردّ بالكتابة" مبدأً مهمًّا لدى كتّاب ما بعد الاستعمار، الّذين استخدموا أساليب سرديّة عديدة لكشف أوجه مستترة، تعطي صوتًا للآخر المهمَّش ليعبّر عن تجربته بنفسه.

 

بادئة جين ريس على "جين إير"

تُعَدّ "البادِئة" (Prequel) إحدى هذه التقنيّات السرديّة، الّتي أسهمت في خلق قراءات جديدة للنصوص الاستعماريّة. و"البادئة" رواية تسبق أحداث رواية كُتبت قبلها، وقد تتزامن معها لتبيّن جوانب أخرى من القصّة.

أحد الأمثلة على رواية البادئة، ردّ الكاتبة الكاريبيّة جين ريس Jean Rhys في روايتها "بحر سرجاسو الواسع - Wide Sargasso Sea" على رواية "جين إير -  Jane Eyre" للكاتبة الإنجليزيّة شارلوت برونتي Charlotte Brontë، الّتي تُعَدّ من كلاسيكيّات الأدب الإنجليزيّ.

"البادِئة" (Prequel) إحدى هذه التقنيّات السرديّة، الّتي أسهمت في خلق قراءات جديدة للنصوص الاستعماريّة. و"البادئة" رواية تسبق أحداث رواية كُتبت قبلها، وقد تتزامن معها لتبيّن جوانب أخرى من القصّة...

تحكي رواية "جين إير" قصّة امرأة إنجليزيّة، عانت منذ طفولتها من اليتم وقسوة العيش، لكنّها استطاعت من خلال تطوير مهاراتها ومعرفتها أن تتفوّق مهنيًّا، وأن تثير إعجاب روتشستر، الّذي كانت جين، بطلة الرواية، معلّمة ابنته مربّيتها. لكنّ الأسى طارد جين الّتي تكتشف في يوم زفافها أنّ روتشستر متزوّج بامرأة أخرى، وبعد التحرّي يتبيّن أنّ هذه الزوجة الأولى فتاة جامايكيّة تزوّجها روتشستر وجلبها إلى إنجلترا، قبل أن يكتشف أنّها مصابة بالجنون. وتصوّر الرواية الفتاة الكاريبيّة بيرثاBertha  بأنّها متوحّشة غريبة الأطوار؛ فضحكتها هستيريّة وعنفها يشكّل خطرًا على كلّ مَنْ حولها، فتارةً تمزّق طرحة زفاف جين في الليل خفية، وتارة أخرى تحاول حرق المنزل بمَنْ فيه.

تنجح بيرثا أخيرًا في إحراق المنزل، فتموت في الحادثة، ويتضرّر روتشستر جسديًّا، ومع ذلك تصرّ جين بنبلٍ على الزواج به؛ فهو بالنسبة إليها روح تتجاوز الجراح الجسديّة. تنتهي الرواية نهاية سعيدة كحال روايات العصر الفكتوريّ، وتصبح عبارة جين "أيّها القارئ، تزوّجته" من أشهر عبارات الأدب الإنجليزيّ؛ إذ تعبّر عن أهليّة المرأة وفاعليّتها، وقدرتها على المبادرة.

 

من بيرثا إلى أنطوانيت

تُعَدّ رواية "جين إير" من الروايات المحبّبة لدى البريطانيّين؛ فهم يرون فيها مثالًا للفرد الإنجليزيّ المثابر، وخاصّة المرأة الّتي تستطيع شقّ طريقها بذاتها بالإرادة والعلم. لكنّ الكاتبة جين ريس رأت بُعْدًا استعماريًّا في الرواية؛ فما الداعي إلى أن تكون المرأة المختلّة عقليًّا كاريبيّة لا إنجليزيّة، وأن توصَف ملامحها بأنّها مروّعة ومخيفة كالأشباح، وبأنّ وجهها شاحب ووحشيّ، وبشرتها بنفسجيّة، وشفتاها سمراوان ومنتفختان، وبأنّها امرأة همجيّة وعنيفة، وأشبه ما تكون بمصّاصة دماء؟

 

غلاف إحدى طبعات رواية "جين إير"

 

اعترضت ريس على تلك الصور النمطيّة الاستعماريّة عن طريق "الردّ بالكتابة"؛ فأصدرت رواية بادئة، تمنح بيرثا - أسيرة علّيّة السيد روتشستر - صوتًا لتحكي لنا الجانب المستتر من الحكاية. وهنا، تتجلّى للقارئ جوانب مخفيّة طمسها المستعمِر، ليسطّر قصص بطولاته.  

تستهلّ ريس روايتها بطفولة فتاة تُدعى أنطوانيت - وهي ذاتها بيرثا في رواية "جين إير" - لكنّ السرد يوضّح أنّ زوجها الإنجليزيّ هو مَنْ غيّر اسمها؛ وذلك كناية عن سلب هويّتها.

 

علاج الصدمة

تسرد أنطوانيت/ بيرثا حكايتها باستخدام ضمير المتكلّم؛ وهكذا تصبح ذاتًا فاعلة تمثّل تجربتها لتملأ الفجوات في الرواية الإنجليزيّة. أمّا أهمّيّة السرد هنا فلا تقتصر على تمثيل التجربة ودحض الصور النمطيّة، بل إنّ لها أيضًا أثرًا علاجيًّا للصدمة أو الجرح النفسيّ (Trauma)، الّذي تعرّضت له الشخصيّة في حياتها، ولا سيّما في فترة الطفولة، الّتي تصفها البطلة في القسم الأوّل من الرواية بأنّها قاسية لأسباب عدّة، من ضمنها انحدارها من أصول "الكريول - Creole"، أي ليست من سكّان جامايكا الأصليّين؛ لذا فإنّ عائلتها منبوذة من قِبَل المستعمِر والسكّان، وهذا ما دفع أهل المنطقة إلى الإقدام على إحراق منزل العائلة؛ فتوفّي أخوها في الحادثة، وأصيبت والدتها إثر هذه الأحداث بالجنون، قبل أن تموت بعد فترة من الانعزال.

وتستمرّ معاناة أنطوانيت حين تتزوّج برجل إنجليزيّ، يرى فيها المرأة المثيرة للدهشة الغريبة الأطوار؛ فيدفعه حبّ التجربة وطمعه في سلب ممتلكاتها إلى أن يتزوّجها، ثمّ يأخذها إلى بلده، ويحبسها في علّيّة في منزله، واسمًا إيّاها بالجنون، وتنتهي الرواية حين تخرج أنطوانيت ليلًا من الغرفة وتحرق المنزل.

تتقاطع هذه الأحداث مع رواية "جين إير" الّتي تحكي جزءًا من هذه القصّة، لكنّ قارئ الرواية الإنجليزيّة يرى في انتحار بيرثا جريمة في حقّ الزوج، وأملًا في زواج بطلَي القصّة، جين وروتشستر، وهذا ما يتحقّق في النهاية. 

الأدب طريقة ناجعة للتعبير عن الصدمة النفسيّة، لأنّه يعطي مساحة للغة كما يعطي مساحة للصمت، إضافة إلى أنّه يتيح أساليب عديدة لتمثيل الحقائق من زوايا متعدّدة...

تنجح ريس في جعل السرد نوعًا من المقاومة، وتسليط الضوء على معاناة المرأة المستعمَرة الّتي يواجهها خطر مزدوج (Double Jeopardy)؛ أي أنّها تعاني من الآخَريّة (Otherness) بصورة مضاعفة. وللتغلّب على هذا الكرب تحكي أنطوانيت قصّتها؛ لأنّ للسرد أثرًا علاجيًّا للجرح النفسيّ، إذ يحتاج المكلوم إلى أن يروي قصّته منذ البداية، وصولًا إلى لحظة الصدمة، وذلك للرغبة النفسيّة في أن يكون ثمّة شاهد على تجربته، كما تؤكّد شوشانا فيلمان Shoshana Felman؛ فالأدب طريقة ناجعة للتعبير عن الصدمة النفسيّة، لأنّه يعطي مساحة للغة كما يعطي مساحة للصمت، إضافة إلى أنّه يتيح أساليب عديدة لتمثيل الحقائق من زوايا متعدّدة؛ لذا تعبّر رواية "بحر سارجاسو الواسع" عن الصدمة بتقنيّات سرديّة عدّة، منها تعدّد الرواة (Polyphony)، وهو مصطلح نحته باختين، ويعني ألّا تُقَدِّم الرواية نسخة واحدة من الحقيقة، بل أبعادًا عديدة منها، عن طريق تنوّع الأصوات السرديّة.

 

سرد متعدّد

تنقسم رواية ريس إلى ثلاثة أقسام، تروي أوّلها أنطوانيت/ بيرثا، ويروي زوجها جزءًا من القسم الثاني، إلى جانب شخصيّة أخرى تُدعى كريستوفين. ويتخلّل هذا القسم حوارات بين أنطوانيت وزوجها الّذي يبقى بلا اسم طوال الرواية، ثمّ تعود أنطوانيت لرواية الجزء الأخير الّذي تبدؤه الخادمة غريس بول، ثمّ يرجع صوت الرواية أخيرًا إلى أنطوانيت/ بيرثا. 

ويُعَدّ هذا السرد الحواريّ المتعدّد الرواة مغايرًا للسرد الذاتيّ في الرواية الإنجليزيّة، لتبيّن ريس للقارئ أنّ ثمّة أوجهًا متعدّدة للحقيقة.

ومن جوانب التباين بين الروايتين أنّ رواية ريس تحتوي على فراغات سرديّة، على نقيض رواية "جين إير" الأوتوبيوغرافيّة، الّتي تؤكّد راويتها أنّها تلتزم بتقديم أدقّ التفاصيل للقارئ وبترتيبها الزمنيّ.

تعبّر لغة ريس المتشظّية عن ذاكرة المصدوم؛ فهي ذاكرة مهشَّمة لا تستطيع تمثيل تجربتها بترتيب زمنيّ منظَّم، لأنّها تفتقر إلى هذه الرفاهيّة؛ فأنطوانيت تحكي قصّتها من قلب المعاناة وهي سجينة علّيّة رجل يتّهمها بالجنون، بينما تروي جين حكايتها بعد انتهاء معاناتها وهي تعيش في نعيم مع عائلتها الجديدة.  

غلاف إحدى طبعات رواية "بحر سارجاسو الواسع"

 

معنيان للانتحار

تنتهي قصّة أنطوانيت نهاية مفتوحة، تحمل فيها البطلة شمعة، وتعكف على حرق المنزل بمَنْ فيه، وتقول: "الآن، عرفت أخيرًا لماذا أُحْضِرتُ إلى هنا، وماذا عليّ أن أفعل". هذه الكلمات تشير إلى أنّ وجود أنطوانيت في إنجلترا كان دافعًا إلى أن تقاوم وتثبت وجود الآخر.

تنتهي الرواية دون أن نعرف مصير البطلة، لكنّنا - بصفتنا قرّاء للرواية على أنّها بادئة لـ "جين إير" - نعرف أنّ البطلة تموت انتحارًا وينجو زوجها. لكنّ انتحار أنطوانيت تعبير عن المقاومة، على عكس انتحار بيرثا الّذي يُعَدّ ضربًا من الجنون؛ فالنار الّتي توقدها أنطوانيت أخيرًا ترمز إلى الحياة لا إلى الموت، وتعلن أنّ ثمّة امرأة مهملة في العلّيّة تقول للعالم: "أنا هنا، أحكي لكم النصف الآخر من حكاية الألم". 

 

 

د. سميّة الحاجّ

 

 

أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزيّ في جامعة بيرزيت، حصلت على درجة الدكتوراه من الجامعة الأردنيّة عام 2016، وقد تخصّصت في الأدب الكاريبيّ ودراسات ما بعد الاستعمار. لها العديد من الأبحاث في النقد والنظريّة الأدبيّة

 

.

 

التعليقات