05/07/2020 - 20:26

اليوم

اليوم

الفنّانة شميّة حسّاني

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

عندما استيقظتُ كانت قد علِقتْ.

لم يكن من السهل أن أعود إلى النوم في الساعة الحادية عشرة صباحًا. لم يكن لديّ ما أفعله على وجه التحديد في هذا اليوم، وكانت الفكرة تكمن في أن أصحو وأجلس أنتظر أن يحدث أمر ما، ولو فكّرتُ في العودة إلى النوم مجدّدًا لكان ينبغي أن أعود بالأحداث إلى منتصف الليل، فأبدأ من حدث البحث عن فيلم، فأقلّب في ثلاثة أفلام قبل أن أستقرّ على واحد؛ فيلم بالفرنسيّة عن امرأة تقرّر مراقبة زوجها من حجرة في الفندق المقابل للشقّة الّتي يعيشان فيها معًا، وفيلم "بينوكيو" في نسخته الأخيرة من بطولة النجم الإيطالي روبرتو بينجيني، والثالث "شبكة الدبّور"، الّذي استقررتُ عليه، وهو عن قصّة حقيقيّة للطيّار الكوبيّ رينيه جونزاليس حين غادر إلى ميامي، في ولاية فلوريدا، في شخصيّة الخائن لبلاده؛ كي يسهم في كشف الخلايا الّتي تشكّلت في ميامي لمحاربة كوبا.

كان صوت أذان الصبح قد ارتفع وأنا أحدّق بوجه الطيّار الكوبيّ الحزين، بينما أنف بينوكيو ظلّ يطول في خلفيّة الأحداث، ويكاد يشقّ الستارة الّتي وضعتُها خلفي كي أفصل بها بين ما أفكّر فيه وما سأكتبه، ثمّ ما فتئ أن خاط الليل عينيّ بسرعة، فغرقتُ في النوم، حتّى صحوتُ فجأة على صورة امرأة تتسلّق جدار اليوم وتريد أن تدخل فيه، كأنّها تفعل ذلك على الجدار الشفّاف لبياض عينيّ، لكن حركتها تجمّدتْ على الحائط كأنّها علِقتْ. لم يكن بسببي. كانت عالقة عندما استيقظتُ كأنّها أصيبتْ برصاصة شلّتها، فأغمضتُ عينيّ، مرّة ثانية، بسرعة، وأطبقتُ الغطاء فوق رأسي بعد أن ضغطتُ ساعة المنبّه لاعتقادي أنّها كانت السبب، قلتُ:

- هيّا، لأمنح هذه المرأة بعض الخصوصيّة. فأن تستمرّ المرأة في تسلّق جدار لتدخل في يوم، يساوي أن تواري نهديها أمام رجل، في أوّل ظهور عارٍ لها.

 

لم تكن ساعة التوقيت السبب، فلم تكن مضبوطة على أيّ وقت. كان الزمن فيها متروكًا على صمته. دون أن أعطيه معنًى. أرقام مصفوفة بحزن، وعقربان متجمّدان، ورأس ساكن للزمن، ولون أبيض يحاول الإطار الأسود أن يكسر صفاءه في الأعلى. بدت الساعة قوّة منزوعة القوّة، وقطعة أثاث مهجورة كأنّها آخر غرض في بيت تركه أصحابه، وإذا تكلّمتُ فإنّي سأسمع صدى صوتي تردّده الجدران الملساء في البيت المهجور. صار الزمن أفعًى ميّتة، وقبل أن تموت احتضنتْ نفسها.

لم أر من قبل في أحلام سابقة امرأة تعلَق على جدار يوم، لذلك بدوت بغير خبرة للتعامل مع حدث مثل هذا.

ولم يكن السبب أنّه كان حلمًا، فلا يوجد عندي خطّ فاصل بين الحلم والحقيقة، فأنا أتنقّل بينهما ليل نهار، وربّما تلك المرأة العابرة كانت قد تاهت، وهي تقطع المسافات في نومي، دون أن ألحظ تسلّلها في إثري، في اختبائها خلف شجرة هنا، أو سيّارة متوقّفة هناك، أو تحت ظلّ نفسها.

كان على المرأة أن تصعد في قطار الساعة الثالثة عصرًا، ثمّ سحبتُها إلى محطّة القطار، في رأسي، ناحية اليمين، وأنا أزيح خصلة من شعري المجعّد، وأضبطه بملقط الشعر، وكانت الساعة عندي تشير إلى الثالثة صباحًا، تفاجأتْ في البداية، وظنّتْ أنّها بدأتْ تفقد توازنها بسبب دواء وصفه لها طبيبها الخاصّ قائلًا:

-  إنّه قد يغيّر عاداتك، يجعلك في تسلّل دائم أو في نوم عميق.

 

جلستْ على المقعد كي تنتظر ثمّ أخذتْها الغفوة، وعندما استيقظتْ، قبل أن أستيقظ، كانت الساعة الحادية عشرة صباحًا، فعلِقتْ على الجدار، وهي تدلف إلى حياتها، كأنّها حشرة على ستارة، وعندما فتحتُ عينيّ كانت نظرتُها قد سبقتْ نظرتي، فحطّتْ فيها كأنّها طائر.

لا يوجد قطار في فلسطين لتنقّل الركّاب، أقصد في الضفّة الغربيّة. عام 2005 تقدّمتْ إسرائيل باقتراح شقّ خطّ قطار بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، بعد أن صادق على الفكرة أرئيل شارون. رفض الفلسطينيّون التلاعب بجغرافيّتهم مجدّدًا ولا سيّما بعد توقيع الاتّفاقيّات، فتحدّثوا عن الوحدة الجغرافيّة أمام المقترح الجديد، وعن عدم استبدال "الرابط الفنّيّ" بما أسموه "التواصل الإقليميّ"! والآن الوضع السياسيّ في فلسطين بين يدي القرّاء، كما يرونه، كلّ فلسطينيّ يجلس وهو يحاول أن يحمي مكان مؤخّرته!

عنّي لقد انتظرتُ أن أكبر سريعًا جدًّا، أن أتقدّم في السنّ على ظهر حصان مُقْلِع، حتّى أختبر ثلاثة أمور: أركب قطارًا، وأزور البحر، وأتذوّق طعم الجنس.

نظلّ نحن الفلسطينيّين نثرثر في أمنياتنا، حتّى لو سرًّا، وسيتأخّر الوقت طويلًا قبل أن نبوح بها، وهنا عليّ أن أعرّج قليلًا بمسألة الكتابة، إنّها فتح الأبواب على مصراعيها للريح، وهذا يأخذ وقتًا طويلًا من كلّ كاتب، بل قد يموت الكاتب قبل أن يكتشف طريقه مع الريح الّتي تخصّه، رغم أنّه يترك في رصيده خمسة عشر كتابًا، ويحظى بوصف "الكاتب المكرَّس"! ففكرة الأمان تسيطر علينا جميعًا، فنؤسّسها على مسامير الشكّ والحذر، وهذا في حدّ ذاته إرباك لفكرة الأمان، ومدعاة إلى البحث في صدقيّتها! تحدث خروقات هنا، وخروقات هناك بالنظر من عين الباب، والفتح للطارق، وقارع الجرس، والردّ على صوت المنادي، بل نستمرّ في فتح الأبواب للضيوف الّذين يدخلون بأطقم فناجين الشاي، وأكياس السكّر، وحديثًا صارت الهدايا حاملات للأصص، ولبعض التحف!

- لكنّ الكتابة، أقصد قضيّتنا، أين؟ ماذا حدث بها؟

- والبهجة الّتي تتّقد في القلب؟

 

كان لدينا حدث نستطيع أن نراهن عليه، وهو حدث ما زال ينزف. كلمة "احتلال" انحدرت من الفعل احتلّ، واحتلّ تعني في المعجم: احتلّ المستعمر بلدًا استولى عليه قهرًا، ويُصاغ منها اسم الفاعل واسم المفعول بالصيغة الاشتقاقيّة نفسها، ما يصنع لنا إشكاليّة، فماذا تريد أن تقول لنا اللغة ولا نسمعه؟ وهنا سنحتاج إلى السياق لاكتشاف مَنْ هو المحتلّ: الفلسطينيّ أم الإسرائيليّ! إذن، في الحديث عن أهمّيّة الحدث في فعل الكتابة فلسطينيًّا سنضطرّ دومًا إلى البحث عن سياق، وأمّا المكان فهو يحتاج إلى شخصيّات دائمًا لتتورّط في علاقات، وحركة دائبة في الخروج والدخول، والصعود والهبوط، وأفعال كثيرة من الشهادة والسجن ورفع اليافطات والصراخ والنحيب، وبعضها ساكن كالفرجة وإدارة الظهر، حتّى تتشكّل البنية الاجتماعيّة الّتي يفاجئني وضوحها عندما أقرأ روايات لأصدقائي المصريّين، فأجدها بهذا السطوع، في أثاث المنازل وفي أفواه المتكلّمين، أستطيع أن أتبيّن ذلك من بنية الأسنان في فم كلّ متكلّم، فيسألني البعض:

- حتّى لو تسوّستْ؟

-  لأنّها تسوّستْ.

 

وفي الشعر ثمّة عاصفة تحدث في خلف أيّ قصيدة، وما الشعر؟ أليس ما هو متوارٍ أو متروك في خلفيّة القصائد؟

هنا لا أتحدّث عن قصائد استفادت من نماذج مترجمة، وقصائد تعبّر عن مدى ثقافة الشعراء الشباب والأكبر سنًّا، بل حتّى عن الشعر الّذي كُتِب بالعامّيّة، وعن الحوارات الّتي غادرت الأفلام، والدراما المصريّة، ثمّ حلّت في ثرثرة شاعرة ما، بعفويّة طلِقة، حتّى وهي تكتب مجرّد كلام تظنّ أنّه عاديّ، دون أن أشير إلى قصصها المدهشة!

- استيقظي استيقظي.

 

لم تصرخ المرأة العالقة على الجدار، ولم تقل ذلك، ولم أتخيّله. كانت صامتة كأنّ فمها جدار. لوح أسنانها لم أره لأقول: كم هو ناصع! ولن أستدلّ على ماذا أكلتْ من رائحة فمها، فقد كانت امرأة بلا رائحة، وربّما لم تتناول طعامًا منذ أسبوع. نحيلة، خائرة. أنا فقط ممدّدة، وربّما أبدو لها شبه ميّتة على باب اليوم دون أن أدقّه. عيني في عينها دون أن تلمعا. تخيّلتُ يدي تمتدّ لتفكّ العقدة الّتي أحدثتِ الصدمة في حركة تقدّمها لكنّي تراجعت.

- فلو فعلتُ ذلك، فأيّ ورطة سأُوَرَّطُها؟

 

وعودة إلى ساعة تداخل الزمن في بعضه، لن أحتاج إلى حدث مزلزل، لقد حدث الأمر بشكل عفويّ جدًّا، تطوّرت الأحداث في حياتنا على هذا النحو، في البداية نتوهّم أنّنا مررنا بهذا الحدث أو ذاك في مكان وزمان آخَرَيْن، وعندما نبحث مدفوعين بالتفسيرات حول أنّنا عشنا في حياة سابقة، فكنّا طيورًا، أو قادة قبائل، أو فارسًا طموحًا في فرقة محاربة، أو عبدًا لسيّدة خرقاء، حسب نظريّة "ديجافو"، سرعان ما نلقي النظريّة خلف ظهورنا كأنّنا نلقي لباسًا بيتيًّا لونه أبيض، بعرق أصفر موضع الإبطين، فنتقبّل حياتَنا على أنّها حياتُنا، فنضعها على حافّة طريق في يوم عاديّ، كأنّ التفسير سقط من تلقاء نفسه!

 فهذه حياتنا مثل حبل السرّة عندما يسقط فيترك ذلك الأثر في تلك الرسمة المؤثّرة في بطن كلّ جسد من أجسادنا، الّتي إن لم تجد شخصًا واحدًا يعبّر عنها بلسانه، فستكون حياته قد حظيتْ بنقصانها الحقيقيّ.

- فالنقصان ما هو؟

- ألّا يَرْتِقَ لسانٌ انسحابك من جسد آخر، كأنّه يختمه، فيغلق باب دخولك، إلى الحياة، بالحبّ والرغبة.

 

إذن، كان الملل هو ما دفع تلك المرأة، في ذلك اليوم، إلى أن تخرج باكرًا، فتظنّ أنّها خرجتْ متأخّرة قليلًا، في ذروة حركة العمّال والموظّفين، وحتّى نفهم الأمر جيّدًا علينا وضع هذه المعادلة الّتي لا علاقة لها بالفيزياء في شيء:

تتّجه المرأة نحو محطّة القطار الساعة الثالثة عصرًا + أشاهد فيلم الطيّار الكوبيّ الساعة الثالثة صباحًا ؟= فعل الاستيقاظ والعلوق الساعة الحادية عشرة صباحًا؟ اليوم.

ولشرح هذا: هل عندما اتّجهتْ المرأة نحو محطّة القطار الساعة الثالثة عصرًا، وكنتُ أنا أشاهد الفيلم الساعة الثالثة صباحًا، يساوي الفعلين، داخل الزمنين، فعل الاستيقاظ والعلوق الساعة الحادية عشرة صباحًا، فيساويان اليوم؟

ولو فكّرتُ في الحدث فسوف أتدرّج بأفعال التسلّل، والمشاهدة، والعلوق، والنوم، والاستيقاظ، وتطاول أنف بينوكيو، واختراق الستارة الفاصلة بين ما أفكّر فيه وما أكتبه، مع طرح سؤال:

- وهل كلّها تساوي الفعل "احتلّ"، والفعل الّذي يقابله، تلقائيًّا، وهو: تحرَّر؟

 

وإن فكّرتُ في المكان فسأذكر: المحطّة، السرير، الجدار، غرفة الفندق، الشقّة المقابلة، كوبا، ميامي!

نفكّر عندما نضع المعادلات في أن نجد حلًّا، وسوف أجتهد ما دمتُ لستُ عالمة فيزياء أضع نظريّة، ولستُ سياسيّة أدبّج اتّفاقيّات وأقدّم مقترحات تتعلّق بالمكان والزمان والأحداث، فأنا مجرّد امرأة تحلم، وعليه خذوا هذا الاقتراح الّذي لا أفرضه بالضرورة على أحد حتّى القارئ، فالقارئ نفسه متاح له، في هذا السرد، أن يجد الحلّ الّذي يرضيه:

في يوم تحرّكتْ امرأة في رأس امرأة أخرى، تتبّعتْ حركتها وهي تثب بين السرير وبلكونة بيتها تارة، وبين السرير والموقد لتُعِدّ شوربة الشوفان. كانت المسافة بين الأمكنة قصيرة جدًّا، إلّا أنّها استغرقتْ وقتًا طويلًا بمقاييس الزمن التقليديّة، كانت تظنّ أنّ تلك المرأة ستكتب قصيدة لتداوي بها نفسها، وقد تضعها، مصنّفة نفسها على أنّها خيال فقط، وهذا كافٍ وبدا عادلًا، في مكان ما في تلك القصيدة. فكلّ شيء عالق في فلسطين بسبب الاحتلال، وضيق خيال ثورة الفلسطينيّين، وفي العالم بسبب الوباء الّذي اجتاحه مع أوّل قطرة دم نزلت، في سوق الحيوانات، في ووهان، لجسد طائر الخفّاش الّذي أحبّته المرأة صاحبة القصيدة، منذ مرحلة طفولتها، وهو يطير في العتمة بلا عينين، في المغارات، فعرفتْ أنّ ذلك الطائر سوف يكون له دور في الحياة ذات يوم. في اليوم الأوّل من كانون الأوّل (ديسمبر) 2019، كان دم طائر الخفّاش مرشوقًا على الرصيف، وأطراف عربة من الخشب المعطوب، وكانت القصيدة ستبرّئ قلب المرأة الّتي وجدتْ نفسها تبكي لأنّ إسرائيل ستضمّ مسقط رأسها في قرية الجفتلك. لم تكن تبكي بسبب فشلها في قصّة حبّ. لقد اطمأنّت تمامًا على أنّها فاشلة في هذا، وتلك الطمأنينة جعلتها تنجح في أن تتبرّأ من نظريّة الاحتمال. إنّها لم تعد تندم. وكانت أضعف من أن تترك نفسها عرضة لبكاء متكرّر على كلّ ما انسرب من بين يديها، ولم تعد لديها القوّة، وهي على أبواب الخامسة والأربعين، أن تستعيده. فيئستْ. وكان اليأس دواءها. كلّ صباح كانت تستيقظ ثمّ تنقّط قطرة من دواء اليأس في فمها، أصبحتْ هذه طريقتها في التقدّم. الآن هي ممدّدة. الساعة الآن الحادية عشرة صباحًا. مرّ الوقت سريعًا بين زمن نومها وزمن صحوها. لقد رأتْ على الجدار الفاصل بين الأزمنة والأمكنة امرأة عالقة، وقد سمعتْ السرد المتسرّب في رأسها:

-  امرأة تعلق على الجدار، وهي تحاول تسلّقه للدخول في يومها.

 

حاولتْ الانزلاق في النوم، مرّة أخرى، لأنّه سيكون صعبًا عليها أن تساعد تلك المرأة أو أن تساعد نفسها إن لم تنقذها. إنّ من أصعب الأمور على نفس الكاتب أن يجد نفسه في هذا المطبّ: ألّا ينقذ شخصيّاته. ليس بمعنى أن يمنعها من أن تموت، بل ألّا يعطيها فرصة أن تتحرّك. بعد أن زارها حبيبها، ومارسا الجنس، كانت ما زالت هناك، عالقة، ليس مع المرأة، بل وهي تفكّر طوال الوقت أن تمدّ يدها نحوها، وأنّها لو مدّتْ يدها لنقّطتْ في فمها نقطة من دواء اليأس، وهنا هي لن تتوقّع ماذا سيحدث مع تلك المرأة بالضبط، ففي الكتابة أنا أكتب وأدع الشخصيّات تفعل ما يحلو لها، إنّها تستقلّ في حياتها، حتّى أنّني أعتمد عليها في حياتي أكثر ممّا أعتمد على الناس الّذين يتحرّكون خارج صفحات الكتابة، فهل ستيأس فتفقد الأمل تمامًا في أهمّيّة أن تدخل في اليوم، فتضيفه إلى أيّامها السابقة كامرأة تعيش في أحلام امرأة أخرى، فتدع جسدها ينزلق عن جدار اليوم لتسقط في قعر الزمن؟ وهناك حيث لا قبور، بل مزيد من استمرار السقوط، فتستمرّ في ذلك، ومن ثَمّ لا تستطيع بعدها أن تفسّر وجودها:

- هل هي حيّة تهوي؟

- ميّتة غير مدفونة؟

-  امرأة في حلم امرأة أخرى على أبواب يوم؟

-  شخصيّة تعتمد عليها مَنْ كتبتْها في خلق مصيرها؟

- الكاتبة نفسها الّتي استعارتْ ظلّها كي تتستّر خلفه؟

- مرادف الكاتبة، بمعنى صنوها. وهذا لا يضمن العداء ولا يثبت التضامن. لكنّه يفتح أكثر فأكثر باب الشكّ؟

- مجرّد مسافرة أرادتْ أن تقطع المسافة بين الضفّة الغربيّة وغزّة، أو بين البارحة والغد، وهي الآن تجلس فوق مقعد صنعته الكاتبة من الحروف: م. ق. ع. د. ووضعته في كلمة: محطّة. ثمّ رسمت سكّة على شكل خطّين متوازيين يتعرّجان في بعض مناطق العبور من الأرض المحتلّة عام 48، بحسب المناطق المسموح بالحركة فيها، بحسب الاتّفاقيّات مع الاحتلال، ثمّ ربطتْ بخيوط أقصر، بين الخطّين المتوازيين، فصنعتْ سكّة حديد؟

 

لكنّ الكاتبة لم تستطع قَطّ أن ترسم قطارًا. لقد كانت تشاهد فيلمًا. ونامت بمجرّد أن انتهى. أخاط الليل عينيها. كلتاهما نامتا في وقتين مختلفين، لكنّهما استيقظتا في الوقت نفسه، وهذا لا يعني أنّهما المرأة نفسها، ولا ينفي ذلك. ولا حتّى هذا اليوم، ما هو؟ نحن في أيّ يوم؟

 

 

أحلام بشارات

 

 

كاتبة فلسطينيّة، ومدرّبة متخصّصة في مجال الكتابة الإبداعيّة. لها مؤلّفات في القصّة القصيرة، والكتب المصوّرة، والروايات، والمذكّرات. تعدّ من الأسماء المهمّة في الكتابة لروايات اليافعين في العالم العربيّ. تُرجمت كتاباتها إلى لغات عالميّة كالإيطاليّة والإنجليزيّة والألمانيّة.

 

 

التعليقات