11/08/2020 - 11:05

مأساة في كأس القهوة

مأساة في كأس القهوة

Getty

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة
لم تبارح زهراء فراشها أيّامًا، فقد اشتدّت عليها الحمّى، أمّا فاطمة فراح قلقها يتعاظم على أختها، وحاولت ردع المرض بما علّمتها أمّهما قبل أن ترحل، فأعدّت لها الحساء بكلّ حبّ وسقتها من مختلف الأعشاب، إلّا أنّ المرض في أحيان يشتدّ إلى حدّ تعجز الأعشاب والحساء عن ردعه. "لا بدّ من طبيب يا زهراء" قالت فاطمة، وأصرّت على إحضار الطبيب رغم رجاء زهراء ألّا تفعل، كيف لا وهما تعيشان في قرية السنونو النائية؟

كرّرت زهراء رفضها مرارًا، إلّا أنّ فاطمة حزمت حقائبها وعلى الرحيل عزمت، وقبل مغادرتها بمساء أمسكت بيد أختها وقالت: "رجاء يا زهراء، لا تتعبي نفسك وخذي من الراحة ما تحتاجين وأكثر؛ فقد يطول الغياب ريثما أجد السبيل". هزّت زهراء رأسها موافقة، وغادرت فاطمة القرية في فجر اليوم التالي، ومن شبّاك البيت المجاور لمحتها أمّ تحسين، وبتعابير منزعجة همهمت:  "بنات آخر زمن!".

وعلى ميعاد كأس القهوة اجتمعت الجارات في بيت أمّ تحسين لتناول الإفطار والأفكار حول ما يطهونه لغداء اليوم، وبدأت أمّ تحسين بتوزيع كاسات القهوة وهي تسرد لصديقاتها رَيْبَها من جيرانها: "الصغيرة منهما لم تخرج من البيت منذ أسبوع والكبيرة غادرت فجر اليوم، ولا أسمع من البيت حسيسًا، عجيب أمرهما"، وردّت أمّ خالد وهي تتناول كأس القهوة: "أبصر شو صاير مَعْهِنْ! عشان هيك بنفعش بيت بلا زلمة". "أجل أجل يا أمّ خالد" ردّت أمّ تحسين، وبعد انتهاء الإفطار والاتّفاق على المقلوبة غداءً لليوم، عادت أمّ خالد إلى بيتها لتكتشف أنْ لا قرنبيط في ثلّاجتها، فتناولت بضعة قروش وذهبت إلى سوق الخضراوات.

كان صباحًا جميلًا والسوق مزدحمًا، أصوات الباعة يصرخون:" الخيار البلدي الكيلو بعشرة شيكل"! كان موسيقى في أذنَيْ أمّ خالد، وقد توجّهت إلى بسطة خديجة، شابّة في العشرين من عمرها، تعمل مع والدها في السوق وتتمتّع بتكوين الصداقات، وحالما رأت أمّ خالد احتضنتها،" نَوَّرْتِ يا أمّ خالد، تفضّلي"، "النور نورك يا خديجة، أريد زهرة قرنبيط، أو اجعليها اثنتين... لو تعلمين يا عائشة، ماذا قالت لي أمّ تحسين اليوم! جارتاها الغريبتان لا تكفّان عن تصرّفاتهما المبهمة، فقد حبست زهراء نفسها في البيت منذ أسبوع ولم تخرج، وأمّا فاطمة فقد تسلّلت خارج البيت على عجل في ساعات الفجر!". نظرت عائشة بتعجّب وقالت: "الله يستر منهما، لا يعلم إلّا الله ما تحيك هاتان الغريبتان!". وأخذت أمّ تحسين ما أرادت من بضاعة ومضت، وأكملت خديجة عملها في السوق حتّى خيّم المساء، على القرية وأُنْهِكَتْ من التعب، جمعت صناديق الخيار والبندورة والخسّ، وهكذا انتهى موكب الخضراوات الجميل، ثمّ عادت إلى البيت.

في بيت خديجة، جلست العائلة بكاملها على العشاء، وبعد البسملة اندفعت خديجة بسؤال أبيها إن كان تجوّل حول بيت أمّ تحسين اليوم، وأجاب بالإيجاب،" أرأيت ذلك البيت المجاور لها؟ في داخله يحصل الكثير يا أبي! أمّ تحسين قالت إنّ لا أحد يدخل أو يخرج من البيت، وإنّ إحدى الفتاتين لم يظهر لها ظلّ من أسابيع، والكبيرة هربت مهرولة خارج القرية، والبيت خاوٍ كما لو سكنته الأشباح يا أبي، لنا الويل إن كانت تتهرّب من مصيبة فعلتها في البيت، مَنْ يعلم بيتًا بلا رجل ما قد يحصل فيه؟". حكّ أبو خديجة صلعته بيده ثمّ طرقها بالطاولة بغضب، "هذا ما كان ينقصنا، سحر وشعوذة! لا بل قرية السنونو قرية للسلام، سأعالج الموضوع بنفسي يا خديجة، لا تقلقي".

وفي هذه الأثناء كانت فاطمة تجوب شوارع المدينة بخوف وقلق، "طبيب، طبيب! أيّ طبيب يعالج أختي، بأيّ ثمن"، سارت فاطمة برجليها الباردتين أشدّ الطرق ازدحامًا وتعرّجًا، تحمّلت برد الليل وحرارة النهار، ولم يكن لقرقرة معدتها أن تؤثّر فيها للحظة وتبعدها عن هدفها الأكبر، إيجاد ترياق أختها العليلة. أمّا زهراء، فقد اشتدّت عليها الحمّى، وأصبحت أنفاسها أثقل فأثقل، وما كانت علّتها لتردعها عن القلق على فاطمة، وتمنّت أن تردّ لها صحّتها فتخرج من البيت لتتجوّل قليلًا، فقد ضاق بها البيت ذرعًا، إلّا أنّ مرضها قد كبّلها بأغلال منعتها من الخروج.

في صباح اليوم التالي خرج أبو خديجة إلى الشيخ سالم، مهرولًا على عجل، وحين وصل بيته قال بانفعال: "يا شيخ، لن يساعد قريتنا سواك، ولن ينقذنا شخص إلّا أنت"، فنظر إليه الشيخ باستغراب وقلق قائلًا:  "أخبرني يا أبا خديجة، ماذا جرى؟"،" تلك الفتاتان؛ فاطمة وزهراء، يُقال إنّهما يستعملان السحر، وقد انفلتت من أيديهما زمام الأمور، وسحرت فاطمة أختها ولم يرَ أحد زهراء منذ أسابيع، وأمّا الملعونة فاطمة فقد هربت تاركة لنا هذا البيت المليء بالجنّ والسحر!". لطم الشيخ على وجهه وأعلن حالة طوارئ قصوى، هرول على عجل إلى بيت السيّد أسامة، وقصّ عليه قصّة الساحرتين، مضيفًا أنّه سبق أن رأى في منامه منذ أيّام عدّة، أنّ مصيبة ستصيب قرية السنونو ما لم يعالجوها من جذورها.

وانتشرت قصّة الساحرتين في القرية الصغيرة كالنار في الهشيم، وقرّر الشيخ والسيّد أنّ من واجبهم الدينيّ والاجتماعيّ حتّى الإنسانيّ أن يحرقوا البيت؛ فبيت كهذا مليء بالسحر والشعوذة، بيت يسكنه الشياطين والجنّ، لذا عليهم أن يحرقوه إن أرادوا التخلّص من شرّه.

وفي تلك الأثناء كانت فاطمة تعدو في المدينة متشبّثة بالطبيب، فقد وجدت طبيبًا طيّبًا بما يكفي كي يوافق على الذهاب إلى قرية نائية لمساعدة أختها العليلة، إلّا أنّ ذلك تطلّب الكثير من الدموع. وهكذا كانت فاطمة في سباق لم تدركه.

انتصف الليل، وأحضر أهل القرية البنزين وعيدان الثقاب، وتلا الشيخ آيات من الكتاب الحكيم، وبلا أيّ تفكير أو تردّد، أشعل السيّد أسامة عود الثقاب، واحترق البيت، والمسكينة العليلة كانت غائبة عن الوعي، ولم تعلم أنّ غفوتها الجميلة هذه هي الأخيرة.

عادت فاطمة على هذا المنظر المرعب... "أتت الساحرة، أمسكوا الساحرة"، صرخ الجميع، نظر الطبيب بعجب إلى ما يحدث، أمّا فاطمة فألقت نفسها في النيران لتُخْرِجَ أختها، إلّا أنّ استنجادها وصرختها كانا شديدَي التأخّر. وقفت أمام الحشد صارخة:" قتلتموها، لقد قتلتم زهرة عمري، لست بساحرة أو دجّالة، أنا مجرّد يتيمة، يتيمة تحاول العيش بسلام مع أختها أيّها القتلة!". وساد الصمت طويلًا، العيون كانت مسلّطة على هذا المشهد، الناس قد تجمّدوا من هوله ولم يحرّك أيّ أحد منهم ساكنًا، وراحوا بوجومٍ ينظرون وينظرون...

 

 

* قصّة فائزة بجائزة "القصّة القصيرة لطلّاب المدراس - المرحلة الإعداديّة" (2019/ 2020)، الّتي تُنَظّمها جمعيّة الثقافة العربيّة، وهي تُنْشَر ضمن ملفّ خاصّ بالتعاون مع فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة.

للاطّلاع على بيان لجنة التحكيم الخاصّ بالمسابقة، ومسوّغات فوز هذه القصّة.

 

 

جنى محسن

 

 

 

15 عامًا، الصفّ العاشر، مدرسة الظهرات الشاملة، الفريديس.

 

 

 

التعليقات