14/08/2020 - 00:07

من يوميّات العدوان... تمّوز – آب 2006

من يوميّات العدوان... تمّوز – آب 2006

سيارة نازحين لبنانيين خلال العدوان الإسرائيلي عام 2006 | باتريك باز، أ ف ب

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

قبل أربعة عشر عامًا مرّت كأنّها اليوم، كنّا نجلس في بيوتنا ممنوعين من الحركة كما يحدث اليوم... لم تكن الكورونا يومذاك، ولا أنظمة الحجْر والتباعد الاجتماعيّ الّتي تلتها، هي الّتي منعتنا، إنّما الحرب، حرب لبنان الثانية 2006.

بدأت بكتابة يوميّات أسميتها "يوميّات العدوان"، جزءًا من التغلّب على روتين الحرب، وكان ذلك تحديدًا في اليوم الخامس عشر، 26 تمّوز (يوليو) 2006. كنت أدوّن في هذه اليوميّات مشاعر وأفكار وتعليقات على أحداث... تجربة أكسبتني القدرة والانتباه على أن أدوّن لاحقًا يوميّات الأسر، ولم أكن أعرف آنذاك أنّ أيّامًا كهذه ستأتي، نُحْجَرُ فيها بسبب فايروس.

أسميت يوميّاتي الأولى "يوميّات العدوان" وأسميت الثانية "يوميّات زوجة أسير"، ثمّ انتبهت عند قراءة أوراق "يوميّات العدوان" أخيرًا، أنّي كنت قد بدأت بمدوّنة سبقت هذه وتلك، يوم كنت عاطلة من العمل، أسميتها "يوميّات ربّة منزل"، ضاعت هذه وبقيت تلك وتلك. مرّت الأعوام، نسيت فيها "يوميّات العدوان"... لكنّ حائط الذكريات يُذَكِّرُني بها من جديد، فاخترت أن أشارك بعض ما كتبت في حينه.

***

 

القضيّة: وجهة نظر امرأة فلسطينيّة من العدوان الإسرائيليّ على لبنان.

المكان: خطّ جوّ حيفا – لبنان.

الزمان: تمّوز (يوليو) – آب (أغسطس) 2006.

 

الانتظار شعور قاتل، ألازم بيتي، أترقّب، أحاول أن أشغل نفسي ببعض الأمور المنزليّة، أنجح لبعض الوقت، لكنّ عينيّ وأذنيّ مُسَمَّرَة أمام شاشات التلفزة، وأمام نافذة بيتي الواسعة المطلّة على البحر، المتوجّهة نحو الأفق الشماليّ، تترقّب الآتي.

غريب هو الإنسان في حالة الحرب، أو - إن صحّ القول - في حالة الحرب المصطنعة؛ بهدف العدوان والتدمير. غريب كيف يعتاد الإنسان كلّ شيء، اعتدنا الانتظار واعتدنا الترقّب. اعتدنا البحث عن الصواريخ القادمة من الأفق، من عبر البحر الأزرق الممتدّ أمامنا كأنّه الأفق. بحر ينتهي عند رأس الناقورة ويتوقّف هناك، ليبدأ خلفه الأفق الّذي يبدو ضبابيًّا في أغلب الأيّام، وغير واضح في معالمه. حدود رسموها لنا وفرضوها علينا، ممنوع علينا عبورها؛ فكثرت من حولنا الحدود، وكثرت الحواجز، وكثرت الممنوعات، وصارت القاعدة شواذّ والشواذّ قاعدة... أبناء الشعب الواحد صاروا مشتّتين بين داخل وخارج، ممنوعين من التواصل.

تنطلق الصافرة تدوّي في فضاء حيفا، تخترق الأفق والهدوء النسبيّ، ثمّ تأخذ بالتلاشي والصمت قليلًا قليلًا، ثمّ نعود لنمارس ما كنّا نقوم به من أعمال أو من أعمال مصطنعة...

سقط جدار برلين، وارتفع جدار الفصل العنصريّ الإسرائيليّ، ليزيد حدودها الاحتلاليّة التوسّعيّة على حساب الأرض الفلسطينيّة والبيت الفلسطينيّ والإنسان الفلسطينيّ؛ فلا خريطة ثابتة ولا حدود ثابتة. ما بين خريطة الوطن وخريطة الطريق يضيع الإنسان الفلسطينيّ، ويفقد بيته، وتقلّ إمكانيّات الحراك والتنقّل لديه.

تنطلق الصافرة تدوّي في فضاء حيفا، تخترق الأفق والهدوء النسبيّ، ثمّ تأخذ بالتلاشي والصمت قليلًا قليلًا، ثمّ نعود لنمارس ما كنّا نقوم به من أعمال أو من أعمال مصطنعة، نقضي فيها وقتنا، ونقضي على الملل والتململ قبل أن يقضي هو علينا.

شرّ البليّة ما يُضْحِك أحيانًا، لم نعد نثق كثيرًا بالصافرة... صافرة الإنذار الإسرائيليّة؛ فهي تنطلق أحيانًا ولمرّات عدّة في اليوم بلا حدث يتبعها، تنذر باللاشيء، وأحيانًا أخرى تسقط الصواريخ قبل أن تنطلق هذه الصافرات. يراودني شعور بأنّ الصواريخ والصافرات تزاول لعبة "القطّ والفأر" في علاقتهما ببعضهما بعضًا.

الانتظار القاتل هو الأصعب في هذه الحرب، حرب تدور رَحاها بين قوّات جيش إسرائيليّة مدعومة بأجهزة دمار أمريكيّة، وبين قوّات لبنانيّة مقاومة، لا تعرف المعتدية عددها أو حجمها أو قوّتها؛ هي أيضًا "حرب القطّ والفأر" إن صحّ التشبيه، حرب تدور أيضًا على شاشات التلفزة، الّتي تصبح جزءًا من الحدث وجزءًا من الحرب.

كذلك الأمر هو بالنسبة إلى الشعور بالشلل، بالعجز عن الحراك والتحرّك الفعليّ والجسديّ. يشلّني ويكبّلني شعور المسؤوليّة والخوف على ابنتَيّ، ويمنعني من الخروج للتظاهر، كما اعتدت دائمًا. أخجل، أخجل من نفسي ومن قبوعي في المنزل، لكنّ شعور الأمومة يغلبني ويُبْقيني في البيت، خاصّة عندما ترافقه نداءات ابْنَتَيّ ألّا أتركهما وحدهما في المنزل. ولربّما كان هو أيضًا بعضًا من شعور الخوف؛ فهي أوّل حرب نشعر بها في عمق الدار. حرب الخليج لم تكن كذلك، ولم يكن لها هذا الوقع في نفوسنا، لم أكن حينذاك أمًّا، وكانت مشاعري تختلف. اليوم اختلطت الأمور ببعضها. هذه التسمية الّتي يطلقها الإسرائيليّون على الوضع: "حرب على البيت".

إذن، هي حرب بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، بين القطّ والفأر، بين احتلال ومقاومة. وقد اعتدنا، من خلال مشاهدتنا للرسوم المتحرّكة، أن نكون مع الفأر دائمًا أمام حربه ضدّ القطّ...

أنظر إلى شاشات التلفزيون وأرى مشاهد الدمار والموت الّتي تحيط بلبنان، أشاهد آثار الهدم العنيف الّذي خلّفته الطائرات والمدفعيّات الإسرائيليّة في أنحائه المختلفة، وأحزن. يؤلمني الصمت الدوليّ - بخاصّة - على هذه الجرائم.

الحقيقة أنّي فوجئت هذا الصباح من نفسي ومن شعوري؛ إذ فرحت بعض الشيء لدى سماع خبر قصف إسرائيل لمقرّ قوّات الأمن الدوليّ! قلت في قرارة نفسي "لربّما يكون هذا الآن هو ما يحرّك الدول الغربيّة، ويجعلها تفعل شيئًا لوقف هذا العدوان وهذا الدمار وهذه الإبادة الجماعيّة لشعب بأكمله، شعب يُقْتَل أطفاله يوميًّا، دون أن يحرّك العالم ساكنًا لفعل شيء ذي قيمة".

لم يفاجئني الموقف الدوليّ الّذي كان ينتظر هذه الحرب، ليُخْرِج كلّ ما في جوفه من حقد وعدائيّة للشرق ولحركات المقاومة. إذن، هي حرب بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، بين القطّ والفأر، بين احتلال ومقاومة. وقد اعتدنا، من خلال مشاهدتنا للرسوم المتحرّكة، أن نكون مع الفأر دائمًا أمام حربه ضدّ القطّ.

منذ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، منذ أن سقطت عمارتا التوأمين وسقطت معهما "عزّة" السياسات الغربيّة المسلّحة وعنفوانها، الّتي وُضِعَ لها هدفًا تحطيم كلّ ما يُسَمّى بحركات المقاومة، أُعْلِنَت هذه الحرب، ومن ثَمّ فإنّ هذه الحرب لا تفاجئني، ولا هذه المواقف الغربيّة؛ فهي متوقَّعة، ومتوقَّعة أيضًا مواقف بعض الدول العربيّة وقادتها، وليس شعوبها، تلك الّتي رأت في هذه الحرب فرصة للتخلّص من التهديد الداخليّ بمدّه الإسلاميّ. رؤساء خافوا على مقاعدهم فصمتوا عن جرائم إسرائيل وتغاضوا عنها. لا، لم يفاجئني ردّ فعل بوش الأرعن وهو يقضم طعامه بصوت عالٍ كعادته، في اجتماع الثمانية، لا، ولم يفاجئني المستر بلير أيضًا بتوجّهه المستهتر. الحقيقة أنّنا لم نكن في حاجة إلى أن تكشف لنا سمّاعات الإعلام الغربيّ، في لحظة خاطئة، ما يدور بين الاثنين من أحاديث في الخفاء؛ فهو عمليًّا الموقف ذاته الّذي يعلنونه جهارًا وعلانية بلا أيّ تردّد. قالتها أمريكا وتقولها، هي تريد نتائج عمليّة: القضاء على ما يُسَمّى المقاومة، فما من جديد في الأفق!

الأمر شبيه إلى درجة البكاء بقضيّة الكشف عن رواياتنا التاريخيّة وتثبيتها، نحن نعرف تاريخنا، وروايتنا يحفظها ظهرًا عن قلب كلّ لاجئ وكلّ مسنّ ومسنّة عاشوا النكبة وويلاتها المستمرّة، وكلّ مهجَّر ومهجَّرة عن أرضهم؛ فلماذا يحتاج بعضنا إلى المؤرّخين الجدد من الإسرائيليّين ليثبتوا لنا ما نعرفه؟

إنّي أتوتّر وأخاف عندما أشعر ببيتي يهتزّ تحت وطء قصف الصواريخ، القادمة من الجنوب اللبنانيّ، لكنّي أخجل من نفسي ومن شعوري، خاصّة عندما أرى آثار الدمار، في بيروت وفي النبطيّة، وفي صيدا...

أقول الحقّ، إنّي أتوتّر وأخاف عندما أشعر ببيتي يهتزّ تحت وطء قصف الصواريخ، القادمة من الجنوب اللبنانيّ، لكنّي أخجل من نفسي ومن شعوري، خاصّة عندما أرى آثار الدمار، في بيروت وفي النبطيّة، وفي صيدا وفي بنت جبيل، وفي مارون الراس، وفي لبنان بأكمله، أخجل من نفسي ومن خوفي.

لم تعد صافرات الإنذار تحثّ ابنتَيّ على القيام من مكانهما، والاختباء في أحد أركان المنزل الداخليّة. اعتادتا الصافرات واعتادتا الصواريخ. أحيانًا تطلب منّي ابنتي الكبيرة، الّتي تقارب الرابعة عشرة من العمر، أن نترك المدينة؛ أن نتوجّه تجاه القدس، كما فعلت بعض العائلات العربيّة الصديقة، ومن منطلق حماية أطفالها وتخفيف التوتّر اليوميّ الّذي يشعرون به، خاصّة أنّ شاشات التلفزة الإسرائيليّة تحتلّها البرامج العبريّة والناطقة باللغة العبريّة، الّتي لا تهتمّ بالطفل العربيّ، ولا يثير اهتمامها إلّا عندما تقدر أن تستعمله في دعايتها، وفي حربها ضدّ المقاومة، كما حدث مع الطفلين من الناصرة.

الطفل العربيّ الفلسطينيّ القابع في حيفا، لا ينتابه شعور الغضب والرغبة في الانتقام، وهو يتضامن مع الطفل اللبنانيّ والفلسطينيّ الّذي يسقط في غزّة، ويحزن من أجلهم.

سألتني ابنتاي عمّا سيحدث للأطفال في لبنان بعد انتهاء الحرب؛ كيف يعودون إلى مدارسهم، وأين المدارس الّتي يعودون إليها!

تحزن ابنتاي كثيرًا لأنّ عطلتهما الصيفيّة دمّرها القصف الإسرائيليّ الأرعن على لبنان، لكنّهما تسارعتا في التفسير بأنّ ذلك مؤكّد أنّه لا يساوي شيئًا، أمام حياة الأطفال اللبنانيّين الّتي دُمِّرَتْ بكلّيّتها.

***

 

ملأ الملل ابنتَيّ القابعتين في البيت منذ أحد عشر يومًا، انطلقنا إلى القدس يوم الأحد الماضي، المصادف اليوم الحادي عشر لبدء العدوان. فسّر زوجي موقفه بشكل واضح: "أنا لن أترك حيفا، بإمكاننا زيارة القدس لبضع ساعات". وهكذا فعلنا، زرنا أقارب لنا هناك، وعدنا إلى بيتنا في حيفا، وحيفا مدينتنا قبل أن تكون مدينتهم؛ فكيف نتركها؟ قالت لي إحدى القريبات التقيناها هناك: "أخشى أن يحدث معنا ما حدث مع أهلنا عام 48"، "ماذا تقصدين؟"، "أخشى أن نترك بيوتنا فيدخلوها ويحتلّوها!". هذا القول حثّني أكثر من ذي قبل على العودة.

أكثر ما يُضحكني في الأمر، كلبتنا الصغيرة الحجم واسمها لولا، الّتي اعتادت هي أيضًا الحرب؛ ففي الأيّام الأولى كانت تركض وتختبئ تحت السرير...

مرّت أيّام أخرى، ابنتي الكبيرة ملّت الجلوس في البيت، خمسة عشر يومًا دون خروج منه، هذا ما يدفعها إلى مطالبتي بزيارة القدس مجدّدًا. لم تعد تخشى صافرات الإنذار، فقد اعتادت هي أيضًا عليها. ينتابها الغضب وتصرخ على شاشات التلفزيون.

ابنتي الّتي بلغت التاسعة، لا تقلّ عنها حسًّا وطنيًّا وإنسانيًّا مرهفًا؛ فهي أيضًا تترقّب وتراقب، وهي أيضًا تتأثّر بالمشاهد الدمويّة وبالدمار الّذي يحدث في لبنان، وتعبّر عن رأيها في الأمر في كلّ حين. تحزن للأطفال الّذين سقطوا في القصف الإسرائيليّ، ولم تعد تخشى الصواريخ الساقطة في حيفا، رغم الرجفة الّتي تعلو جسدها لدى سماعها ارتطام الصواريخ ببعض المواقع في المدينة. لكنّها طفلة وتعرف أن تلعب أيضًا حتّى وقت الحرب؛ فهي تسارع بعدها بثوانٍ معدودة للعب، ولإلهاء نفسها بلعبة جديدة.

أكثر ما يُضحكني في الأمر، كلبتنا الصغيرة الحجم واسمها لولا، الّتي اعتادت هي أيضًا الحرب؛ ففي الأيّام الأولى كانت تركض وتختبئ تحت السرير، فور سقوط صاروخ أو لدى سماع الصافرة، وترتجف. أمّا في الأيّام الأخيرة فقد تبنّت أسلوبًا جديدًا عند حدوث ذلك؛ فهي تسارع للوقوف بجانبنا والانتظار، لكنّها هي أيضًا تلازمني خطواتي، وتلحق بي من مكان إلى آخر في البيت.

تنتهي الصافرة ثمّ نعود من جديد لممارسة حياتنا الروتينيّة الجديدة، الّتي اعتدنا عليها، وتعود لولا لحركتها[1].

***

 

فرّغنا اليوم غرفة الصالون المطلّة على البحر من بعض الأثاث، وسّعنا الحيّز البيتيّ، وأتحنا مجالًا أكبر للحراك. جهّزت لابْنَتَيّ حيّزًا أكبر للعب والحركة، وبدأنا نلعب التنس البيتيّ. الأمر المضحك الآخر أنّ البنتين تتقدّمان يومًا بعد يوم، وتكتسبان مهارات جديدة في هذه اللعبة. أصبحت لعبة التنس البيتيّ لعبة الحرب لدينا. طبعًا مع خلفيّة الأخبار اليوميّة الدائمة؛ فشاشات التلفزيون لدينا لا تقفل، وقد وجّهناها إلى قناة "الجزيرة" بشكل دائم. تتوقّف اللعبة بعض الحين؛ أحيانًا لانشغالي بالأعمال المنزليّة، أو للتغيير، أو لسقوط صاروخ، أو لانطلاق صافرة، أو لمشاهدة الدمار...

***

 

لم أقوَ في الأيّام الأولى للعدوان على الكتابة، رغم الشعور الكبير بالحاجة إلى ذلك، وهو شعور ينتابني عادة لحظة الأزمات والترقّب والتوتّر. بحثت أوّل شيء عن يوميّات أخرى، كنت قد بدأت بكتابتها عندما كنت عاطلة من العمل، وقد أسميتها آنذاك "يوميّات ربّة منزل". سجّلت يومذاك مشاعري وأفكاري كامرأة عاديّة، تجلس في بيتها عاطلة من العمل. صادفت كتابة تلك اليوميّات، لحظة تطويق قوّات الجيش الإسرائيليّ للمقاطعة في رام الله، لحظة محاولة اعتقال الرئيس الفلسطينيّ السابق أبو عمّار أو قتله. دوّنت فيها مشاعري الّتي رافقتني كربّة منزل عاطلة من العمل حينذاك، كامرأة اعتادت العمل والنشاط والنضال، تجلس في بيتها تترقّب وتراقب شاشات التلفزيون. دوّنت فيها مشاعر وأفكارًا اختلطت بالوضع السياسيّ والأمنيّ في حينه، اختلط فيها الخاصّ بالعامّ وتداخلا إلى درجة الذوبان. خطّطت مشاعري وأفكاري في ما يتعلّق بتطويق المقاطعة، وباعتقال البرغوثي، وبمحاولة اقتحام "كنيسة المهد" لاعتقال المقاومين المعتصمين - المختبئين هناك.

الجديد هو الصافرات الّتي تنطلق في سماء حيفا، وهو أمر نعتاده مع الوقت كما يبدو، لكنّه أمر لا تعتاده طيور السماء، الّتي يقضّ مضاجعها هذا الدويّ وهذا الأزيز المتواصل...

لم أنجح اليوم في أن أجد هذه اليوميّات، سأحاول البحث عنها مجدّدًا؛ فلديّ نسخة في مكان ما. سأبحث أيضًا عن نسخة إلكترونيّة، بالتأكيد حفظتها لنفسي في الكمبيوتر البيتيّ. 

لم تُجْدِ محاولاتي نفعًا، يا خسارة! ضاعت يوميّاتي تلك ولم أجدها.

غريب هو الأمر ومضحك إلى درجة البكاء؛ كيف تتكرّر الأحداث والمشاهد وتتشابه! في الأمس كان أبو عمّار محاصرًا ومُهَدَّدًا، ودُمِّرَت المقاطعة على مَنْ فيها، وكان المقاومون المعتصمون في "المهد" هم العنوان، وكانت بيت لحم مغلقة ومحاصَرة، واليوم تحاصَر غزّة ونابلس ورام الله مجدّدًا، ويُسْتَهْدَف لبنان برجاله وقُراه وعائلاته، بشبابه وشيوخه، بنسائه وأطفاله، بقُراه ومدنه، بجسوره وشوارعه؛ فما الجديد في الأمر!

الجديد هو الصافرات الّتي تنطلق في سماء حيفا، وهو أمر نعتاده مع الوقت كما يبدو، لكنّه أمر لا تعتاده طيور السماء، الّتي يقضّ مضاجعها هذا الدويّ وهذا الأزيز المتواصل؛ فقد تلخبطت لديها البوصلة الداخليّة، وتبلبل التوقيت الزمنيّ. في الأمس، في ساعات المساء، رأيت سربًا من الطيور المهاجرة في اتّجاه الشرق. منظر غريب وغير مألوف في هذا الوقت، وفي هذه الساعة من اليوم. انتصر أزيز الطائرات المتوجّهة للقصف في بيروت على طيور السماء! وهجّرها كما يُهَجَّر الإنسان؛ فنزحت الطيور إلى مكان آمن آخر، لكنّ الإنسان في لبنان ليس لديه مكان نزوح، فهو مُسْتَهْدَف في كلّ موقع وفي كلّ مكان، والقصف والاجتياح يتواصلان ويمتدّان نحو الشمال. يبدو أنّ مرحلة ما بعد بعد حيفا قد بدأت!

....................

[1] حين قرأت هذه الأسطر حزنت؛ لأنّ لولا، كلبتنا الّتي عاشت معنا 16 عامًا توفّيت السنة الماضية، فارقتنا وكان فراقها صعبًا. طوال تسعة أعوام الّتي كان فيها زوجي أسيرًا، كنّا أنا وابنتاي نتساءل: هل ستصمد لولا حتّى التحرّر؟ وحدث ذلك فعلًا، وانتظرت، شاخت ولم تعد ترى جيّدًا، وضعف جسمها، وأصابتها نوبات اعتقدنا أنّها ستموت بعدها لكنّها انتظرت. فارقتنا لولا بعد التحرّر بشهرين... تسع سنوات انتظرت ثمّ فارقت الحياة بين يديّ... كان فراقها صعبًا علينا جميعًا؛ فقد كانت جزءًا من بيتنا ومن حياتنا طوال هذه السنين.

 

 

جنان عبده

 

 

محامية وفنانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب "الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48" عن "مدى الكرمل". تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.

 

 

التعليقات