25/08/2020 - 08:11

برزخ

برزخ

كيركولوس بريتوس

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

مَنْ فقد بصره لا يرى إلّا مساحات من بياض شاسع.

مَنْ فقد سمعه لا يسمع إلّا موسيقى هادئة، ولا شيء آخر.

هذا ما أؤمن به مذ كنت صغيرًا.

في الحرب يسيطر الخوف، في الخوف يتمدّد الزمن...

لم تكن في زاوية الغرفة قطّ، كانت في منتصف الحائط، مقابل باب الدخول تمامًا، فوق الشبّاك الوحيد للغرفة، هذا ما أكاد أجزم به وأنا بالكاد أستطيع التنفّس، ذرّات الغبار تنسحب من حولي وتذوب، رائحة من عطن مقرف ورطوبة خانقة.

 كم عمر الوقت المنقضي الآن؟ لا يُهِمّ...

 سواد بارد مخيف، طبقات ودوائر هلاميّة سوداء، دائرة، اثنتان، ثلاث، ألف، ألفان، تحاول الخلاص، تستمرّ في التنقّل بعنفوان، تبدّل أماكنها باستمرار، وأنا أغفو وأستيقظ على الدوام.

الحروب خطايا، والخطايا ذنوب المخطئين، لا وقت للاعتذار ولا آبه بالمشاعر؛ فأنا لا تغريني الحروف، وأفضّل الشتاء الّذي يغسل الروح ويبعثها من جديد، واقعيّ حدّ الملل، خياليّ حدّ الهروب؛ الهروب من عالم متناقض يشعل الحروب بحجّة السلام، متناقض كما أنا الواقعيّ الّذي يحبّ الخيال، أنا تائه ولا أعرف أين أجد الخلاص، أنا تائه كصوت في زحمة سير.

كم عمر الوقت المنقضي الآن؟ لا يهمّ...

وكأنّني أسبح في فضاء بعيد عن صخب هذا العالم، بلا صوت، بلا حروف، بدون كلمات، بدون اعتذار، بدون حديث فارغ. أستمرّ في السباحة ولا شيء آخر، هنا في بلادنا عندما تحلّ الحرب ستستمتع برياضة التأمّل، كلّ ما عليك التزام غرفتك وعدم الخروج منها. ملجؤك الوحيد جدران وسقف قد يتحوّل إلى حطام قبر يحتويك، وخوفك الّذي لا يتّسع له هذا الكون بمساحاته الشاسعة. هنا في بلادنا كلّ الأشخاص يجيدون وصف الحرب، إن سألت أحدًا عنها فسيجيبك بكلّ تفاصيلها، لن يترك لك مجالًا لتغفل عن حديثه وحروفه للحظات، سيجذبك من ياقتك ليقول لك: هنا الجحيم يا هذا...

ظلام، هدوء، دوائر بيضاء باهتة تستمرّ بالتنقّل بعنفوان مفرط.

كم عمر الوقت المنقضي الآن؟ لا يهمّ...

في الحرب يسيطر الخوف، في الخوف يتمدّد الزمن...

وتنقضي أعقاب الوقت ببطء كرجل عجوز، نشغل أنفسنا عن خوفنا القابع خلف جدران البيت، بحفظ تفاصيل جدرانه من الداخل، هنا شبّاك، على مسافة متر ونصف من اليسار زاوية الغرفة، وعلى اليمين أيضًا، باب بنّيّ باهت مكوّن من نصفين، كحياتنا تمامًا باهتة منقسمة إلى نصفين، الأيّام الّتي تمضي مصحوبة بالحروب، والأيّام الّتي تخلو من حروب، أضحى ثَمّ تقويم ثالث، ميلاديّ، هجريّ، حرب، كلّ نصف من هذا الباب مكوّن من ثمانية مربّعات، لون الغرفة مختلف باختلاف عوامل الطقس؛ فالحائط القريب من الشبّاك أقلّ زرقة من الحائط الداخليّ الّذي يقبع في منتصفه باب الدخول، ما زلت مصرًّا على أنّ تلك المروحة الحديديّة الصغيرة، الّتي جلبها لي والدي لتخفّف عنّي حرّ الصيف، لتساعدني على إنجاز فروضي الدراسيّة بشكل أفضل، كانت في منتصف الحائط ولم تكن في زاوية الغرفة، حيث أرقد أنا على سريري؛ فما الّذي أتى بها إلى هنا حين قُصِفَ البيت؟ القلم أيضًا مغروس في فخذي اليمنى، كيف هذا وقد كان جاثمًا على الطاولة بهدوء هناك؟ كيف تنام المروحة في أحضاني بعد أن كانت تبعد عنّي بضعة أمتار في أعلى الحائط؟ أذوب من جديد في سوادي البارد، تبلعني الدوائر البيضاء المتناثرة، وأهذي.

كم عمر الوقت المنقضي الآن؟ لا يهمّ...

في الحرب يسيطر الخوف، في الخوف يتمدّد الزمن...

كنّا نجتمع كلّ صباح نرتشف بعض الشاي كعادة أسريّة وموروث قديم، ولأنّ الخوف في الحرب يسيطر، فإنّ الرجفة تصبح أساسًا وما سواها استثناء، فقضت تلك الكأس المسكينة آخر لحظات حياتها بين يديّ المرتعشتين، قبل أن تهتزّ المنطقة بأكملها معلنةً قصف بيت قريب، بسرعة قالت أمّي: انكسر الشرّ. لو أنّ الشرّ فعلًا انكسر في كلّ مرّة قالت أمّي فيها ذلك، ما كان حال العالم الدمويّ كالآن، إن كُسِرَ شيء فقد كُسِرَ الشرّ، إن اندلق شيء فقد اندلق الشرّ، يا تُرى، ما الأشياء الّتي تُجَمِّع كلّ هذه الشرور الّتي تُكْسَر وتُدْلَق باستمرار دون أن تنتهي؟ دائمًا كُسِرَ الشرّ، دُلِقَ الشرّ، ما الأشياء الّتي إن فعلناها فقد يجتمع هذا الشرّ؟

كم عمر الوقت المنقضي الآن؟ لا يهمّ...

قالت أمّي بسرعة: انكسر الشرّ، صرخ أبي في وجهي، اعتذرت، انسحبت إلى صومعتي، عدت أتأمّل تفاصيل الغرفة الّتي حفظتها، لا حلّ آخر، تأمَّل فقط، استرجع ماضيك، اصنع خيالًا، جرّب أشياء لم تجرّبها من قبل، فكلّ ما تمتلكه في الحرب "الخوف والدموع"، والشيء المشترك بينهما أنّ الاثنين لا جدوى منهما، عدت محبطًا، غرقت في نفسي، أغمضت لدقائق وانقطعت عن الوجود، صوت القصف كان يقترب، رأيت بيوتًا تتهاوى كقطع الدومينو واحدة تلو أخرى، وكلّ ما نفعله الانتظار. فتحت عينيّ من جديد، جلست على المكتب أسفل شبّاك الغرفة الوحيد كما أنا، ورقة بيضاء وقلم، انسابت الحروف من بين أصابعي، انتشلتُ حلمًا قديمًا أيقظه موقف أبي قبل قليل، كتبت بكلّ عفويّة:

"لماذا يتحدّث الجميع باستمرار؟ توبيخ، اعتذار، عتاب، كلمات، حروف، تهديد، وعيد، تخلّفها دائمًا مصائب وحروب. كم تمنّيت أن يصدح العالم بخلفيّة موسيقيّة دائمًا، لموزارت أو شوبان أو بيتهوفن، أو الثلاثيّ جبران ربّما! كم كنت أودّ لو تكون الموسيقى أصلًا وما سواها استثناء، خلافًا للنظريّة الفيزيائيّة الشهيرة "السكون أصل وما سواه استثناء"! حين يقرّر أحدهم الحديث تسكت الموسيقى فيمتعض الجميع، ويشعر المتحدّث بعدم أهمّيّة حروفه فيسكت. تعود الموسيقى من جديد فيقفل العالم فمه إلى الأبد، وتتغذّى الروح على النقاء والطهارة، وتصبح الشرور المندسّة في حروف البشر لا معنى لها إطلاقًا، لأنّها ببساطة لن تخرج، لا حاجة إلى الاعتذار إن لم نخطئ، لا حاجة إلى الحديث أصلًا كي لا نخطئ. الإنصات إلى الموسيقى هو الحلّ الأمثل لينعم الكون بالسلام والراحة الأبديّة، خلفيّة العالم الموسيقيّة هي الحلّ الأمثل.

لذلك... ارفعوا أيديكم إلى السماء، ابتهلوا، ابكوا كثيرًا، وتمنّوا حدوث ذلك...  

أضع قلمي فيغفو بجوار الورقة الممتلئة بمشاعري الغبيّة. أصوات الجحيم والحمم تقترب، وأنام نومًا لانهائيًّا، أستيقظ فيه على سواد بحت ودوائر هلاميّة بيضاء كثيرة، كنت أؤمن بأنّ مَنْ فقد سمعه يمشي وخلفيّته في الحياة موسيقى دائمًا، ولا يسمعون شيئًا آخر، وأنّ الّذين فقدوا أبصارهم، يرون نورًا أبيض ناصعًا دائمًا، تمامًا كما أتخيّل الفردوس بياضًا وموسيقى هادئة، ولا شيء آخر.

هذه المرّة قبل غفوتي وهذياني المستمرَّيْن، شقّ هذا السوادَ البارد خيوط من نور بعيدة، هربت الدوائر الهلاميّة من أمامي، طاقة من نور أبيض واسع فُتِحَتْ، امتدّت أيادٍ كثيرة تحاول انتشالي، أغوص من جديد في هذياني، لا أشعر بشيء، أنا مُمَدّ في العدم.

كم عمر الوقت المنقضي الآن؟ لا يهمّ...

عندما استفقت من غفوتي هذه المرّة، كنت أرى بياضًا ناصعًا، وفي الخلفيّة موسيقى هادئة إلى الحدّ الّذي لا حدّ له؛ فلم أعرف... أأنقذوني من تحت ركام البيت المقصوف فذهب سمعي وبصري، أم أنا في عالم آخر؟ متى سأستيقظ؟

كم عمر الوقت المنقضي الآن؟ لا يهمّ...

 

 

* قصّة فائزة بـ "جائزة نجاتي صدقي للقصّة القصيرة للكتّاب الشباب"، دورة عام 2020، الّتي تنظّمها وزارة الثقافة الفلسطينيّة. وقد تكوّنت لجنة تحكيم الجائزة هذا العام من: صافي صافي، زياد خدّاش، أماني الجنيدي.

تنفرد فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة بنشر القصّة بإذنٍ من كاتبتها.

 

 

محمّد غنيم

 

 

كاتب فلسطينيّ من مواليد عام 1992، يقيم في مخيّم النصيرات للاجئين في قطاع غزّة. حاصل على بكالوريوس اللغة العربيّة من "جامعة الأقصى"، ويعمل في "مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ". صدرت له رواية "في خانة الذكرى" (2018).

 

 

التعليقات