29/11/2020 - 21:25

مواء

مواء

sitchu

 

للحفل في الداخل هيبة أبهرت الموظّف الشابّ وقذفت في صدره شعورًا ثقيلًا بالخضوع. أتمّ دقيقتين من الانتظار عند باب أكبر قاعات الشركة، متردّدًا في الانضمام إلى المحتفلين في الداخل، بينما جسده النحيل يواصل ارتعاشه الخفيف أثناء مراقبته لهم. في بيئته الّتي غادرها إلى هنا للعمل، لم يعتد أجواءً مثل هذه؛ حيث موظّفو الشركة متحرّرون هذا المساء من ترتيباتهم الرسميّة الّتي كبّلتهم بداية النهار، آخذين مَداهم في العبث والممازحة. وبينما التوتّر يُخَشِّب أطرافه، لمحته مسؤولة شؤون الموظّفين فأسرعت إليه وشدّته من ذراعه إلى الحفل.

هذه المرّة الأولى في ما تذكّر، الّتي تشدّه من ذراعه كفٌّ طريّة لامرأة ليست أمًّا له أو أختًا، ولا عمّة أو خالة. ليست ممرّضة في مشفى، ولا هي وهمٌ يتدلّى من سقف حلم. وإلى جانب جاذبيّة انتمائها إلى ما سوى محيطه المألوف من النساء، هي امرأة لم يرها تقلّ حسنًا في زيّ عملها قبل ساعات، عنها في ملابس السهرة الآن. إقبالها البشّ إليه هذا المساء ذكّره بوقع لقياها الأوّل في نفسه لدى التحاقه بالوظيفة؛ وقعٌ جعل قلبه حينها أشبه ببالون من رهبة لذيذة، يترجرج بحرارة متفاوتة ورعبٍ لامفهوم، وكأنّما هو على رأس دبّوس.  

أن يحدث وتشدّه من ذراعه امرأةٌ تثير فيه هذا الإحساس الغامض غير المعتاد، يعني أنّ لديها القدرة على جرّه إلى قعر الجحيم، لو أرادت. مع هذا، ولحسن طالعه تلك الساعة، لم يخطر في بال المسؤولة جرّه إلى قعر الجحيم، بل اصطحبته إلى ما يعتبره دون هذا بقليل؛ التعرّف وجهًا إلى وجه إلى مَنْ تعرّف إليهم سابقًا إلكترونيًّا من زملائه العاملين.

ماذا كان سينتقص من بهاء هذه الحسناء لو أنّها اصطحبته بدلًا من هذا إلى طاولة القهوة، ودردشت معه حول أسبوعه الأوّل في الوظيفة؟ فكّرَ، قبل أن يستسلم إلى دوّامات التعارف بين الموظّفين الجدد والقدامى، الّتي احتملت من السرعة والتكلّف ما أعياه وأشعره بالاغتراب. وللنفاذ من هذا الشعور، عكف بين الدوّامة والأخرى على استحضار صورة القطّة، الّتي لجأت إلى مدخل شقّته الصغيرة قبل أيّام تموء جوعًا، من غير أن يدري سبب الطمأنينة المشوّقة الّتي تغرسها هذه الصورة الذهنيّة في نفسه، خصوصًا عند تخيّله القطّة متلفّعة بغطائه الدافئ بجانب السرير، بينما تخدر عيناها في نعاس آسر، تمامًا كما كانت في الحال الّذي تركها عليه قبل مغادرته الشقّة هذا المساء.

"تبدو شديد الخجل في تناول الطعام، ألهذا أنت بهذه النحافة؟ خذ لك هذا الطبق"... باغته أحد المديرين المخضرمين في الشركة بطبق حلويات ألقاه عنوة في حضنه، دافعًا إيّاه إلى تلقّفه. لكنّ الشابّ ابتسم وهو يعيد الطبق إلى صاحبه ويعلّل رفضه: "أتمنّى لو أقدر، لكنّه السكّري إن فاتك الانتباه، مدوّن بشأنه في ملفّي".

بعفويّة بدت صادقة، أرخى المدير كفًّا حانية على كتف الشابّ، وأجاب: "أعتذر إليك، لم أنتبه للأمر في ملفّك. مع هذا فقد تنبّأت منذ رأيتك بأنّ نحافتك مَرَضيّة، لكنّ قطعة حلوى صغيرة لن تضرّ، أليس كذلك؟"... وقدّم إليه الطبق ثانيةً في إصرار أوحى إلى الشابّ بالتقدير!

برغم أنّه استوعب المفارقة في شعوره بالتقدير ذي السكّر الزائد من المدير، إلّا أنّ الشابّ أباح لنفسه الانسياق في الإيحاء الخلّاب لهذا التقدير، وتناهى إليه أنّ الموقف بات يتعلّق بلباقته في التصرّف، لا بظرفه الصحّيّ، فالتقط قطعة حلوى من الطبق وألقاها في فمه، وكأنّه مدين بهذا الفعل إلى المدير أمامه. ما لبث أن أحسّ بأنّ هذه اللقمة حلوة المذاق، أضفت من حلاوتها على فضاء الحوار مع محادثه وقرّبت بينهما. بل ومن ثَمّ، وكأنّ هذه اللقمة السحريّة ألانت أطرافه المتخشّبة وضخّت الحيويّة فيها، فأقبل يتنقّل بين موائد الحفل كوميض من الطاقة، ومن على كلّ مائدة يستهلّ حضوره متناولًا قطعةً جديدة من الحلوى، مثّلت طريقته المُكْتَشَفَة في التآلف مع الآخرين.

"لعلّ هذا ما يسمّونه البعد الاجتماعيّ للطعام!"، راقت له الفكرة وهو يتأمّل تفاعله الاجتماعيّ الحلو هذا المساء، الّذي استحقّ عليه خلال السهرة لفتات ثناء عديدة من مسؤولة شؤون الموظّفين، جعلته يتسلّق برجًا عاجيًّا من مكانه.

بعد أن تبادل الحاضرون، مخضرمين وجددًا، أرقام هواتفهم وعناوين حساباتهم الإلكترونيّة كافّة، وأخذ عنفوان محادثاتهم بالخفوت، بدأت حلقاتهم تنفضّ شيئًا فشيئًا عن الموائد، تاركةً إيّاها كأحشاء فرائس مبقورة. ومع آخر المغادرين، غادر الموظّف الشابّ إلى شقّته، محمولًا على نسيم النشوة، إلى حدّ أنّه لم ينتبه كيف وفي أيّ مدّة وصل.

كانت القطّة في انتظاره خلف باب الشقّة، فقد جاعت في غيابه، وعبثت بمطبخه باحثةً عمّا تأكل، فلم تجد ما يخمد جوعها. ولمّا شاهدته، هبّت تمسّد جسدها بين ساقيه بنعومة وتموء مواءً منغّمًا، وكأنّها تعزف له!

قهقه لنفاق القطّة الفطريّ مدركًا جوعها، ثمّ داعبها قليلًا قبل أن يتّجه نحو الباب الوحيد الّذي استعصى على عبثها في مطبخه، باب الثلّاجة. لكنّه ما كاد يصله حتّى فقد توازنه، فتراجع خطوتين إلى الخلف وأسند جسده إلى الجدار المجاور. عَلِم أنّ لحظات قليلة تفصله عن غيبوبة، فاته الحذر منها وهو يبتلع قطع الحلوى الواحدة إثر الأخرى. حملقت القطّة فيه وهو يبتعد عن الثلّاجة، واتّسعت عيناها القلقتان، ثمّ رفعت جسدها في زاوية مستقيمة على باب الثلّاجة، وعلا مواؤها؛ مواءٌ أقلّ لطافة هذه المرّة، تخالطه حدّة خفيفة تشي ببوادر غضب. ما لبثت أن تعاظم غضبها وأخذت تضرب بساعديها القصيرين على الباب الّذي لم يُفْتَح.

ستنقذه إبرة الإنسولين الجاهزة في دولاب غرفة نومه إن وصلها، لكنّه عَلِم أنّه لن يستطيع قطع الأمتار القليلة إلى هناك. سترجف ساقاه لحظتين أو ثلاثًا، قبل أن تخور قواهما فيهبط أرضًا، ثمّ في ثانية واحدة سيجتاحه فقدان الإحساس في أعضائه، من القدمين فأعلى إلى أن يفقد وعيه. وكلّ ما يستطيع النجاة بفعله قبل حدوث هذا هو سحب هاتفه من جيبه وضرْب زرّ إعادة الاتّصال بأحد العناوين الأخيرة الّتي حادثها.

بالكاد قَوِيَ على سباق الوقت وهو يرفع هاتفه من جيبه، ويتذكّر في اللحظة ذاتها أنّ الأرقام الّتي ضربها في الساعة الأخيرة كانت جميعًا لموظّفي الشركة، في أثناء تبادلهم أرقام بعضهم بعضًا. ليسوا أفضل مَنْ يستنجد بهم في هذه الساعة المتأخّرة، كان يعي هذا، لكنّه كان يعي أيضًا أنّه في ظرف حياة أو موت، الأرقام كلّها بمنزلة أرقام نجدة.

ضرب زرّ إعادة الاتّصال بالرقم الأخير المُسَجَّل، وحضّر نفسه لصرخة استغاثة بمجرّد أن يفتح الطرف الآخر المكالمة. لكنّ الطرف الآخر أقفل استقبال المكالمة بعد دقّتين. وهكذا فعل الّذي يليه. أمّا مشرفة شؤون الموظّفين، فبقي هاتفها يدقّ ويدقّ، حتّى هبط الشابّ أرضًا، وأخذ صوت كلّ دقّة يطول في مسمعه ويذوب ببطءٍ لانهائيّ، وكأنّ الرقم المطلوب سادر في سرمد الكون الموحِش. ما لبث وعيه أن سقط في غمامة بيضاء، لا اتّجاهات فيها، لا نأمة أو أثر لشيء.

ماءت القطّة وجالت مرّات عدّة بين باب الثلّاجة والجسد المتكوّم أرضًا، حتّى حَدَست بانقطاع العلاقة السببيّة بينهما. ثمّ قفزت على حافّة النافذة، واستطاعت غرس يدها في الشقّ النحيف ما بين زجاج النافذة وإطارها، فوسّعته بالقدر الّذي يسمح لجسدها المرور. ومن هناك قفزت إلى الشارع، فكادت تضربها إحدى المركبات.

توقّفت المركبة بعد زحلقة مروّعة سبّبها الظهور المفاجئ للقطّة، ونزلت منها على الفور سيّدة رقيقة تغطّي جبينها المخدوش بمنديل ورقيّ، وتهرول للاطمئنان على هذا الحيوان الصغير الّذي نجا بأعجوبة. ولمّا وصلتها، لعقت القطّة حذاء السيّدة، وماءت مواءً راجيًا مستعطِفًا، فانحنت السيّدة إليها ومرّرت أصابعها في شعرها بإحساس يفور ذنبًا، ثمّ حملتها معها في المركبة، وتابعت القيادة إلى بيتها.

 

 

ميس داغر

 

 

كاتبة قصّة قصيرة تقيم في بير زيت. لها مجموعتان قصّصيّتان، "الأسياد يحبّون العسل" (مركز أوغاريت للنشر، 2013) و"معطف السيّدة" (الأهليّة للنشر والتوزيع، 2017)، ورواية لليافعين "إجازة اضطّراريّة" (الأهليّة للنشر والتوزيع، 2016). حاصلة على جائزة الكاتب الشابّ من مؤسّسة عبد المحسن القطّان لعام 2015.

 

 

التعليقات