04/02/2021 - 18:46

مقتطف من رواية «رام الله»

مقتطف من رواية «رام الله»

الغلاف (منشورات المتوسّط)

 

«رام الله»، رواية جديدة للروائيّ الفلسطينيّ عبّاد يحيى، صدرت عن «منشورات المتوسّط - إيطاليا»، 2020.

تحكي هذه الرواية مدينةَ رام الله، في مدىً زمنيّ يقارب مائة وخمسين عامًا. فهي تقدّم ما يبدو سياقًا لتحوّل قرية صغيرة في ظلّ الحكم العثمانيّ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، إلى مدينة تتداخل فيها الأزمنة وتنقطع فيها المصائر، وصولًا إلى الزمن الحاضر. ما يجعل الرواية تقترح إجابة سرديّة على سؤال: كيف آلت المدينة إلى ما آلت إليه؟

بين الأحداث التاريخيّة الكبرى الّتي مرّت بها مدينة رام الله، وبمستويات سرد متباينة في اللغة والبناء، يكتب الروائيّ الفلسطينيّ عبّاد يحيى، سيرةً للمدينة، للمكانِ وناسه. ينفذ إلى طبقات المدينة ووجدانها، وإلى شعاب المشاعر الجمعيّة والفرديّة لمَنْ عاشوا فيها في أطوارها المختلفة، ومثلما يفعل منقّب الآثار، يسير الكاتب بأناةٍ في تاريخ ووجدان ولاوعي مدينة رام الله، ليبنيها حجرًا حجرًا، وحكايةً حكايةً، من خلال سيرة دار آل النجّار الّتي ستصبح كلمة سرّ المكان، ويصبح بيت العائلة في مآله عبر التاريخ حجرَ أساس الحكاية، وذاكرةً ترويها حجارة قديمة، وقصّةً متشعّبة تركِّب في مستويات أخرى، أعمق وأبعد، وجهَ رام الله، المدينة (الناشر).

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، مقتطفًا من الرواية، بإذن من الكاتب.

.......

 

بعد يومين من سماع صدى المعارك، الرشاشات وقذائف الهاون على أطراف اللدّ الشرقيّة، رأى داوود عطا الله الجيش الإسرائيليّ، بعد شهرين من إعلان بن غوريون استقلال إسرائيل. رآه كتيبة دبابات وكوماندوز من لواء يفتاح، تخترق اللدّ من أقصاها إلى أقصاها في وهلة. دبّ الفزع في الناس، وفي الكرّ والفرّ بين القوات الصهيونية والمقاتلين العرب، كان الخوف أسرع، فهرب شطر وافر من أهل البلد للنجاة بحياتهم. وحين سقطت اللدّ، جمعت قوات النخبة الإسرائيلية، من بقي من أهل البلد وجردتهم من كل ما معهم من مال، ونزعت حليًّا من أعناق النساء ومعاصمهن. وخطّوا لهم طريقًا، وألزموهم بعبوره. وهو يغادر وأهله اللدّ لم يسمع داوود عطا الله إلا بكاء وهدير مركبات وتداعي سناسل.

أُجبروا على المرور بطريق محدّدة في الوعر بين جمزو ونعلين. وحين وصلها لم يتذكّر إلا سالم النجار وهو يسمع الناس يقولون إنهم مواصلون صوب رام الله.

منذ أبريل ورام الله مقصد الهاربين من الموت وأخباره، المتأملين عودة بعد حرب سريعة. على مدار ثلاثة أيام في أواخر أيار تغير الطائرات على دار عودة حيث مقر قيادة الجيش العربي، وتدك أطراف رام الله ملاحقة اللاجئين الذين نزلوا في الحواكير والأراضي ومعهم أهل رام الله. تحاول الطائرات بغاراتها دفعهم ليواصلوا درب آلامهم بعيدًا عن رام الله، ولكنهم يتشبثون بالعراء، بالشجر والسناسل والحيطان والمباني، تعبوا من المسير.

لم تفلح الطائرات في تشريد الكتلة البشرية التي انتهت إلى رام الله وما حولها من قرى. أفلحت في هزّ حيطان دار النجار وتكسير زجاج النوافذ المغلقة، وإخفاء قمر حنة.

حول المدارس ومقر المقاطعة الذي تسلّمه الجيش الأردني بعد انسحاب الإنجليز، بات الناس لأسابيع، لا يحرّكهم إلا العطش، والماء شحيح لا يكفي أهل رام الله، فكيف سيروي الآلاف الوافدة؟ في ساحة الحرجة وضعت خزانات، وقفت النساء في طوابير طويلة يحملن التنك وينتظرن. فرّ ذوو مال وسعة من أهل رام الله إلى أريحا وعمّان، ينتظرون انقضاء الحرب.

بعد شهرين وفد الدفق الذي وجد داوود عطا الله نفسه وأهله فيه. على طريق تقطعه سيارة في ساعتين، تحت شمس ذاك التموز مات ماشون عطشًا، حرّ الطريق نشّف أجسادهم، طلبوا الماء وما وجدوه فتساقطوا. وهو ينظر إلى المدى تبخّره الشمس ظنّ داوود أنه لن ينجو من العطش.

فتحت رام الله كنائسها، ومن الكنائس فتحت البيوت، تقاسم الناس بيوتهم. "هؤلاء إخوتكم في تجربتهم الأقسى، لا ينالهم جوع ولا عطش وهم بيننا"، قال الخوارنة والقساوسة ووجوه رام الله. حمت كل طائفة أبناءها ونفرت لإيوائهم، كأن تشريدهم يجب أن ينتهي في رام الله.

يجوب سالم الكنائس، ويعود للمدرسة والدار، يمنع نفسه من البكاء على حال الناس، ينفجر فيه ضعف طفولة بعيدة، وهو يتجاوز السابعة والأربعين من عمره. يعود إلى هيلانة ويقول إنهم سيستضيفون دار عطا الله في بيتهم. ترحب هيلانة، تقول حتى تزول شدتهم، "ربنا يباركلك يا سالم". يأتون إلى الدار ينزلهم سالم في الغرفة الكبيرة، غرفة المرحوم بطرس، كما تسميها هيلانة، بعد أن هجرتها منذ موته ووضعت على حافة نافذتها الطويلة أرجيلته بآخر ماء عبرت فيه أنفاس أبو خليل.

وضع داوود وزوجته وديعة وأبناؤه وابنته ما حملوا من متاع في أرض الغرفة. يسحب سالم داوود وأبناءه إلى الشرفة، فتدخل هيلانة وفرحة وحنة على النساء يواسينهن. يجلس الرجال خارجًا يشربون القهوة وينظرون إلى رام الله لا تنام منذ وصلها اللاجئون، همس يخرق الليل ولا يهدأ، كأنه عويل خافت وأسئلة عن القادم. النساء يبكين في الغرفة، تتساءل زوجة داوود عن إخوتها وأهلها وتصلي معها هيلانة أن يكونوا بخير، "بكرة والا بعده بتطمنوا عليهم". أما الرجال فصامتون كأن في الدار ميتًا.

أسبوعان، وأيقن داوود أنهم لن يعودوا إلى اللدّ، وأنه لم يعد يملك من الحياة إلا عائلته الصغيرة وما حملوا من ذهب ومال، لا يدري كيف تدبّروا إخفاءه. حتى أهل زوجته صاروا في مكان غير معلوم من لبنان. أما وديعة فتروي لهيلانة ما حدث كأنه تتذكر حلمًا: "أبو يعقوب ويعقوب وعزيز وإفلين سبقونا، أبعدوهم عنا، ظلّيت بعدهم بالدار وأجوا عليّ اليهود وقالولي اطلعي وراهم، سليم ما قدر يمشي من الرعبة، يما امشي امشي، ومش قادر. عندي ماكينة خياطة بشتغل عليها، قلت لازم أوخذها، اشتغلت عليها عُمُر، خفت تروح. بس كيف بدي أحمل سليم وماكينة الخياطة؟ حملته ومشيت فيه تقولي مثل هون والبير – تشير إلى فم البئر الواضحة في أرض الدار – وحطيته، ورجعت أحمل الماكينة وأوصلها لعنده، وبعدين أحمله وأمشي فيه شوي وأحطه، وأرجع أجيب الماكينة وأحطها بجنبه، وظليت أنقل فيه وفيها... متر بمتر ... وفتر بفتر... لحتى طرف البلد...". سكتت وديعة، كأنها رأت نفسها، تحمل سليم وتمشي عدة خطوات، تضعه أرضًا ثم تعود للماكينة، تحملها وتمشي بها حتى موضع سليم، تضعها ثم تحمل سليم وتمشي... دمعت عيناها وغصّت... "ما قدرتش يا أم خليل. خلّيت ماكينة الخياطة وحملت سليم ولحقتهم".

انتقل الدمع من عيني وديعة إلى وجه هيلانة، بدا لها أن كل ما ضاع لا يساوي ماكينة الخياطة. لم تجد في نفسها قوة لتقول لأم يعقوب: "فدا اظفر ابنك، وبكرة بتجيبي أحسن منها".

أولُ الشتاء يغيّر البشر، يعيدون اكتشاف إحدى النعم الأهم، نعمة السقف. وأول شتاء بعد التهجير غيّر أهل رام الله. وجود اللاجئين في خيام يلعب بها المطر وتتراكلها العواصف جعل استشعار نعمة السقف مضاعفًا وغريبًا.

وهيلانة تراقب تراكم ثلج ذاك الشتاء، خافت من تقدم حياتها. أفزعها زوال عز هؤلاء في غفلة من زمن، لم تحتمل ما تسمع من قصص وأخبار، يجفلها كل كلام عما مضى من حياة الناس، ويفزعها التبدّل. تنظر في حياتها، وتتخيل نفسها في عراء يطمسه الثلج. تقول لنفسها إنها لن تحتمل فاقة ولا عوزًا، لن تتّرس مثل هؤلاء النسوة بالصبر والقسوة، لن تسترجع طرائق إشعال النار وخياطة الثياب ومقابلة البرد. لن تقوى على سؤال أحد عونًا أو مساعدة ولن تطلب حاجة.

أخاف هيلانة تغيّر أحوالها، توجست من أنه لا يصلح لبلاد الخيبات والنوازل.

ثم صلّت لأنها لم تُختبَر، ظلت ترفل في أحوال حسنة تروزها بأحوال الناس وتقول إنها نجت. تمنّت كل خير للناس حتى يهدأ قلقها من الفارق. كل هذا وهيلانة في دارها وتسمع الأخبار من ناقلين مقتصدين أو ترى من بعيد غبشًا، لو أنها ذهبت الى الجلزون، نظرت في الوجوه المريضة والأيادي الجائعة، وقفت على زوال خير وشاهدت انكسار نفوس عزيزة طلبًا لغطاء واستجداء لحفنة شاي تحت صقيع الثلج، لكانت عادت إلى دارها فزعة، اقتعدت الأدباش تحت الزيتونة وحملت فأسًا تعتذر للأرض وخيرها، لمسحت من عمرها سنوات الدعة الثلاثين محتاطة لقلبة الأيام واندثار الخير كأنه هباء.

لم تجر عينا داوود عطا الله بأي دمع منذ وصل رام الله، أيقن أن شطرًا من الحياة جديدًا سيبدأ فيها، كان استسلامًا مبكرًا، سيسميه بعد سنين، خبرة بالحياة. لم ينخدع بوعود العودة القريبة، سيخفف عليه هذا من فداحة الخسارة الكبرى. لم يهلك ذهنه في التفكير بتعويض ما خسر، ديون له على مهجّرين لا يعرف أين صاروا، ومصالح وتجارة وأرض ودار في اللدّ. سيجلس مع سالم، يضع أمامه كل ما يملك من ذهب ومال ويقول له: "هذا اللي معي، شو بدي أسوّي؟".

يصحبه سالم في مشي طويل في رام الله، يعرّفه على كل شيء فيها، الأراضي والنواحي والحارات والشوارع، يقول سالم إن هذا طريق يافا، ويصير عند داوود الطريق إلى كل ما ضاع. يقتربان من صفوف طويلة من خيام اللاجئين، هذا الموضع سيصير مخيم الأمعري، ينظران من بعيد، يوقن داوود أن رحمة ربه تمثّلت بسالم.

 

 

تسمية

 

روائيّ فلسطينيّ، أصدر خمس روايات: «رام الله الشقراء» (2013). «القسم 14 (2014)، «هاتف عمومي» (2015)، «جريمة في رام الله» (2017)، «رام الله» (2020). حاز منحة «كاتب في المنفى» عن «منظّمة القلم الألمانيّ» (PEN-Zentrum Deutschalnd) في 2017، ورشّح في «القائمة القصيرة لجائزة حرّيّة التعبير من منظّمة مؤشّر الرقابة» عام 2018. حاصل على درجة الماجستير في علم الاجتماع من «جامعة بيرزيت».

 

 

التعليقات