15/02/2021 - 19:26

مريد البرغوثي... حيرة المولود في مكان الولادة

مريد البرغوثي... حيرة المولود في مكان الولادة

مريد البرغوثي (1944 - 2021) | عدسة مصطفى أبو سنينة

 

غيّب الموت المفاجئ الشاعر الفلسطينيّ الكبير مريد البرغوثي، مؤلّف كتاب «وُلِدْتُ هناك، وُلِدْتُ هنا»، الّذي يقول فيه ما لا يُقال.

أصدر البرغوثي مجموعة من الأعمال الشعريّة، منها: «قصائد رصيف» (1980)، وهو من الدواوين الّتي يؤرَّخ بها ظهور القصيدة العربيّة القصيرة جدًّا، وكذلك «طال الشتات» (1987)، و«ليلة مجنونة» (1996)، و«منطق الكائنات» (1996)، و«الناس في ليلهم» (1999)، و«رنّة الإبرة» (1999)، و«زهر الرمّان» (2004)، و«منتصف الليل» (2005). ومن المختارات: «عندما نلتقي» (1993)، و«قصائد مختارة» (1997). وتُرْجِمَ بعض أعماله إلى عدد من اللغات، وفاز كتابه «رأيت رام الله» (1998) بجائزة أفضل كتاب لتلك السنة، وهي جائزة تُمْنَح من «الجامعة الأميركيّة» بالقاهرة.

والكتاب الّذي نحن في صدد الحديث عنه، وتذكير القارئ بما فيه من متعلّقات السيرة الذاتيّة للشاعر الكاتب، «وُلِدْتَ هناك، وُلِدْتُ هنا» (2009)، سيرة تجتمع فيها ذكريات المنفى: في القاهرة، وفي بودابست، وفي بيروت، وفي عمّان، وفي دمشق، وفي غيرها من مدن.

 

رام الله لم تعد رام الله

عندما كان يُسْأَل مريد عن مكان ولادته تتكرّر الإجابة دائمًا: "وُلِدْتُ هناك"، ثمّ يستدرك قائلًا: "وُلِدْتُ هنا"، وهذه المفارقة تطوح بالكاتب، فإذا هو في شقّة من بناية «المكحّل» في الفاكهاني ببيروت، وفي «أستوديو الإذاعة» في البناية المقابلة حيث الفنادق، الّتي كان يستقبل هو وزملاؤه من الشبّان وفود العالم فيها، ومنظّماته المدافعة عن حقّ الفلسطينيّين في تقرير المصير.

 

غلاف الكتاب

 

يسمح مريد لخياله أن يقفز بنا تارة إلى الماضي، الّذي تجاوزته السنون، وتارة إلى المستقبل، عندما يتحدّث عن وقائع ستحدث في رام الله لاحقًا، أو في القدس بعد أن يقوم شارون بزيارته المشؤومة إلى الحرم القدسيّ الشريف.

ومؤلّف هذه السيرة سبق له أن زار عام 1996 رام الله، وكانت الأولى في سلسلة زياراته إلى الأراضي المحتلّة عام 1967، بل تجاوزت ذلك إلى زيارة يافا وعكّا وحيفا والناصرة، وغيرها من مدن الوطن السليب. وكتب آنذاك كتابًا عنوانه «رأيت رام الله»، وصف فيه ما شاهده من تغيير قسريّ فرضه الاحتلال على الناس، وعلى المكان؛ فلم تَعُد رام الله هي رام الله الّتي عرفها صغيرًا ويافعًا وشابًّا مراهقًا، بعد أن غابت عنها مظاهر البهجة، الّتي كانت في الماضي تجعل منها كعبة القلوب، ومحَجّ الأفئدة.

 

رسمٌ بالقصّ

ها هو في هذا الكتاب، الّذي يعيده هو وابنه الوحيد، تميم، الّذي وُلِدَ في مصر، وعاش بعيدًا عن والده سنوات طويلة، لا يلتقيان، إلّا لمامًا، في بودابست، أو في بيروت، أو في عمّان، يعيدهما معًا ليتعرّف الابن أريحا، ثمّ رام الله، فالقدس الّتي ذهبا إليها متسلّلَين، أو كالمتسلّلَين، تارة في سيّارة إسرائيليّة تحمل لوحة أرقام صفراء اللون، أو في عربة إسعاف. ثمّ دير غسّانة وغيرها من أمكنة، تعيد لمريد ذكريات الماضي.

يضعُنا الكتاب - في الواقع - وجهًا لوجه أمام الصعوبات الّتي تواجه الفلسطينيّين، وكأنّ الاحتلال لم يكفهم؛ فجاء رجالات «السلطة»، فيما يؤكّده المؤلّف، ولا سيّما الفاسدون منهم، ليزيدوا الطين بلّة، والعذاب الشديد عذابًا جديدًا.

في هاتيك الجولات، يرسم لنا المؤلّف، بأسلوب قصصيّ شيّق، ما يعانيه الفلسطينيّون في ظلّ الاستعمار، وفي ظلّ «السلطة الفلسطينيّة»، فكلّ اتّفاقيّات السلام الّتي يجري عنها الحديث، وقيام السلطة الّتي تتناسل أعلامها على سطوح الأبنية والمكاتب والمؤسّسات، مشروط بموافقة ضابط إسرائيليّ، ولا يستطيع أحد، مهما كانت جنسيّته، وأيًّا كان أصله، أن يجتاز معبرًا من المعابر، برًّا أو بحرًا أو جوًّا، دخولًا أو خروجًا، إلّا بتصريح إسرائيليّ وأختام إسرائيليّة، والتحقيق مع أيّ شخص، وإعادته إلى حيث أتى، أو إرساله إلى أحد السجون في «نَفْحَة» أو «مَجِدّو» أو «المسكوبيّة»، وهذا احتمال وارد جدًّا، لا يُسْتَثْنى منه رفيع أو وضيع، حتّى رئيس «السلطة» نفسه لا يُسْتَثْنى من ذلك. وهنا يذكر المؤلّف أسماء وزراء من «السلطة»، وبرلمانيّين بلغ عددهم ثمانية وعشرين نائبًا، بمَنْ فيهم رئيس «المجلس التشريعيّ» عزيز الدويك، اعْتُقِلوا دون ذكر الأسباب، لا لشيء إلّا لأنّهم لم يتمتّعوا برضا قاعدة البيانات لدى الكمبيوتر الإسرائيليّ.

 

مثل سائح في القدس

وما يذكره المؤلّف - ها هنا - يهون كثيرًا عمّا يذكره في موضع آخر، عندما يتعثّر هو، وتميم ابنه، وقريب لهما يُدْعى حسام، في طريق الذهاب إلى القدس؛ فالعذاب الّذي يلقاه الفلسطينيّون عند الحواجز عذاب لا يكاد يوصف، ولكن أكثر ما يحزّ في النفس أن ينظر إليه الأهالي في البلدة القديمة باعتباره سائحًا؛ فمريد البرغوثي، الّذي هو من فلسطين، يظنّه المقدسيّون كأيّ أجنبيّ، لأنّهم يرون ابنه يحاول التقاط صورة أمام «قبّة الصخرة»، ليحملها معه إلى أمّه في القاهرة؛ فالقدس أرض محتلّة بجيش عنصريّ، وظيفته الوحيدة أن يفصل جسد المؤلّف ومَنْ هو مثله، ويفصل صوته، وخطواته، وذاكرته، عن المدينة، ومنعه كغيره من الفلسطينيّين من الوصول إليها ولو على سبيل الزيارة، كأنّ القدس في نظر هؤلاء معسكر يتكدّس فيه الجنود، وأصابعهم على الزناد، لا مدينة كسائر المدن.

 

فساد متورّد الخدّين

يضعُنا الكتاب - في الواقع - وجهًا لوجه أمام الصعوبات الّتي تواجه الفلسطينيّين، وكأنّ الاحتلال لم يكفهم؛ فجاء رجالات «السلطة»، فيما يؤكّده المؤلّف، ولا سيّما الفاسدون منهم، ليزيدوا الطين بلّة، والعذاب الشديد عذابًا جديدًا.

يقول المؤلّف في الفصل السابع، واصفًا أحد المسؤولين: "لم يكن من كبار فاسدي السلطة، بل مجرّد فاسد صغير مبتدئ، يوجد الآلاف مثله في أيّ مكان. الفاسدون الكبار لم يَعُد مرآهم يثير إلّا اللامبالاة. فسادهم كلاسيكيّ ولا مزيد. أمّا هو فخرّيج جامعيّ بدأ حياته العمليّة فاسدًا، فساده يافع، وطازج، ومتورّد الخدَّين، قويّ العضلات؛ فهو يمارس رياضة كمال الأجسام، ويدلـّك نفسه إن لم يجد مَنْ يدلـّكه...".

هذه المشاهد الكثيرة الّتي تقشعرّ لها الأبدان، وصفها لنا مريد البرغوثي بلغة توحي بالكثير المُضْمَر، في أداء واقعيّ يشي بالصدق الّذي يجعل من كتابه هذا وثيقة تقول ما لا يُقال، وتُري القرّاء ما لا يُرى...

تضاف إلى هذه المعاناة أساليب أخرى من بثّ الرعب والفزع، في صفوف المواطنين الأبرياء، ولا سيّما في مخيّمات اللاجئين. لقد أنشأ الإسرائيليّون جيشًا من الإرهابيّين الّذين يتنكّرون بملابس عربيّة، ويغطّون الرأس بالكوفيّة والعقال، ثمّ يتسلّلون إلى البيوت، ويثقبون الجدران، ويخترقون المنازل، واحدًا تلو الآخر، تارة يعتقلون وتارة يقتلون، دونما تدقيق في هويّات ضحاياهم من الآمنين.

هذه المشاهد الكثيرة الّتي تقشعرّ لها الأبدان، وصفها لنا مريد البرغوثي بلغة توحي بالكثير المُضْمَر، في أداء واقعيّ يشي بالصدق الّذي يجعل من كتابه هذا وثيقة تقول ما لا يُقال، وتُري القرّاء ما لا يُرى؛ فهي لذلك تستحقّ أن يُنْعِمَ القارئ فيها النظر من حين لآخر. هذا إذا لم تبادر إحدى الشركات المنتجة للأفلام والمسلسلات التلفزيونيّة، إلى تحويله إلى سيناريو متعدّد الحلقات.

 

 

إبراهيم خليل

 

 

أكاديميّ وناقد يقيم في الأردنّ؛ حاصل على الدكتوراه في الدراسات اللغويّة من الجامعة الأردنيّة؛ عمل محرّرًا في عدد من المنابر الإعلاميّة، منها "جريدة الشعب" والمكتب التنفيذيّ لشؤون الأرض المحتلّة. يعمل اليوم أستاذًا في الجامعة الأردنيّة، وله عشرات الأبحاث والمؤلّفات في الأدب، والنقد، والدراسات اللغويّة.

 

 

التعليقات