07/06/2021 - 17:00

خمسة أسفار لابنة يوسف

خمسة أسفار لابنة يوسف

لوحة للفنّان العراقي محمّد مهر الدين

 

متلازمة

لا حدَّ لي مُذ صرتَ أنتَ الحدُّ

أجثو، فيرفعني إليك المدُّ

 

كالبرق كنتَ تلوحُ، لو أبصرتَني

عمرًا يزيدُ، وخافِقًا يسوَدُّ

 

فعلى أكُفِّ الريح مُرُّ قصائدي

وعلى جناح الليل ما يشتدُّ

 

وكفى بأنَّ يدًا - لفَرطِ عطائها -

عني تُرَدُّ، وعنك لا ترتدُّ

 

فبأيِّ عينٍ أشتهيكَ ردَدتني

وبأيِّ لحظٍ لا يثور الخدُّ؟

 

أنا ما بَصرتُ مداك، كيف مدَدتَ لي

جسرَين من أشياءَ لا تمتدُّ

 

أسرجتَ صدريَ ما يضيءُ لُهاثُه

ونفختَ فيه ما يحارُ البردُ

 

علّمتَني الأسماء، إلّا أحرفًا

يُبْدينَ من عينيكَ ما لا يبدو

 

ها نحن إذ نمشي نحاورُ ظلَّنا

تعدو بنا الدنيا ولسنا نعدو

 

يا وردُ كل تمائمي مُصفرَّةٌ

بالكاد جرحيَ أخضرٌ، يا وردُ

 

لغتان للدنيا وستةُ أوجُهٍ

فلننتظِر ماذا يقولُ النردُ

 

***

 

النساء

في هذه الساعةِ المستحيلةِ

من عثرة القلب والقدمِ...

النساء يفرِّطنَ بالكحل أم بدَمِي...؟

 

النساء بمشيتهِنّ الخفيفة

ينسجنَ فوق الشوارع

أغطيةً للعُراة

وأغنيةً للرُّعاة

وحبلاً كعمريَ يمتدّ في العدمِ...

 

النساء بأحرفهنّ القصيرة

يُخفين من لغة الحُسن عمرا طويلا...

يؤجّلنَ برق السماء قليلا...

يُلقّحنَ خدَّ الملائك بالزهر

والنهرِ من أعيُن الخَدَمِ...

 

النساء بأخطائهنّ الجميلة

يحفظنَ تاريخ أنفاسِ صدري

ويختمنَ فوق الرئَةْ...

منذ بضع سنينَ أضعتُ الهواء

وما زالت الروح مهترئَةْ...

كيف أصنع من هيكل الوقت

أرجوحة الندمِ...؟

 

في هذه الساعة المستحيلة 

من عثرة القلب والقدمِ...

النساء يُشَعشِعنَ في العدمِ...

النساء يلطّخنَ أوجههنَّ ببعض دمِي...

 

***

 

حواريّة

"الريح بالمجّان، فلنرحلْ"

أقول لصاحبي الخشبيِّ،

يشعلُ نفسَه

فأرى انتظاريَ ليلتَين

 

"الحبرُ للتجار، فلنكتبْ"

أقول لصاحبي الورقيِّ،

يَقلبُ نفسه

لأرى القصيدة مرّتَين

 

"الليل للسُّمار، فلنسهرْ"

أقول لصاحبي القمريِّ،

يطفئُ نفسَه

ويضيءُ بالغمازتَين

 

"الموت للأسماء، هل نحيا؟"

أقول لصاحبي الأبديِّ،

يمعنُ في دمي

فنصير أجملَ نجمتَين

 

***

 

خليقة

أعطِهِ رزنامة، وليقتسِم

بيدرَ الأيام صبحًا ومساءْ

لا غدا الموتُ إذا تغدو النساءْ

سيئًا، والعمرُ بالحظ الدسِمْ

 

أعطِه غمّازة وليبتسِم

ولتكُن في أنّةِ المزمار روحْ

وعلى الماء شفاهٌ لا تبوحْ

والغِوى في كل خدٍّ مُرتسِمْ

 

أعطِه صبّارةً وليتّسِم

بالضجيج العذب أو بالعفويّة

ربما في غير هذي المِئويّة

نُخبر الناموسَ أمرًا قد قُسِم

 

أعطِه الواجب حتى لا يضيعْ

مُفرَدًا فيه، ورَهنا بالجميعْ

علّهُ يدرك ما ليس لدَيه

ها هو الآن بصيرٌ وسميعْ

 

أعطِه الأسماءَ لكِنْ لا تُسَمِّهْ

قد عرفناهُ وقد كِدنا لأُمِّه

يحفران الصّدغَ ينبوعَ لبَنْ

ويجِفّان ليَبتلَّ الوطنْ

 

أعطه الموجة حتى يتناسَى

واجعل الأحوال نصًّا واقتباسا

كلُّها بِضعٌ به معدودةٌ

لم يكن يستاهلُ الأمرُ أساسا

 

أعطِه تفاحة ولنَنقسِم

وليكن ما بيننا هذا الرِّهان

إن يَهُنْ يوماً فإنا لا نُهان

وكذا الأمرُ استباقًا قد حُسِم

 

***

 

خمسة أسفار لابنة يوسف

 

السفر الأوّل: رؤيا

دلّني الماء عليها

لم تُدلِّلها ثيابْ

 

كانت الرقعةُ صحراءً

وكان الخوف بابْ

 

ويدي من لوعةِ البدء

وتموزٍ وآبْ

 

موجسًا قلبي عليها

كلما أومأَ ذابْ

 

السفر الثاني: تكوين

 

السفر الثالث: تغريبة

أسْدلَ الوردُ أجفانهُ واستحَمّا...

بماء الصباحْ

على غفلةٍ من هديرِ السماواتِ هَزْهَزَ عُودَ الرياحْ

فأخجَلَهُ كيف أنّ الملائكَ

تأتيهِ من رِقةِ الصّوتِ لحْماً ودَمّا...

وكان الوِشاحْ

على كتفيهِ، يلفُّ غِوايتهُ الأبديةَ

يمتدُّ من أوّلِ الكونِ

حيثُ يدُ اللهِ كانتْ تلوّنُ سِربَ فَراشٍ

يُتِمُّ به الخَلقَ

ثمّ ليَشهَدَ أنّ رُؤَى أنبياء الجنوب تجيءُ مَذاقاً وشَمّا...

وأنّ يدَ الليلِ حُرّةْ

تزوغُ أصابعُها كلَّ مرّةْ

وتزرعُ في كلِّ شِبرٍ حِكايةْ

هناك وفي لُجّةِ البئرِ كانت تُترجِمُ للعابرينَ مَناماتِهِم

وتخُطّ على صفحة الماءِ آيةْ

تَغَمّدَها السِرُّ عُمراً طويلاً

لتتركَ في نفسِ يعقوبَ إحدى وعشرينَ غايةْ

تَقَضّى الزمانُ، ولَمّا...

كذلك كان يُريدُ بهِ اللهُ أمراً وتمّا...

 

السفر الثالث: تغريبة

بريداً خفيفاً من اللهِ جِئتُ

كأنّيَ نِصفُ نَبيْ...

والرّياحُ التي تسرقُ الآنَ شعرِيَ

بالأمسِ كانتْ تَقُدُّ قميصَ أبيْ...

كان صخرُ الغريب حِصاناً بريئاً

تربَّصُهُ في المساء عِصِيُّ شيوخ المدائنِ

فانبَجَسَتْ شهوةُ السجنِ بي قبلَ أن أَلِجَ الكونَ

ذلكَ أخّرَنيْ...

ولم يكُ من صاحبٍ لأبي يفتديهِ

سِوى حالِمٍ أكلتْهُ الطيورُ

وأنْسَتهُ عُمراً ليذكُرَنيْ...

وتَبْيَضَّ عيناهُ يعقوبُ شَوقاً؛ فَلمْ يَرَنيْ...

فكَمْ كان ينقُصُنا من دراهِمَ

كيما نقرِّبَ من صَحوة البِئرِ

أو نشتري سُلّماً للحياةِ...

وكمْ كان شَطْرُ النبوّةِ صعباً بلا مُعجزاتِ...

وكمْ كان سَوطُ العزيزِ رقيقاً

وكم كان عاتيْ...

والنّساءُ اللواتيْ...

تَلَوَّينَ حتى يَخِطْنَ قِماطِيَ بِنتاً لَهُنَّ

تقَطّعْنَ لكنّني لم أكنْ كالبناتِ...

تَرَفَّعْتُ عن بَرقِ أعيُنهنَّ غماما خجولاً

يُحجِّبُني وأنا أنثني

لألُمَّ أصابعَهُنَّ عن الأرض لَمّا...

وأصابعُ كَفِّي تُحَسِّبُ غُربَتيَ البِكْرَ

جَدّاً وخالاً وعَمّا...

كذلك كان يُريدُ به اللهُ أمراً، وتَمّا...

 

السفر الرابع: تأويل

السماواتُ على مهلكَ في الصبح طباقا قد أتَينْ

والأمانيُّ قطوفًا

ذلكم يحدث في الخمسين عاماً مرتَين

وأنا أستتبِعُ الأمر ولو عِشتُ ثمانين كسوفاً

 

لا تحدِّثني ولكن قُصَّ لي

كيف نفَّضتَ جزيئاتِكَ عن بِلَّورِنا

فاحتلمَ الزنبق بالمصباح من بردٍ

وبالماءِ نكايَةْ

هذه كلُّ الحكايَةْ؟؟

ثمَّ ماذا

 

قد يشيخُ الحلمُ ما بين احتمالاتي وبَيني

ونرَى في القلب ماءً، ودمًا في المقلتَينِ

كلُّنا في البحر ماءٌ، كلُّ ماءِ البحر عَيني

أين أنتِ الآن لو أدري، ولو تدرينَ أينِي

 

السفر الخامس: صلاة

ألِفٌ لامٌ وميمْ

أيّهذا الوجه حنّانٌ كريمْ

 

قدَرٌ أن نسقفَ البحر وأن لا يعجبَكْ

وقضاءٌ منك أن تجري السفينة

 

تعجزُ النّسوةُ - مِمّا تحبلُ الشمس بحبّات الندى - أن تنجِبَكْ

ويَنِزُّ الوجدُ من رَحمِ المدينة

 

ثمَّ ماذا

وعلى أيِّ صراطٍ نستقيمْ

أيها الوجه الكريمْ


 

بهاء الدين السيوف

 

 

 

شاعر ومترجم من مواليد عمّان، درس اللغة والأدب الإسبانيّين، ويترجم الشعر من الإسبانيّة إلى العربيّة. منصبّ على إعداد دراسات في اللسانيّات العامّة وأصول اللغة، ويعمل مدقّقًا لغويًّا في مجال الإعلام.

 

 

التعليقات