11/08/2021 - 23:37

المثقّف الخنزير والمثقّف الحمار... كما رآهما جورج أورويل

المثقّف الخنزير والمثقّف الحمار... كما رآهما جورج أورويل

rockpapershotgun.com

 

"الجبن الفكريّ في هذا البلد هو أسوأ عدوّ يواجهه الكاتب أو الصحافيّ، ولا يبدو لي أنّ هذه الحقيقة قد حازت على النقاش الّذي تستحقّه"[1].

هكذا يكتب لنا جورج أورويل، في مقدّمة سعى إلى إرفاقها لكتاب «مزرعة الحيوانات - Animal Farm» عند نشره. أُحيلت المقدّمة إلى الرفّ، ولم تُنْشَر إلّا بعد وفاته عام 1972 تحت اسم «حرّيّة الصحافة» (The Freedom of the Press). أمّا الكتاب نفسه، «مزرعة الحيوانات»، فقد نُشِرَ عام 1945، ويُعَدّ من أهمّ كتب الحكاية الرمزيّة السياسيّة والهجاء والديستوبيا، الّتي نُشِرَت في القرن العشرين. صعوبة العثور على ناشر للكتاب شجّعت أورويل على كتابة إدانة للجبن الفكريّ للناشرين والكتّاب والصحافيّين.

في هذه المادّة، أدّعي أنّ القراءة التحليليّة لشخصيّات الخنازير والحمار الّتي تظهر في الكتاب، قد تكشف عن صورة مركّبة ومتعدّدة الطبقات، ليس فقط للمثقّف في نظر أورويل، لكن أيضًا لأورويل نفسه مثقّفًا.

في هذه المادّة، أدّعي أنّ القراءة التحليليّة لشخصيّات الخنازير والحمار الّتي تظهر في الكتاب، قد تكشف عن صورة مركّبة ومتعدّدة الطبقات، ليس فقط للمثقّف في نظر أورويل، لكن أيضًا لأورويل نفسه مثقّفًا.

في الكتاب، يروي أورويل قصّة مجموعة من الحيوانات الّتي تكافح السيّد جونز، مالك المزرعة، وتتمكّن من طرده منها. بعد طرده، تأخذ الخنازير زمام الأمور، وتدير نظام حياة الحيوانات الأخرى ونهجها. بسرعة كبيرة يتطوّر في المزرعة حكم صارم، يبدأ يشبه حكم صاحب المزرعة السابق، ومن هناك تتصاعد الأحداث، ويتحوّل حكم الخنازير في المزرعة شموليًّا.

هذا الكتاب يحكي قصّة رمزيّة لتصاعد الشيوعيّة السوفييتيّة في عهد جوزيف ستالين. في بداية الكتاب يمكن المرء أن يرى صراعًا بين سنوبول (ندفة الثلج) ونابليون، وهما خنزيران ذكيّان وقويّان، يتوافقان في الواقع مع التنافس بين ليون تروتسكي وجوزيف ستالين. في كلتا الحالتين، التاريخيّة والاستعاريّة، تتعرّض شخصيّة مثقّف المُثُل الأضعف سياسيًّا (تروتسكي وسنوبول) للاضطهاد والطرد بعد الثورة، من قِبَل المثقّف العنيف (ستالين ونابليون) وأتباعه. ثمّة تشابه مهمّ آخر بين محاكمات ستالين الاستعراضيّة المصمّمة لهزيمة خصومه، والاعترافات الكاذبة، وعمليّات الإعدام الّتي تقوم بها كلاب نابليون للحيوانات الأخرى في المزرعة.

 

شخصيّات المزرعة

الكتاب نفسه يكشف عن موقف متشكّك ومريب، خاصّة تجاه النشاط الفكريّ بشكل عامّ، وضدّ المثقّفين بشكل خاصّ. محو الأمّيّة بين حيوانات المزرعة، تمثّل استعارة لدعم الثقافة والفكر عامّة وتشجيعهما. جميع الحيوانات في الكتاب قادرة على الحديث، لكنّ القليل منها فقط تمكّن من اكتساب القدرة على القراءة والكتابة، وعلى رأسها خنازير المزرعة. إلى جانبهم، ثمّة كذلك حمار المزرعة، بنيامين، الّذي تمكّن أيضًا من اكتساب القدرة على القراءة والكتابة. آخر مَنْ أجاد القراءة والكتابة، كان كلاب المزرعة. تمثّل كلٌّ من هذه الشخصيّات صورًا مختلفة للمثقّفين في المجتمع، ومن خلال تصميم الشخصيّات ووصفها ووصف نشاطها وعملها ومصيرها، يعبّر أورويل عن موقفه تجاه كلٍّ من الصور المختلفة للمفكّر، الّتي تظهر في كتابه.

وصفت القصّة الخنازير بأنّها أكثر الحيوانات ذكاء. "ولمّا كانت الخنازير هي أذكى الحيوانات فقد تكلّفت بمهامّ التنظيم ونشر الدعوة بين الحيوانات الأخرى" (ص 17)[2]، وبالطبع كانوا أوّل مَنْ تعلّم، ومارسوا القراءة والكتابة. تمثّلت قمّة هذا الذكاء في شخصيّة الخنزير «ماجور العجوز»، عندما عرض على الحيوانات فكرة الثورة، من خلال خطابه حول بؤس حالها، "يا وحوش إنجلترا". روح الخطاب كانت تتشابه كثيرًا مع «البيان الشيوعيّ»؛ ممّا يجعل ماجور العجوز شخصيّة تكافئ صورة كارل ماركس. لكن على الرغم من ذكائهم الكبير، يوضّح أورويل أنّ الخنازير نادرًا ما تستخدمه لتحسين حالة المزرعة والحيوانات، وتركّز جهودها بالحفاظ على السلطة السياسيّة والسيطرة على الحيوانات الأخرى؛ وهو بذلك يعبّر عن جوهر موقفه تجاه المثقّفين، أو ما يسمّيه في كتابات أخرى «ممثّلي الذكاء اليساريّ»[3][4].

يحتوي الكتاب على شخصيّات مختلفة من الخنازير، لكن في هذه المادّة أودّ التركيز فقط على ثلاثة: سنوبول ونابليون وسكويلر (الصيّاح). تؤدّي الشخصيّات الثلاث دورًا غاية في الأهمّيّة في «مزرعة الحيوانات»، وعمليًّا، تعبّر عن صور مختلفة للمثقّفين في المجتمع والسياسة.

 

مثقّف المُثُل

يجري تصوير شخصيّة سنوبول على أنّها شخصيّة مثقّفة، أيديولوجيّة متحمّسة، مستعدّة للقتال من أجل القيم الّتي تؤمن بها، والتضحية بنفسها من أجل النهوض بالقيم المنشودة. يقرأ سنوبول الكتب الّتي يتمكّن من الحصول عليها، ويقضي ساعات في الدراسة والتخطيط لتصميم طاحونة هوائيّة، من المفترض أن تسهّل عمل الحيوانات وتحسن ظروفها المعيشيّة.

يتولّى سنوبول دور تنظيم اللجان وتأسيس الجمعيّات والمنظّمات لدعم المجتمع الحيوانيّ، ويؤسّس أقسام القراءة والكتابة، ويبذل جهودًا كبيرة لدمج جميع الحيوانات في العمل والحياة الاجتماعيّة. حتّى عندما يجد الدجاج صعوبة في تعلّم قوانين المزرعة وحفظها عن ظهر قلب، يلخّصها سنوبول بقانون واحد بسيط: "ذوات الأربع أخيار، وذوو القدمين أشرار" (ص 32). كلّ هذا مجرّد أمثلة على نشاط سنوبول الدؤوب وحماسته.

فإنّ مثاليّة سنوبول تكلّفه باهظ الثمن؛ إذ إنّ نابليون وكلابه يطاردونه ويطردونه خارج المزرعة، في الثلث الأوّل للكتاب. حتّى قدراته الفكريّة وذكاؤه، لا تنفعه في كفاحه ضدّ سلطويّة نابليون...

على الرغم من الوصف الإيجابيّ الكبير الّذي ظهر في الكتاب لشخصيّة سنوبول، إلّا أنّها لا تخلو من العيوب، حيث يصفه أورويل بأنّه لا يعترض على فوقيّة الخنازير الّتي تبدأ بالتصاعد في المزرعة، بل يتقبّلها في بعض الأحيان. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ مثاليّة سنوبول تكلّفه باهظ الثمن؛ إذ إنّ نابليون وكلابه يطاردونه ويطردونه خارج المزرعة، في الثلث الأوّل للكتاب. حتّى قدراته الفكريّة وذكاؤه، لا تنفعه في كفاحه ضدّ سلطويّة نابليون. وهكذا بواسطة سنوبول، يصف لنا أورويل المثقّف المُثُليّ والعيوب الكامنة في شخصيّته.

 

المثقّف الطاغية

على نقيض ذلك، فإنّ شخصيّة نابليون أكثر حضورًا في الحبكة، وتأثيرها فيها أكبر. مع ظهور الشخصيّة في بداية الكتاب، تنكشف شخصيّةً انتهازيّة وفاسدة، كلّ ما يهمّها استخدام العقل أداةً للارتقاء والتفوّق؛ للصعود تدريجيًّا إلى هرم السلطة وتكديس القوّة ورأس المال السياسيّ. على الرغم من أنّ نابليون كان حاضرًا في جميع الاجتماعات الّتي سبقت الثورة على صاحب المزرعة، إلّا أنّه لم يسهم على الإطلاق في تقدّمها - لم يعبّر عن أيّ موقف على الإطلاق في بداية الكتاب، ولم يسهم في صياغة الأيديولوجيّة الّتي عُبِّر عنها في القوانين السبعة الجديدة للمزرعة. وحتّى أنّ شخصيّته اختفت تمامًا في الحرب ضدّ السيّد جونز، أي خلال الثورة.

النشاط الأوّل الّذي قام به كان إبعاد الجراء عن أمّهم بعد الولادة، وهو ما كُشِفَ عنه لاحقًا في الكتاب، عملًا أنانيًّا وانتهازيًّا بحتًا؛ إذ إنّه درّب الجراء ليكونوا حرّاسه الشخصيّين. بعبارة أخرى، لم يكن التعليم وتربية الجراء هدفه، بل إنشاء جيش خاصّ من الجنود، تمكّن من خلاله من الاستيلاء على المزرعة، وتولّى بعنف النقاشات «الديمقراطيّة» الّتي جرت في البداية بين جميع الحيوانات.

على الرغم من أنّ شخصيّة نابليون تشكّلت في كلّ الكتاب رمزًا لشخصيّة ستالين، كما ذكرنا، إلّا أنّه يضمّ أيضًا مجموعة واسعة من الطغاة السياسيّين والتاريخيّين الآخرين. يشير اسمه، نابليون، بالطبع إلى شخصيّة نابليون بونابرت باعتباره الشخص الّذي خان مبادئ الثورة الفرنسيّة، واستخدم قوّته ونفوذه للوصول إلى السلطة. يشير أورويل في هذا إلى شخصيّة المثقّف القويّ الطاغوت، الّذي يوظّف فكره وطاقته من أجل مراكمة رأس المال السياسيّ والتقدّم الشخصيّ. يكره أورويل شخصيّة المثقّف هذه، ويصوّرها باستمرار شخصيّة طاغية، وفاسدة، وانتهازيّة، ومنافقة، ومتسلّطة.

لكن من المهمّ تأكيد أنّ الطاغوت، مثل ذلك الّذي كان التعبير عنه في شخصيّة نابليون، لا سلطة له دون خدمه وجنوده، المعجبين به والمنفّذين مكائده. وهنا تدخل إلى الصورة تلك الجراء الّتي اختطفها وتأكّد من تثقيفها من أجل أغراضه. أصبحت تلك الجراء جنودًا مخلصين لنابليون، ومن المدهش أنّ نشأتهم تضمّنت دروسًا في القراءة والكتابة، مثل الخنازير. أظهرت الكلاب ذكاءً كبيرًا، و"كانت قادرة إلى حدّ ما على القراءة، وأن تركّز اهتمامها بصفة خاصّة على الوصايا السبع" (ص 31). الكلاب في «مزرعة الحيوانات» تعادل مجازيًّا «المفوّضيّة الشعبيّة للشؤون الداخليّة» (НКВД)، وهي الهيئة المركزيّة للأمن والشرطة في الاتّحاد السوفييتيّ، والهيئة الرئيسيّة الّتي تعاملت مع التجسّس الداخليّ، أي نفس الأشخاص الّذين كانوا المتحدّثين باسم القائد، والّذين تعهّدوا بالتصرّف وفقًا لتعليماته.

 

المثقّف المجنّد

إلى جانب قوّة نابليون الجسديّة وفطنته، الّتي عُبِّر عنها في تحوّل الكلاب إلى خدمته، كان مطلوبًا منه أن يجد نوعًا آخر من القوّة الّتي من شأنها الحفاظ على سلطته، وهي قوّة تشويه وإعادة تصوير وصياغة للواقع والتاريخ، وهو موضوع سيتوسّع فيه أورويل على نطاق واسع في كتابه القادم «1984»[5]. يُتَرْجَم هذا الانشغال بالواقع في «مزرعة الحيوانات» من خلال شخصيّة سكويلر، وهو خنزير ذكيّ للغاية، يمكن تمييز دوره وفهمه من خلال اسمه سكويلر (Squealer)، وهو اسم يأتي من الفعل (to squeal) بمعنى أبلغ عن، أو غرّد ونقل معلومات، وكذلك بمعنى خان. يستخدم سكويلر فكره وفطنته لعرض واقع ما يحدث في المزرعة لصالح نابليون. بعد أيّ قتل أو إعدام في المزرعة، يظهر سكويلر أمام حيوانات المزرعة، ويبرّر القتل ويشرح منطق سياسات حكم نابليون، ويصفها بأنّها إجراءات ضروريّة للحفاظ على النظام العامّ والأمن في المزرعة.

من خلال قدراته الفكريّة ومهاراته الخطابيّة، يعبّر سكويلر عن شخصيّة المثقّف المجنّد، والوسائل المثاليّة للدعاية لاستبداد نابليون، وأيّ قاعدة استبداديّة أخرى...

لكنّه لا يكتفي بذلك، بل يشوّه أيضًا السرد التاريخيّ مرارًا وتكرارًا، لكي يتلاءم مع رواية نظام الحكم النابليونيّ. كلّما واجهت مبرّراته للطاغوت نبرة معيّنة من المقاومة بين حيوانات المزرعة، يقتبس سكويلر إحصاءات ودراسات مغلوطة ليثبت مصداقيّته. مثلًا، عندما تتساءل الحيوانات عن الظلم واللامساواة الصارخة في توزيع الحليب والتفّاح لصالح الخنازير بالطبع، يوضّح سكويلر ما يلي:

"أيّها الرفاق (!Comrades)، حاشا لكم أن تظنّوا أنّ مبعث هذا الإجراء من قبيل الأثرة، فإنّ كثيرًا من الخنازير لا تطيق طعم اللبن والتفّاح، وإنّني شخصيًّا من هذه الزمرة! إلّا أنّنا مضطرّون إلى ذلك اضطرارًا؛ فإنّ الغرض الحقيقيّ وراء هذا القرار هو حفظ حصّتنا معشر الخنازير وفقًا للأصول الطيّبة الّتي تحتّم تقديم مثل هذه الوجبات؛ إبقاءً على طاقتنا الذهنيّة حتّى نتمكّن من مواصلة أعمالنا في التنظيم والإدارة والأعمال المنوطة بنا، الّتي تعتمد عليها المزرعة، فكما ترون أيّها الرفاق: من أجلكم نشرب نحن اللبن ونأكل التفّاح! ألا تعلمون ما الّذي يمكن أن يحدث لكم إذا ما فشلت الخنازير في مهامّها؟" (ص 33-34).

هذا الاقتباس يعبّر عن طريقة سكويلر في تشويه الواقع، وغياب ضميره وولائه المطلق للقائد. من خلال قدراته الفكريّة ومهاراته الخطابيّة، يعبّر سكويلر عن شخصيّة المثقّف المجنّد، والوسائل المثاليّة للدعاية لاستبداد نابليون، وأيّ قاعدة استبداديّة أخرى. تمكّن سكويلر من استخدام ذكائه ومهاراته لتهدئة النفوس، ودحض أيّ اعتراض على نشاط نابليون، وحتّى الاستمرار في تعمية الحيوانات وتقوية ولائها. ربّما تكون المقارنة الأكثر وضوحًا في سياق سكويلر هي جوزيف جوبلز، رئيس وزارة الدعاية والتعليم خلال حكم الرايخ الثالث في ألمانيا. كتابات غوبلز وخطبه العديدة مليئة بالمبرّرات لمعاداة الساميّة، ومحاولات التدريب والتثقيف للسكّان الألمان؛ لتفوّق العرق الآريّ واضطهاد أيّ عرق آخر.

في كتاب أورويل  «1984»، كان التعبير عن فكرة تشويه الواقع، من خلال إعادة صياغة التاريخ والصحافة، حيث يعمل بطل الرواية، وينستون سميث، في «قسم الوثائق» بوزارة الحقيقة، ووظيفته هي إعادة كتابة التاريخ لحزب الأخ الأكبر. يجادل أورويل في كتابه بأنّ "مَنْ يحكم الماضي يحكم المستقبل، ومَنْ يحكم الحاضر يحكم الماضي". كان التعبير عن هذا التصوّر بالفعل في «مزرعة الحيوانات»، حيث يوسّع سكويلر ويقوّي في حججه حكم نابليون على الماضي والحاضر، وبالتالي أيضًا على المستقبل. ويضيف أورويل في مكان آخر في «1984» أنّ "الحرّيّة هي أن نقول إنّ اثنين واثنين آخرين يساوي أربعة". وهذه هي الحرّيّة الّتي لا تحصل عليها حيوانات المزرعة؛ لأنّ الحقيقة تشوّهت على يدي سكويلر في جميع أنحاء الكتاب، ولم يعد اثنان واثنان يساويان أربعة. في المزرعة، اثنان واثنان يساويان خمسة.

 

المثقّف اللامبالي

في «مزرعة الحيوانات»، يصف لنا أورويل مفكّرًا آخر، أهمّ من السابقين؛ لأنّه من الواضح أنّه الشخص الّذي يمثّل أورويل نفسه مثقّفًا، وهو الحمار بنيامين. كان بنيامين، مثل الخنازير، متعلّمًا أيضًا. "كما كانت درجة إجادة بنيامين للقراءة تضارع مقدرة الخنازير، وإن كان عازفًا عن إبراز موهبته في ذلك الشأن، وكان يردّد دائمًا أنّه - على حدّ علمه - لا يجد في الدنيا شيئًا يستحقّ عناء البحث والقراءة" (ص 31)؛ وهذا يعني أنّ بنيامين يصوّر على أنّه شخصيّة ذكيّة وسلبيّة في نفس الوقت. لم يؤمن بنيامين قطّ بالثورة أو بمبادئها، لكنّه لم يعارضها. لقد راقب تسلسل الأحداث، ووقف جانبًا في وقت صعود نابليون الخطير والعنيف إلى السلطة. من بين الشخصيّات الفكريّة في «مزرعة الحيوانات»، تُعَدّ شخصيّة بنيامين من أهمّ الشخصيّات الّتي يجب مناقشتها؛ إذ إنّها ترافق القارئ في جميع أنحاء الكتاب، وتظهر اللامبالاة وعدم الاهتمام بما يحدث حولها.

تتصاعد هذه اللامبالاة، الممزوجة بالسخرية الشديدة، في الفصلين السابع والثامن من الكتاب، عندما تجري محاكمة استعراضيّة يجري فيها ذبح العديد من الحيوانات أمام جميع سكّان المزرعة. عندما تلجأ إليه الحيوانات صراحةً لمساعدتها على قراءة «الوصايا السبع»، "فاعتذر كعهده دائمًا بأنّه لا يحبّ أن يورّط نفسه في ما لا يعنيه" (ص 77)، أي على مرأى المجازر. إنّ اختيار أورويل لترك بنيامين يقول بوضوح وصراحة ما لم يقله العديد من المثقّفين خلال حكم ستالين، يشبه تحديد خصائص المثقّف، كشخصيّة غير مهتمّة بالمشاركة الفعّالة في معارضة العمل السياسيّ العنيف. يبرهن أورويل، من خلال إجابة بنيامين الواضحة، على أنّ هذه ليست مسألة قدرة، بل مسألة إرادة. يبدو هنا أنّ أورويل يقترح أنّ الفكر لا قيمة له إذا لم يسر جنبًا إلى جنب مع الحسّ الأخلاقيّ الأساسيّ، وإذا لم يجلب معه الشجاعة اللازمة لمعارضة السلطة.

 

أورويل الحمار

تُعَدّ سيرة جورج أورويل، الاسم المستعار للكاتب الإنجليزيّ إريك آرثر بلير، الّذي عاش في النصف الأوّل من القرن العشرين، ونشط بشكل أساسيّ في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، حالة اختبار مهمّة لفحص مكانة المثقّفين وعملهم في الأزمات، خاصّة بسبب اختلاف موقفه النقديّ تجاه زملائه. جادل ستيوارت صامويلز بأنّ تَفَرُّد أورويل أنّه وقف في نفس الوقت، داخل مجموعة المثقّفين اليساريّين وخارجها في ثلاثينات القرن

في مقال بعنوان «فقط الحمير تنجو من الطغيان والديكتاتوريّة: هل كان بنيامين يرمز لجورج أورويل في ‘مزرعة الحيوانات‘؟»[7]، يسأل تيم كروك نفس السؤال، ويحاجج أنّ أورويل لا يختلف عن شخصيّة حماره بنيامين.

جرى التعبير عن موقف أورويل النقديّ المزدري تجاه المثقّفين في كتاباته، على سبيل المثال في مقالته عام 1945، «ملاحظات حول القوميّة»[6]، حيث كتب عن استدعاء القوّات الأميركيّة إلى أوروبّا؛ ليس لمحاربة الألمان ولكن لسحق ثورة إنجليزيّة: "على المرء أن ينتمي إلى المثقّفين ليصدّق أشياء من هذا القبيل: لا يمكن أيّ رجل عاديّ أن يكون في مثل هذه الحماقة".

ومع ذلك، وعلى الرغم من انتقاده الواسع للمثقّفين، فإنّ السؤال الّذي يطرح نفسه هو: هل تصرّف أورويل بنفسه بشكل مختلف؟ في مقال بعنوان «فقط الحمير تنجو من الطغيان والديكتاتوريّة: هل كان بنيامين يرمز لجورج أورويل في ‘مزرعة الحيوانات‘؟»[7]، يسأل تيم كروك نفس السؤال، ويحاجج أنّ أورويل لا يختلف عن شخصيّة حماره بنيامين.

يقدّم أورويل بنيامين رمزًا للهزيمة السياسيّة واللامبالاة والسخرية. صرخة بنيامين ودعوته إلى النشاط السياسيّ، تأتي في وقت متأخّر جدًّا: "أيّها المغفّلون... ألا تعلمون ما معنى الكتابة الّتي دُوِّنَتْ على العربة؟ ... ألا تدرون بعد ما يدور حولكم؟ إنّهم يقذفون بوكسر إلى الجزّار!" (ص 103)، وذلك عندما أخذوا صديقه الحصان بوكسر في عربة كُتِبَ عليها "ألبرز سيمونز، جزّار خيول وتاجر غراء... متعهّد جلود وعظام ومورّد غذاء للكلاب". لكن صرخة بنيامين للمقاومة تأتي بعد فوات الأوان. وكما يضيف كروك: "نحن نعرف الكثير عن معتقدات أورويل الاجتماعيّة من سياقات أخرى، لنفترض أنّ بنيامين يتحدّث نيابة عن أورويل".

في «مجموعة رسائل أورويل»[8]، وفي سيرته الذاتيّة[9]، كُشِفَ عن أنّ أصدقاءه المقرّبين أطلقوا عليه اسم «جورج الحمار»؛ بسبب طبيعته القاتمة المتطابقة مع طبيعة بنيامين. لكن من الواضح أنّ هذه المقارنة لا تستند فقط إلى طبيعتهما القاتمة.

استنادًا إلى كتابات أورويل ورؤاه المظلمة، تجاه الثورات في «مزرعة الحيوانات» و«1984»، كان أورويل، مثل بنيامين، متشكّكًا كبيرًا في إمكانيّة التقديم والتغيير نحو الأفضل. يمكن القول إنّ الكتابين، وكتابات أورويليّة أخرى، تسعى إلى التحذير من مخاطر التدهور في المنحدر الزلق، الّذي يمكن أن تؤدّي إليه الثورات، طالما بقي المثقّفون على الهامش، وتجنّبوا التدخّل السياسيّ عند الحاجة الماسّة إليهم.

لكن من المهمّ أيضًا أن نلاحظ أنّ أيّ تدخّل من هذا القبيل ظهر في كتاباته، أدّى في النهاية إلى طريق مسدود، وجرى حشده من أجل النهوض بالحكومة وتعزيزها. وهكذا، استبعد أورويل أيّ احتمال لمقاومة المنحدر الزلق المؤدّي إلى الشموليّة، ولم يقدّم أيّ بديل ممكن. ولا سيّما من المثقّف، الّذي تُعَدّ لغته ومعرفته وثقافته هي أداته. نتوقّع أو نفترض أنّه سيتعيّن عليه استخدام هذه الأدوات عند الضرورة. على المثقّف التدخّل دائمًا، بل واجبه مهنيّ وأخلاقيّ.

وفقًا لأورويل، جرى تحديد مصير المزرعة في اللحظة الّتي اختار فيها بنيامين التزام الصمت، لكن ليس بالضرورة أنّه كان سيتمكّن من إنقاذها لو كان قد تدخّل.

.........

إحالات:

[1] Orwell, G. (1972). The freedom of the press. New York Times Magazine, 8.‏

[2] جميع الاقتباسات من كتاب: أورويل، جورج. (2009). مزرعة الحيوانات، ترجمة شامل أباظة. دار الشروق.

[3] Orwell, G. (1937)The Road to Wigan Pier. London: Victor Gollancz Ltd.

[4] Orwell, G. (1968) The Collected Essays, Journalism and Letters of George Orwell, Volume II: My Country Right or Left 1940-1943.

[5] Orwell, G. (1949). 1984. New York: Signet Classic.

[6] Orwell, G. (October 1945). "Notes on nationalism". Magazine of Philosophy, Psychology, and Aesthetics, Polemic.

[7] Crook, T. (2016). Only Donkeys Survive Tyranny and Dictatorship: Was Benjamin George Orwell’s Alter Ego in Animal Farm?. George Orwell Studies, 1(1), 56-72.‏

[8] Davison, P. (2006). The Lost Orwell: Being a Supplement to The Complete Works of George Orwell. London: Timewell Press.

[9] Crick, B.  (1982). George Orwell: a life.  Harmondsworth: Penguin.

 

 


لؤي وتد

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في "جامعة تل أبيب"، في مجال "أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ"، محرّر موقع "حكايا".

 

 

 

التعليقات